عندما كنت أعاون لجنة وضع مشروع الدستور فى دولة قطر منذ عدة سنوات جاء واحد من كبار أساتذة القانون الدستورى فى المملكة المتحدة - بريطانيا - وكان طبيعياً أن يجرى بيننا حوار حول أنظمة الحكم فى العالم، خاصة فى دول المنطقة. وأذكر مما قاله ذلك الأستاذ: إنه فى منطقتكم لا توجد إلا ثلاث دول فيها أنظمة ديمقراطية، هى تركيا وإيران وإسرائيل، ثم أضاف: ومع ذلك فإن الديمقراطية فى إيران ينتقص منها الإقرار بولاية الفقيه مما ينال نيلاً خطيراً من مبدأ سيادة الشعب، وكذلك فإن وجود حق الفيتو للعسكر فى تركيا ينتقص أيضاً من نظامها الديمقراطى، ولكن إسرائيل هى - فى نظره - الدولة الوحيدة فى المنطقة التى يكتمل فيها النظام الديمقراطى. ثم أردف: ولعلك توافقنى على أن الأقطار العربية كلها لا يوجد فيها ما يمكن أن يطلق عليه «نظام ديمقراطى»، ذلك لأن مبادئ النظام الديمقراطى تقوم على مبدأ تداول السلطة، وعلى حرية تكوين الأحزاب وجمعيات المجتمع المدنى وعلى سيادة القانون وتوازن السلطات واستقلال القضاء وأظنها كلها أموراً تغيب عن أنظمة الحكم فى أقطاركم جميعاً. استمعت إلى الرجل جيداً ثم قلت له: قد أوافقك على كثير مما قلت ولكن اسمح لى بأن أختلف معك اختلافاً علمياً شديداً حول كون إسرائيل دولة ديمقراطية. الدولة الديمقراطية تقوم على أسس كثيرة ذكرتها، ولكنها أيضاً تقوم قبل ذلك كله وبعد ذلك كله على مبدأ المواطنة، فى الدولة الديمقراطية المواطنون جميعاً أمام القانون سواء لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الدين أو الأصل أو أى سبب آخر. وهذا المبدأ متخلف تماماً فى دولة إسرائيل. اليهودى فى دولة إسرائيل هو المواطن الذى يتمتع بكل حقوق المواطنة كاملة، أما غير اليهودى فهو مواطن ناقص، هو مواطن لا يتمتع بكل حقوق المواطن. العرب الإسرائيليون الذين عاشوا على أرض فلسطين قبل عام 1948 وبعدها وحتى الآن وقبل أن يفد إلى فلسطين كل سكانها اليهود - لا يتمتعون بنفس الحقوق ولا يتساوون مع اليهود فى الحقوق السياسية وفى كثير من الحقوق الأخرى. وفى التاريخ الحديث لم يشهد العالم إلا مثلين للتمييز العنصرى بين حاملى جنسية الدولة الواحدة: ألمانيا النازية وجنوب أفريقيا، وقد انتهى هذان المثلان منذ وقت بعيد. فى ألمانيا كان المبدأ هو سيادة الجنس الآرى، وفى جنوب أفريقيا كانت القاعدة هى سيادة الرجل الأبيض، وانتهى هذان الشكلان البغيضان من أشكال التمييز العنصرى، وبقيت إسرائيل وحدها تفرق بين من يحملون الجنسية الإسرائيلية على أساس الدين، بل إن معتنقى اليهودية يفرق بينهم على أساس ديانة الأم، فمن وُلد لأم يهودية أفضل من اليهودى الذى انحدر من أب يهودى وأم غير يهودية. وفى بعض مناطق فلسطينالمحتلة توجد أغلبية عربية وسط أقلية يهودية، ولكن هذه الأغلبية لا تتمتع بحقوق المواطنة الكاملة، والويل كل الويل لمن تعاطف منهم مع الفلسطينيين فى الضفة الغربية أو فى قطاع غزة، فإن هؤلاء يعتبرون مارقين ويحق عليهم سوء العقاب، بل إن بعضهم تسقط عنه الجنسية الإسرائيلية. وفى آخر مظاهر الديمقراطية الإسرائيلية، يحرم حزبان كبيران يتكونان من عرب 1948 من أن تدخل قوائمهما الانتخابات العامة للكنيست، مع وجود نواب لهذين الحزبين فى الكنيست الحالى الذى أوشكت مدته على الانتهاء. وتتخذ اللجنة المركزية المشرفة على أمور الانتخابات فى الأسبوع الماضى قراراً بمنع القائمتين اللتين تضمان أعضاء هذين الحزبين وهما «التجمع الوطنى الديمقراطى» وكذلك القائمة العربية الموحدة .. تتخذ اللجنة قراراً بمنع هاتين القائمتين من خوض الانتخابات القادمة لا لشىء إلا لأن الأعضاء من العرب وليسوا من اليهود، وهؤلاء العرب قد يكونون مسلمين أو مسيحيين، ولكن المهم أنهم ليسوا يهوداً ومن ثم فهم يحرمون من خوض الانتخابات ومن عضوية الكنيست، ويتذرع قرار شطب هاتين القائمتين، بأن أصحابهما من الذين يصرحون بمناهضة الفكرة الصهيونية ويطرحون فكرة «دولة كل المواطنين» فى مقابل الدولة العبرية أو الدولة اليهودية، ويطالبون بإلغاء قانون العودة، ويطالبون أيضاً بالاعتراف بالمواطنين العرب أقلية قومية لها حقوق جماعية، كذلك فقد أخذت اللجنة على قائمة «التجمع الوطنى الديمقراطى» أن هذا التجمع لم يستنكر تصرفات زعيمه ومؤسسه عزمى بشارة، الذى يهاجم الصهيونية ويظهر على الفضائيات العربية ويناهض الاحتلال الإسرائيلى للضفة وغزة، وتحيط به شبهات أمنية خطيرة - على حد قول اللجنة المركزية للانتخابات. وقد أظهر الصهيونى المتطرف الوزير «ليبرمان» سعادته بهذا القرار، وقال إنه سيعمل على حظر حزب التجمع - الذى أسسه د. عزمى بشارة - وإلغائه من الخريطة السياسية فى إسرائيل بدعوى أن هذا الحزب فى نظر ذلك الصهيونى المتطرف يمثل ذراعاً سياسية للمنظمات الإرهابية. ووصل الأمر إلى حد التهديد بإسقاط الجنسية الإسرائيلية عن د. عزمى بشارة،وفى تقديرى ليتهم يفعلون وعندنذ فإننى أدعو أن تمنح عشرون دولة عربية مرة واحدة جنسيتها للمفكر المناضل عزمى بشارة. هذه هى «الديمقراطية الإسرائيلية» فى القرن الواحد والعشرين. وهذه هى إسرائيل التى تساندها الولاياتالمتحدةالأمريكية فى كل تصرفاتها، حتى إن كانت هذه التصرفات تشكل جرائم حرب لا يختلف على توصيفها اثنان من فقهاء القانون الجنائى الدولى. ومن يدرى فلعل النهاية تكون غير بعيدة.