يجيد قواعد اللغة العربية رغم رقى لغتيه الفرنسية والإنجليزية، لا يكره عبدالناصر رغم انتماء أجداده للعصر الملكى، فجدّه لأمه هو «أحمد ماهر باشا»، رئيس وزراء مصر الأسبق، وشقيق جده «على ماهر باشا»، الذى كان رئيس الديوان الملكى عندما تولى الملك فاروق العرش، وهو آخر رئيس وزراءٍ من العهد الملكى عندما جاء به ثوار يوليو 52 رئيسًا للوزراء مشرفًا على عملية التنازل عن العرش والتحول الكبير الذى تغيرت به طبيعة الحياة السياسية ونظام الحكم فى مصر، إنه «أحمد ماهر السيد» وزير الخارجية السابق، وواحد من أبرز أبناء السلك الدبلوماسى المعاصر، والذين يعرفونه عن قرب يدركون ذكاءه الحاد، وقدرته على السخرية، وفهمه الواسع للشؤون الدولية والداخلية فى وقت واحد، ولقد خدم الرجل فى دول كثيرة بدءًا من «الكونغو» وصولاً إلى «الولاياتالمتحدةالأمريكية» مرورًا بفرنسا والبرتغال وبلجيكا، وهو الدبلوماسى الوحيد فى تاريخ الخارجية المصرية الذى عمل سفيرًا فى «موسكو»و«واشنطن» على التوالى، أعرفه منذ سنوات طويلة، وأحب فيه دهاءه الراقى وفطنته الواضحة وملاحظاته الذكية، وعندما عدت من «لندن» أحمل درجة الدكتوراه فى «العلوم السياسية» كان هو مديرًا لمكتبى وزيرى الخارجية والشؤون الخارجية «محمد إبراهيم كامل» و«بطرس بطرس غالى» على التوالى، وفى أول حركة دبلوماسية نقلنى إلى «الخرطوم» بشكل مفاجئ، وكلما عاتبته على هذه الخطوة التى لم أنفذها يضحك ضحتكه المهذبة ويؤكد أن القرار كان قرار الدكتور «بطرس غالى»، رغم أننى كنت أعمل معه فى ذلك الوقت فى إصدار مجموعة الكتب البيضاء التى وثقت لجهود الدبلوماسية المصرية بعد «كامب ديفيد»، إنه «أحمد ماهر السيد» الرجل الثانى الناجح فى سفارتنا بباريس لعدة سنوات، والذى شكل موقعه ذلك نقطة انطلاقٍ له فى سماء الدبلوماسية المصرية، وقد كان اختياره وزيرًا للخارجية مفاجأة كبيرة، لا لأنه لا يستحق المنصب، فهو أهل له بكل المقاييس من حيث الكفاءة والأقدمية والخبرة والتاريخ الوظيفى، ولكن مثار الدهشة هو أن شقيقه الصديق العزيز سفير مصر اللامع فى «باريس» حينذاك «على ماهر السيد» كان هو المرشح الذى تردد اسمه كمرشح لوزارة الخارجية بعد السيد «عمرو موسى» «بكاريزميته» الكبيرة وشهرته الواسعة، ولقد أُصبنا جميعًا يومها بنوعٍ من (الحَوَل) السياسى، واتجهت أبصارنا إلى الوزير «أحمد ماهر السيد» بتاريخه المشرف وأصله العريق، ولقد شاهدته ذات يوم فى برنامجٍ شهيرٍ بمحطة تليفزيونية أجنبية ومع محاورٍ بريطانى عنيد، ولكن «أحمد ماهر السيد» فرض مكانته وأظهر قدراته يومها بشكل غير مسبوق، وبهرنى بشدة مستوى لغته الإنجليزية وهو «الفرنكفونى» القديم، كما استمعت إليه وهو يلقى كلمته أمام الرئيسين «مبارك» و«شيراك» عند افتتاح «الجامعة الفرنسية» بالقاهرة، فهو رئيس مجلس أمناء تلك الجامعة، وبهرتنى مرة ثانية سيطرته على اللغة الفرنسية بشكل فريد، وعندما نقرأ مقالاته حاليًا فى الصحف العربية ندرك أن سيطرة الرجل على اللغات الثلاث «العربية والإنجليزية والفرنسية» هى بنفس الدرجة تقريبًا، ولابد أن أعترف أن الوزير السابق «أحمد ماهر السيد» يتميز بدرجة من العناد الشخصى ولا يستجيب ببساطة للضغوط، فله رأيه المستقل وموقفه الخاص، ولابد أن أعترف هنا أيضًا بأننى قد شعرت بقرب تعيينه وزيرًا للخارجية من خلال مشهد خاص عندما دعانا السفير البريطانى فى «القاهرة» لعشاءٍ على شرف السيد «جمال مبارك» وكنا أربعة مدعوين فقط هم: الدكتور «أسامة الباز»، والراحل الدكتور «أشرف مروان»، والسيد «أحمد ماهر»، وكاتب هذه السطور، ويومها داعبته هامسًا وقلت له إن البريطانيين أصحاب حدس سياسى معروف ودعوتك اليوم ذات مغزى، فقال لى بسخريته المعهودة: وهل كل الموجودين هنا وراء وجودهم تفسير محدد؟! فقلت: نعم إن «أسامة الباز» هو المستشار السياسى الأول لرئيس الدولة، أما «أشرف مروان» فهو رئيس مجلس إدارة الجالية المصرية فى «لندن»، فقال لى السيد «أحمد ماهر»: وأنت؟ فقلت له: إننى رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشعب، واستدرت إليه وقلت له أما أنت فسفيرٌ متقاعد وأمين عام مساعد لجامعة الدول العربية لشؤون الصندوق الأفريقى، ودعوتك اليوم ذات مغزى خارج هذا السياق، ولكنه يومها قلل من شأن تحليلى ولم يمض أسبوعان إلا وكان هو «وزيرًا للخارجية» .. إنه السيد «أحمد ماهر» صاحب الشخصية المتميزة والمهارات المتعددة والخبرات المتراكمة الذى شده فضوله السياسى وشعوره الدينى لاستغلال زيارته لإسرائيل بحكم منصبه وزيرًا للخارجية المصرية حينذاك ليزور المسجد الأقصى سعيًا للصلاة، ولكن كان فى انتظاره مجموعة من المتطرفين الذين لا يقدسون حرمة دور العبادة ولا يحترمون مكانة الضيف الكبير، ولن أختتم حديثى عن هذه الشخصية المتميزة دون الإشارة إلى مكالمتى لسكرتيرة الوزير «أحمد ماهر» غداة تعيينه عندما قلت لها إننى أكرر تهنئتى للوزير وأرجو إبلاغه أننى فى انتظاره «بالبهو الفرعونى» بمبنى البرلمان، ونقلت السكرتيرة الرسالة بلا وعى وبحسن نية بينما استغرق هو فى الضحك لأنه يعرف مغزى رسالتى التى أداعبه فيها بذكرى اغتيال جده «أحمد ماهر باشا» فى «البهو الفرعونى» وهو ينتقل بين مجلسى النواب والشيوخ عندما كان رئيسًا لوزراء مصر فى أربعينيات القرن الماضى!