أشعر بإشفاق شديد على الشعوب العربية بوجه عام والشعب المصري بوجهٍ خاص. وسبب إشفاقي هو أننا شعب ممنوعٌ من أن يكون له رأي محرومٌ من أن يكون له إرادة مثل باقي الشعوب المتحضرة. إن أحد أسباب تأخرنا هو أن معظمنا لا يعرف معنى أنه "شعب" وأن له صوت وأن له رأي كأفراد قبل أن يكون مجموعة، وقد استسلم الغالبية وقبلوا أن يعيشوا بدون أبسط حقوقهم في التعبير عن آرائهم بحرية وبدون خوف، فكيف يتوقع منهم أن يطالبوا بحقوقهم الأخرى..! قرأت مؤخراً مقالاً عن أمر هام أراه بعيني أثناء إقامتي في أمريكا - وذلك على الرغم من وجود سلبيات ومساوئ عدة في المجتمعات الغربية ولكن لا مجال لذكرها في هذا السياق - أن في أي بلد متحضر يستطيع الفرد أن يسهم مع باقي أفراد وطنه في اختيار من يحكمه وأن يحاسبه بل وأيضاً يغيره عن طريق الانتخاب العادل إن لم يقم بمسؤولياته، فهو يعرف أن هذا حقٌ أصيلٌ له كمواطن حر يعمل ويعيش ويدفع الضرائب لبلده كي تستقيم أمور الحياة للجميع. ويبدأ ذلك من تمتعه بحقه في أن يعبر عن نفسه ورأيه تجاه البلد والحياة بدون خوف وأن يشارك في صنع التغيير والإصلاح إذا لزم الأمر. وأتساءل كيف يمكن للشعب المصري أن يدرك أن له حقوق، وكيف يمكن أن ترد له إرادته بعد أن حرم منها طوال حياته حتى أصبح الأمر الطبيعي هو أن يعيش دون أن يكون له رأي أو دور في إصلاح بلده. وإن كان له رأي فعليه أن يلقيه في سلة المهملات أو في الطريق بجانب القمامة المتراكمة في شوارع البلد، أو أن يكبت تلك الرغبة - التي حُرِّمت اجتماعياً وسياسياً - في أن يبدي رأياً أو أن يفعل شيئاً. فبدايةً من البيت، يتعلم معظم الشباب من الصغر أن يحتفظ برأيه لنفسه خوفاً من أن يزجره الكبير أو أن ينظر إليه بازدراء لأنه تكلم وسط الكبار أو لأنه تجرأ أن يكون له رأي أصلاً. فبدلاً من توجيه الصغير يتم حرمانه من أن يعبر عن نفسه وأن تكون له شخصيته الإيجابية، وفي كثير من الأحيان قد يحرم الشاب من أن يختار الجامعة أو الكلية التي يريد أن يدرس فيها إن لم يكن بسبب نظام التعليم العقيم فبسبب الأب الذي يقرر كل شيءٍ لابنه أو ابنته لأنهم دائماً لا يعرفون. حتى في مسألة اختيار شريك الحياة، قد يحرم الشباب من أن يختار من سيكون أقرب الناس إليه وذلك لنفس الأسباب. لا أنكر أن هناك من أفراد الشعب من نشأ على عادات تربوية أخرى أكثر صحيةً ولكن الأمثلة السلبية كثيرة والكل يعرفها. والسبب الرئيسي في ذلك هو التباس الأمر وعدم تمييز الكثيرين بين احترام قدر الكبير واحترام حرية الفرد في الرأي والتعبير. وتصل المشكلة إلى أوجها عندما تري خوف الشعب جمعاً وأفراداً من المشاركة بإبداء الرأي تجاه الأوضاع المتدنية في البلد أو محاولة تغيرها، وتري يأسه التام من أي محاولة للإصلاح الحقيقي بسبب تحجر آراء القائمين على الأمر وإتباعهم منهج "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".. والمقصود هنا ليس المواطن الذي يجلس على القهوة يشتكي الأوضاع ويسب في الحكومة، بل أقصد الغالبية التي تظن مخطئةً - بل وللأسف، موقنةً - أن رأيها غير مهم وأنه لن يسمح لهم بفعل شيء وأنه ليس هناك أي فائدة من المحاولة. والنتيجة الطبيعية هي أن يصبح معظم الشعب سلبياً محروماً من المشاركة الحقيقية ومن إبداء الرأي في الأمور الصغيرة قبل القضايا الكبيرة التي تمس الجميع، مستسلماً راضياً بأي وضع حوله حتى وإن كان وضعًا بائساً وفاشلاً، ذلك لأنه كان دائماً ممنوعاً من أن يكون جزءًا من الإصلاح، مرغماً على أن يقبل ما يقرر له كما هو دون أن يفتح فمه ليبدي رأياً أو أن يمارس نقداً أو تحليلاً. إن أولي خطوات الإصلاح في مصر أو أي بلد عربي تبدأ من تشجيع الشعب خاصةً الشباب على إبداء آرائهم والتعبير عن أنفسهم بدون خوف، وتوجيهم وتشجيعهم على الاستمرار في المحاولة، والصبر عليهم حتى يصبحوا قادرين على المشاركة الإيجابية والنجاح في إصلاح بلادهم. وإن لم يقم القائمون على الأمر بذلك كما هو من المفترض عليهم فليقم به الشعب نفسه؛ إن مشاركة عامة الناس في إبداء الرأي وإسداء النصح جزء من صميم الدين؛ ففي الحديث أن النبي (ص) قال: {الدين النصيحة}. قلنا: لمن؟ قال: {لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم}. إن تلك الإيجابية الشاملة في هذا الحديث الشريف بإشراك العامة في الأمر خير من تهميشهم وجعلهم مواطنين سلبيين راضين عن تدهور بلادهم. ولا ينبغي أن ننسى أن النصح لابد وأن يكون بالتي هي أحسن حتى لا تكون الفوضى. أما إن لم يقم لا أولو الأمر ولا العامة بذلك فسيبقى الحال في تدهور، فالآية الكريمة تقول: {.. إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم .. }. إن أبسط الأشياء التي يستطيع كل فرد أن يفعلها هو أن يفكر، وأن يكون له رأي في كيفية إصلاح بلده، وأن يقوله دون خوف من سخرية الآخرين منه أو من بطش الأمن به، وأن يثق في قدرته على صنع الفارق، وأن يشارك رأيه مع الآخرين بحرية لعله يلهمهم أن يكون لهم دور في الإصلاح أكبر من دوره هو. فهذا ما يفعله الإنسان في ألمانيا وفرنسا وأمريكا وكل تلك الدول التي نتعجب دائماً من تفوقها وتقدمها، وهو ما يستطيع أن يفعله الانسان المصري في بلده إن أراد أن يكون له رأي و إرادة بإذن الله. ويبقى السؤال الذي يحتاج إلى إجابة؛ هل للشعب إرادة؟ ولن يجيب على هذا السؤال إلا الشعب نفسه إن أراد. يقول أبو قاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلابد أن يستجيب القدر. / محمد منصور http://masryyat.blogspot.com