أتيح لى أن أعرف عن قرب وزير الخارجية السابق أحمد ماهر، وكان لقائى الأول به بعد أن تولى وزارة الخارجية بيومين، وأتيح لى كذلك أن أشارك فى «حوار الأسبوع» بمجلة «المصور» أكثر من مرة مع سلف ماهر فى الخارجية عمرو موسى، وجلسة الحوار مع المسؤول تتيح لك أن تتعرف على أفكاره وثقافته، فضلاً عن شخصيته، خاصة إذا كان الحوار مطولاً ومعمقاً. وبضمير مستريح أقول إننى وجدت الراحل أحمد ماهر أكثر ثقافة وأعمق كثيراً من عمرو موسى، وخبرته أكبر بكثير، وكان كل منهما يمثل السياسة الخارجية للرئيس مبارك، ولم يغير الرئيس سياسته ولا استراتيجيته الخارجية فى عهد ماهر عنها فى عهد موسى.. ومع ذلك لا أحد ينكر أن عمرو موسى حقق شعبية كبيرة جداً وبدا صقراً سياسياً يلهب حماس الرأى العام فى مصر وفى غيرها من البلدان العربية، بينما لم يتمكن أحمد ماهر من تحقيق أى شعبية، ولا أثبت حضوراً فى الشارع المصرى والعربى، ولعلنا نتذكر جميعاً المشهد المزرى الذى تعرض له فى المسجد الأقصى من بعض المتهوسين الفلسطينيين، حين ذهب ليصلى بالأقصى. الفارق بين عمرو موسى وأحمد ماهر يؤكد حقيقته فى الواقع المصرى والعربى، وهى كذلك فى التاريخ، وتتمثل فى أن «الكاريزما» هى الأساس عندنا، فى تقبلنا للأشخاص وللزعامات. والكاريزما تختلف من شخص إلى آخر، ولها طابع خاص بكل شخصية يحملها، فى مختلف المجالات، تأمل زعماء مصر قبل 1952، وحاول أن تقارن بين سعد زغلول وعدلى يكن، لم يكن زغلول أكثر حرصاً على استقلال مصر من عدلى، ولا كان عدلى أقل وعياً وإدراكاً للظروف السياسية من سعد، ولا نبالغ إذا قلنا إن عدلى كان أكثر عمقاً من سعد، وامتلك ميزات لم تكن لدى سعد، لكن سعد امتلك قلوب الجماهير، كان خطيباً مفوهاً، وهناك «كيمياء» خاصة جعلت المصريين يتعلقون به، ويصبح زعيمهم الأكبر.. وليتنا نحاول تأمل رجل مثل د. محمد حسين هيكل ونقارنه باسم مصطفى النحاس، كان هيكل مجدداً ومفكراً بحق، وكان سياسياً قديراً، وامتلك علاقات دولية واسعة، تحققت له منذ أن كان يدرس القانون فى فرنسا، حتى إن «داج همر شولد» أمين عام الأممالمتحدة، كان دفعته فى الدراسة، وهو صاحب الكتب والدراسات المهمة، فى الأدب والفلسفة والإسلاميات، بينما كان النحاس أحد قيادات الوفد زمن سعد زغلول، لكنه بعد ذلك صار «زعيم الأمة» أو «الزعيم الجليل» ارتبط به المصريون وأحبوه، وصار معبراً عنهم، ورغم أن الذين عرفوه قالوا إنه كان رجل «هليهلى».. لم يكن يتردد فى أن يخلع الطربوش فى حضور جلالة «الملك»، وكانت هذه المظاهر من دواعى ارتباط الناس به وتقديرهم له، كانوا يشعرون بأنه يعبر عنهم، بينما لم يحقق د. هيكل شيئاً من ذلك، لم يمتلك حضوراً جماهيرياً، ولا شعر الناس بأنه زعيمهم، رغم كل ما تمتع به من عمق ثقافى وفكرى، وامتلاكه رؤية أكثر حداثة لواقع مصر ومستقبلها. قبل ثورة 1919 نجد فى الحزب الوطنى زعامة مصطفى كامل وزعامة محمد فريد، كان الثانى أكثر بذلاً وتضحية، وكان أكثر عمقاً ومناضلاً بحق، فضلاً عن رؤيته السياسية المتسقة، بينما كان مصطفى كامل خطيباً مفوهاً وأيضاً مناوراً سياسياً ويدخل فى مشاريع سياسية ثم يتبين له خطؤها، مثل ارتباطه بالخديو عباس حلمى ورهانه عليه، وكذلك ارتباطه بفرنسا وتصوره أنها سوف تساعد فى استقلال مصر، لكنه امتلك تأثيراً وسحراً على الجماهير لم يمتلكه محمد فريد، ولذا يوم وفاته خرجوا لوداعه فى جنازة لفتت انتباه المراقبين الأجانب داخل مصر وخارجها. ليس الأمر متعلقاً بشخصيات وزعامات مصر فى مطلع القرن العشرين وقبل 1952 فقط، بل بعدها أيضاً، فلو تتبعنا مسار رجل مثل عبداللطيف البغدادى وقارناه بجمال عبدالناصر، لوجدنا الأول كان أكثر قدرة على الإنجاز العملى وكانت لديه كفاءات عديدة، وربما لو أتيحت له الفرصة لأمكن له أن يجنب مصر كارثة سنة 1967، لكنه لم يمتلك «الكاريزما» التى امتلكها عبدالناصر، كان يكفى ناصر أن يخرج بصوته الآسر ليقول «أيها الإخوة المواطنون» حتى يستمع إليه المصريون والعرب من المحيط إلى الخليج، وتلتهب أكفهم بالتصفيق له، حتى لو كان بعض ما يقوله يمكن أن يجلب عليهم بعض الأخطار ويضعهم فى مآزق عديدة، «الكاريزما» تبدو أكثر فى حالة محمد نجيب وغيره من أعضاء مجلس قيادة الثورة، فقد أوشك التخلص من محمد نجيب أن يضع البلاد على شفا حرب أهلية، بينما التخلص من الآخرين لم يكن يثير أى شىء، كان يكفى الجماهير وجود «الزعيم» وحده، وما يتخذه من قرارات بقبول منهم، بلا نقاش أو حتى تساؤل. وبالتأكيد فإن الكاريزما يلزمها بعض أدوات مما يطلق عليها اليوم «صناعة النجم»، ويجب القول بأن الكاريزما ليست فى السياسة فقط، بل فى الفن والثقافة والأدب والصحافة والألعاب الرياضية، وتفصيل ذلك يطول. وإذا عدنا إلى المجال السياسى فإن بيننا اليوم من يبحثون عن الزعامة ويطلقون شعارات جيدة ويرفعون أفكاراً بعضها لهم، وينتظرون أن تتبعهم الجماهير أو تزحف خلفهم، لكن لا يحدث ذلك، وبودى أن أقول: «أيها السادة، فتشوا عن الكاريزما».