والله لن ألومك إذا كان هذا العنوان قد صدمك فرحت بفكرك لبعيد؟. فأنت تظن أننى كاتب لن تُلام إذا رحت بفكرك وأنت تقرؤه لبعيد. لكن وحياة غلاوتك أنا نفسى بكل ما تحمله من أفكار مسبقة عنى، صدمنى هذا العنوان مثلما صدمك عندما قرأته منشورا بالبنط الحيانى فى صحيفة رصينة مثل الأوبزرفر البريطانية، أحب صحف الدنيا إلى قلبى. «جنس الأفكار»، هكذا كان العنوان الذى اختارته الصحيفة لموضوعها الرئيسى الذى نشرته الصيف الماضى فى صفحات التحقيقات الاستقصائية، قرأته فأعجبنى وتوقعت أن تفرد له صحفنا مساحة لترجمته، وعندما لم تقع عينى على هذه الترجمة فى كل ما تابعته طيلة الأشهر الماضية، قررت أن أنشر ما جاء به بعد أن أحور عنوانه إلى «نكاح الأفكار»، مستخدما التعبير الشرعى الوارد فى القرآن والسنة من باب التهذيب، أو ربما من باب الخوف من لجان تقييم الأداء الإعلامى المنبثقة بضراوة فى هذه الأيام المحتبسة. أعلم أنك ربما لن تشكرنى على تهذبى، بل ستسألنى غاضبا: ولماذا أصلا نستخدم لفظ الجنس أو أيا من مرادفاته عندما نتحدث عن الأفكار؟، ولماذا تتخلى (الأوبزرفر) عن احترامها وتنشر عنوانا مثل هذا نستخدمه فى حياتنا العادية استخدامات غير مهذبة؟. الحقيقة أن الصحيفة البريطانية لم تخترع هذا العنوان من عندها، بل نقلته بالمسطرة من داخل أروقة مؤتمر «TED» العلمى العالمى الذى ترعاه مؤسسة «تى. إى. دى» التى لا تهدف للربح، والذى احتضنته الصيف الماضى فى مدينة أوكسفورد البريطانية التى تحتضن أيضا واحدة من أهم جامعات العالم، المؤتمر يتخصص كل عام فى عرض ومناقشة أجرأ وأغرب الأفكار التى يتبناها مشاركون من جميع أنحاء العالم، ومن هنا جاء وصف الكاتب العلمى مات ريدلى للمؤتمر بأنه ملتقى لجنس الأفكار «عندما تجتمع فكرة بفكرة أخرى، فإنهما تمارسان جنس الأفكار، وعندما تكون الظروف مهيأة تكون ثمرة هذا الجنس أفكارا صغاراً تتبلور ليتولد منها مزيد من الأفكار»، وهو الوصف الذى أعجب الأوبزرفر فتبنته فى تغطيتها للمؤتمر الذى شارك فيه هذا العام ستون متحدثا رئيسيا شرحوا أفكارهم لجمهور لا يتجاوز ال 750 فردا من خلق الله منتقين بعناية من بلاد الله، فضلا عن ملايين يشاهدون مقاطع من المشاركات عبر الإنترنت وتستطيع سيادتك أن تكون منهم إذا بحثت على شبكة الإنترنت عن موقع Ted.com الذى يعد واحدا من أنجح المواقع على الإنترنت فى السنوات الخمس الأخيرة، حيث تم تصفحه أكثر من 300 مليون مرة. كل متحدث شرح فكرته فى 18 دقيقة فقط، لا تسألنى وليه مش عشرين، فهذه فى حد ذاتها فكرة جديدة تفترض أن الفترة المثالية لعرض فكرة جديدة هى 18 دقيقة فقط. وفيما عدا اشتراط مدة عرض الفكرة، لا توجد شروط أخرى سوى أن يقدم المتحدث دليلا على أن فكرته متعلقة بحياة الناس فى العالم. ولا يكتفى المشاركون بالكلام فقط، بل يقومون بالعمل على الفكرة التى طرحوها على المؤتمر عقب انتهائه بعد أن يتلقوا الدعم اللازم لأفكارهم من المهتمين الذين يحضرون المؤتمر. الأوبزرفر استعرضت بعض الأفكار التى تم تقديمها هذا العام، وهى أفكار من نوعية أن هناك طريقة مثلى لإنقاذ البشرية بأكل البشر للحشرات بدلا من الثدييات، وأنه يمكن تطوير جهاز لتحريك الأشياء بإرادة العقل فقط دون تدخل فيزيائى من الإنسان. وأن هناك ذكاء لدى النباتات يماثل ذكاء الحيوانات وأن لدى الحيوانات نفس الانفعالات الشعورية التى لدى الإنسان، ثم قالت إن هذا المؤتمر لم يكن مجرد جنس للأفكار بقدر ما كان عربدة للأفكار. بدليل أن الأفكار لم تقتصر على الأرض، بل شطح بعضها بعيدا إلى الفضاء، مثل الفكرة التى طرحها البروفيسور ديميتار ساسيلوف، أستاذ ورئيس مبادرة أصول الحياة بجامعة هارفارد الأمريكية، الذى أعلن أنه عن طريق استخدام أحد تليسكوبات وكالة ناسا للفضاء ويسمى (كيبيلر) تم اكتشاف مؤخرا 140 كوكبا مشابها لكوكب الأرض يحتمل أن تقام عليها حياة شبيهة بحياتنا (يقصد حياة العالم المتحضر طبعا فحياتنا نحن لا شبيه لها فى أى كوكب كان)، فضلا عن احتمالات قوية لوجود مئات الملايين من الكواكب التى يمكن أن نعيش عليها (طبعا بعد أن تنتهى بلاده أمريكا من تدمير هذا الكوكب بمساعدتنا جميعا). بالمناسبة، لا يشترط أن تكون الأفكار المقدمة فلسفية أو تخيلية، بل يمكن أن يتم تقديم أفكار عملية بسيطة يمكن تطبيقها على الفور، مثل الفكرة التى قدمها هذا العام البروفيسور نايف المطوع، أستاذ علم النفس الإكلينيكى، خبير معالجة ضحايا التعذيب، الذى قام بإبداع سلسلة كارتونية تقدم لأول مرة شخصيات أبطال خارقين مسلمين (على غرار باتمان وسوبر مان وآيرون مان) بهدف تحسين صورة الإسلام لدى الأجيال الجديدة فى الولاياتالمتحدة والغرب، وتحولت الفكرة إلى سيناريو مسلسل تليفزيونى تمت كتابته فى 26 حلقة بعنوان «ال99». ليست هذه هى الفكرة الوحيدة التى وجدت طريقها إلى النور، ففى العام الماضى ارتقى المسرح مخترع بريطانى يدعى مايكل بريتشارد وبيده زجاجة ملأها بمياه ملوثة ومتسخة، ثم قام برجها فتحولت المياه الملوثة إلى مياه شرب نظيفة تتلألأ نقاء بفعل مادة موجودة فى جسم الزجاجة، وقد قيل هذا العام إن الجيش البريطانى تبنى الفكرة، وفى خلال عام كان قد تم وضع واحدة من تلك الزجاجات فى حقيبة كل جندى يخدم فى العراق وأفغانستان. أتركك الآن لأفكارك الحالمة بامتلاك هذه الزجاجة للنجاة من الفشل الكلوى فى أزهى عصور المواسير الملوثة، ونكمل غدا بإذن الله إذا عشنا وكان لنا نشر. [email protected]