كنت مع جمع من الأصدقاء انشغل بالهم طوال جلستنا بمذبحة الأشجار التى تمت فى مستشفى العباسية للصحة النفسية منذ أيام وتصاعد فى هواء المكان دخان الغضب والاشمئزاز وعدم الفهم. لكننى حاولت إقناعهم بالتفكير فى الموضوع قليلا ربما ينجحون فى التوصل لمغزى تلك الحادثة ويرون فيها موقفا وطنيا حقيقيا، هذا بالإضافة إلى كشفها عن حس فنى عال. عندما رفعوا حواجبهم بامتعاض قلت إننى فكرت كثيرا فى الأسباب التى تدفع مدير المستشفى للقيام بذبح 145 شجرة معمرة (جازورين وكافور ومانجو) يصل عمر بعضها إلى مائة عام مضت وكانت ستعيش لثلاثة وأربعة قرون قادمة. لا ..لا يصح تصديق الوشاة مروجى إشاعات أن قرار المذبحة جاء بعد أن وقعت إحدى الأشجار الضخمة العام الماضى أثناء عاصفة ترابية. لا يمكن أن يتم جزر هذا العدد الهائل من الأشجار نتيجة شجرة مارقة. ثم إن هناك اختراعا، ربما حديث نسبيا، اسمه تقليم الأشجار. لا يمكن أن تتسبب شجرة فى مقتل كل شجرات العائلة القديمة. قلت يا جماعة الموضوع وراءه أهداف قومية ذات طبيعة فنية. فمن فكر فى قطع الأشجار كان يبنى استعارة مركبة. أولا: من خلال تلك الاستعارة كان يرغب فى تذكير ضميرنا الإنسانى والعربى بمجزرة غزة التى راح ضحيتها الأطفال والنساء والشباب الفلسطينى. راح منهم القتلى وأصبح بعضهم عجزة مدى الحياة بعد أن هوت بلطة إسرائيل بعنف على الأجساد الطاهرة البريئة تفصل الرأس عن الجسد، كأن تلك البلطة تحاول اجتثاث وجود يرفض الموت اسمه فلسطين. أليست استعارة أشجار مستشفى العباسية منطبقة تماما هنا! أعجبت اللعبة إحدى صديقاتى فقالت إن الاستعارة قد تشير أيضا إلى العيادات التى تمارس الإجهاض من حالات السفاح والتى كشفت عنها «المصرى اليوم» الأسبوع الماضى. أليست كل هذه الأجنة ضحايا لمجتمع تخلخلت ثوابته الإنسانية فترك الملايين يعيشون فى العشوائيات فأفرزوا ملايين أخرى عاشت وتعيشت من الشارع بينما لا نسمع صرخات الحكومة العنترية بالويل والثبور وعظائم الأمور إلا بعد الكشف عن كل جريمة تتعلق بأطفال الشوارع! ومن هنا فإن استعارة جزر رقبة الأشجار إنما جاءت لتنعى حال مجتمع أفرزت أمراضه كل تلك الأجنة المجهضة. وتدخل صديق آخر بسؤال عما إذا كان ممكنا أن يكون صاحب الاستعارة من الحنكة الفنية التى تجعله يشير بإصبع الاتهام نحو الانتخابات المصرية التى تغبر وجهها (أكثر مما هو هباب أصلا) بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التى شهدت منافسة سياسية شرسة وشفافة ولم تشهد ضربا للناخبين ولا اعتراضا لطريقهم ولا حفلة الرشاوى الانتخابية المعتادة. رأى صاحب قرار المجزرة مشاهد يتودد فيها السياسيون للشعب ويفوز فيها حزب «الكاديما» على «الليكود» بصوت واحد. إيه الجبروت ده! المهم أنه ساعتها قرر تنكيس رايات الأشجار حزنا على الديمقراطية المصرية المأسوف على شبابها. التفت إلينا صاحب هذا الرأى متسائلا إن كان هذا التفسير خياليا أكثر من اللازم؟ لكننا طمأناه أن أفق تأويل الاستعارة مفتوح. أما آخر مستويات الاستعارة وأعمقها فقد جاء من أكبرنا سنا. قالت إن من فكر فى المذبحة يعرف أن تلك الأشجار رأت وعاشت تاريخ البشر فى هذا المكان للمائة عام الماضية. يعنى هذه الأشجار رأت خيبتنا وشاهدت هزائمنا المتتالية فى الداخل والخارج. رأت مصر منذ خمسين عاما حين كانت الحياة أهدأ وأكثر سلاما ووفرة ولم يكن بعد سيل الدماء قد أغرق وجه الأرض العربية. وكان لا يزال المصريون أحرارا وكانوا أسعد من اليوم. ومن هنا تحتم إزالة الشهود المتبقين على قيد الحياة لهذا الزمن كى ننسى أننا كنا فى يوم ليس ببعيد فى حال أفضل. حينئذ يمكننا التعايش مع الأسوأ. وكنا أثناء الحوار نهمهم إعجابا بالدلالات القوية للاستعارة وقدرتها على فتح باب وشبابيك التأويل على البحرى. تبادلنا التهانى بعيد الحب وعدنا إلى بيتنا مفروسين.