كنت فى الأسابيع الماضية قد خصصت هذه المساحة لمناقشة ما تعرضت له الديمقراطية الأمريكية من قصف منظم فى عهد بوش. فقد ارتأيت أنه من الضرورى إرساء الخلفية اللازمة لمتابعة إدارة أوباما. ففى رأيى، لايجوز تقييم أداء الإدارة الجديدة بشكل مقطوع الصلة عن السياق الذى تتحرك فيه. ذلك لأن تجاهل هذا السياق يدفع بنا للقفز إلى استنتاجات مغالية فى التبسيط والتعميم، أو يؤدى إلى عجزنا عن التقاط رسائل ودلالات مهمة. وأحد الأخطاء التى وقعنا فيها طويلا فى متابعة الشأن الأمريكى هو ذلك التعامل الانتقائى مع مايدور فى الولاياتالمتحدة. فقد دَرَجْنا على أن نركز بشكل شبه كامل على مايتعلق بقضايانا فقط، وبمعزل عن السياق الذى تحدث فيه، بل بشكل مقطوع الصلة تماما بماقبله وما بعده. وقد حدث ذلك بالضبط فى التغطية العربية للزيارة التى قام بها أوباما لوزارة الخارجية الأمريكية بعد أيام من توليه. إذ ركزت تلك التغطية فى أغلبها على ماقاله أوباما هناك بشأن إسرائيل والشرق الأوسط والقضايا العربية. وفى غمرة ذلك الاهتمام بمنطوق ماقاله الرئيس الأمريكى ومرافقوه سقطت منا تماما الدلالات المهمة للزيارة نفسها والرسائل الإيجابية الثلاث التى بعث بها أوباما للأمريكيين والعالم من مقر وزارة الخارجية. فمَنْ تابع أحداث الأسبوع الأول لإدارة أوباما يدرك أن الرئيس الجديد يعى تماما حجم الكارثة التى حلت بالديمقراطية فى بلاده، ويعلم أنه من الصعب استعادة ثقة الأمريكيين والعالم دون إعادة الاعتبار للقيم والأسس الى قامت عليها الديمقراطية الأمريكية داخل أمريكا نفسها. ومن هنا كان القرار التنفيذى الأول الذى اتخذه بعد توليه، يتعلق باستعادة الشفافية فى العمل السياسى بعد سنوات من التعتيم والسرية استخدمت من جانب إدارة اعتبرت نفسها فوق القانون. وكان القرار الثانى متعلقا بجوانتانامو والسجون السرية التى كانت مناهضة للقانون الأمريكى قبل القانون الدولى. وقد تبع ذلك مباشرة زيارة قام بها أوباما ونائبه إلى مقر وزارة الخارجية، وحملت رسائل ثلاثا بالغة الأهمية، أولاها: أن الرئيس الجديد عازم على وضع حد لعَسْكَرة السياسة الخارجية الأمريكية، وإعادة التوازن للعلاقة بين وزارتى الخارجية والدفاع بعد أن وصلت هيمنة وزارة الدفاع على صنع السياسة الخارجية وتنفيذها إلى مستويات غير مسبوقة فى عهد بوش. أما الرسالة الثانية: فكانت بمثابة رد اعتبار لا فقط للدبلوماسية الأمريكية، وإنما للعاملين بالخارجية الأمريكية عموما الذين كان تهميشهم فى عهد بوش قد أدى لانخفاض المعنويات فى أوساطهم إلى مستويات خطيرة. ولأن هيلارى كلينتون شخصية قوية وصاحبة مواقف مستقلة، فقد أراد أوباما أن يبعث برسالة للعالم يحدد فيها بوضوح طبيعة أدوار الفاعلين فى ملفات السياسة الخارجية. فكانت الرسالة الثالثة مؤداها: أن هيلارى تحظى بدعمه ولكنها أحد اللاعبين فى فريق سيضم آخرين، منهم نائبه وبرئاسته شخصيا. بعبارة أخرى، كانت الرسالة أن أوباما شخصيا هو صاحب اليد العليا بشأن صنع السياسة الخارجية الأمريكية وإن كانت هيلارى ومعها وزارة الخارجية تحظيان بدعمه وتأييده. باختصار سقطت منا كل تلك المعانى المهمة حين ركزنا فقط على ماقاله أوباما بشأن الشرق الأوسط وحين تجاهلنا أن الرئيس الجديد يأتى للحكم يحمل ميراثا ثقيلا يسعى لتفكيكه. غابت تلك المعانى حين ركزنا على مايهمنا وتجاهلنا مايهم أوباما نفسه!