ربما لا يختلف اثنان، حتى لو كانا من أشد المؤيدين لسياسات الحكومة والحزب الوطنى، على أن الإدارة السياسية المصرية لأزمة جريمة الاعتداء البشع على غزة سيئة، وأقل من المتوقع والمطلوب، وتعكس خللاً وسوء تقدير بالغين. لكن الإنصاف يقتضى القول أيضاً إن الحملة الشرسة على مصر، التى تبلورت للأسف الشديد، فى هجمات سياسية جارحة، وتظاهرات شعبية «غوغائية»، وتصرفات غير مسؤولة بلغت حد حرق العلم المصرى، ومهاجمة مقار البعثات الدبلوماسية المصرية فى الخارج، افتئاتاً على حرمتها وحصانتها.. كانت غير مبررة ولا مقبولة. لا يترك العدوان الإسرائيلى الآثم على غزة فرصة مناسبة لتشخيص دقيق أو منصف للحدث، فالآلة العسكرية الإسرائيلية الفتاكة تواصل فعلها الهمجى بحق أهلنا العزّل فى فلسطين، تقتل وتشرد رجالاً وشيوخاً، ولا تستثنى الأطفال والنساء، ولا تترك حياً أو جماداً، بشكل يفوق كل طاقة على النظر وإعمال العقل وتحليل الأوضاع تحليلاً عاقلاً أو نزيهاً. وضاع، فيما ضاع، فى ذروة الأزمة المحتدمة وتأثراً بالدماء الغالية المسفوكة لأحبة وأعزاء من أفراد شعب غزة، كل إدراك عاقل لطبيعة الدور المصرى التاريخى حيال قضايا الأمة العربية أولاً، وتجاه القضية الفلسطينية تالياً، كما بات الحديث عن الاعتبارات السياسية ومقتضيات السيادة والخيارات الاستراتيجية والاستحقاقات التكتيكية للدولة المصرية إزاء الأزمة، ترفاً، ليس بمقدرة أحد التحلى به، وربما «تنطعاً» يستوجب المحاسبة والتقريع والذم، وصولاً إلى الاتهام الدامغ ب«الخيانة» و«العمالة»، وفى أفضل الأحوال «العته والبلاهة». فالكلام المكرر ذاته عن مائة ألف شهيد مصرى قضوا فى حروب مصر ضد إسرائيل، ومئات الآلاف من الجرحى والمشردين فى مسلسل اقتتال مرير بدأ مع حرب عام 1948، قبل أن يتوج بالانتصار الكريم فى عام 1973.. لم يعد مجدياً فى ذروة الإحساس بما يسمى «التواطؤ» المصرى مع العدوان الإسرائيلى الهمجى. بدأت الحملة على مصر من طهران، حين تظاهر المئات من الإيرانيين أمام مقر بعثة رعاية المصالح المصرية فى اليوم الثامن من الشهر الماضى، منددين بما اعتبروه «تواطؤاً مصرياً مع العدوان على غزة» قبل أن يبدأ. ثم انتقلت إلى الطرف الآخر فى المحور الإيرانى- السورى، حيث جرت التظاهرات تلك المرة فى العاصمة السورية دمشق، لتمارس الضغط ذاته على الحكومة المصرية. ومع بدء العمليات الإسرائيلية الهمجية ضد الإخوة الفلسطينيين فى غزة، وعقب الخلل الواضح الذى ظهر فى الأداء الدبلوماسى المصرى، خصوصاً خلال لقاء وزير الخارجية أحمد أبوالغيط نظيرته الإسرائيلية تسيبى لفنى فى القاهرة، تدحرجت كرة الثلج سريعاً، لتشهد عواصم عربية عدة التظاهرات ذاتها، والشعارات نفسها، قبل أن تتطور مظاهر الاحتجاج إلى استهداف المقار الدبلوماسية المصرية بأعمال عدائية سافرة وغير مسبوقة. واكتسبت الحملة المزيد من «المشروعية» والزخم، حين تعززت بالطبع بأصوات وطنية وقومية مصرية، رأت أن الإدارة الحكومية للأزمة فاشلة وغير واعية ولا مسؤولة، وتطورت عبر مساندة واضحة من فصائل وحركات مصرية، لديها أجنداتها وأغراضها السياسية المشروعة أو غير المشروعة، وتدثرت بإحساس شعبى فطرى عارم داخل مصر، قادته عواطف إنسانية ووطنية وقومية إلى الدعوة إلى «إجراءات مضادة عنيفة» ضد إسرائيل، وصولاً إلى الاستعداد النبيل ل «شن الحرب» ضد العدو الصهيونى. لكن كثيرين لم يجدوا الوقت ولا الطاقة اللازمين، للوقوف برهة وتحليل المشهد برمته وحساب مواقف الأطراف الفاعلة فى الحملة على مصر وتقدير الخيارات المتاحة أمامها لخدمة الأهل فى غزة وإيقاف العدوان الهمجى بحقهم، وما إذا كانوا وفوا باستحقاقاتهم تجاه الصراع عموماً وأزمته الأخيرة خصوصاً، أم أنهم اكتفوا- كما العادة- بالتعويل على مصر ووضعها موضع «المدان والمتهم والمتقاعس والمتواطئ والخائن لقضايا الأمة». الجميع يعرف أن إيران، رغم الحديث الدائم عن قدراتها العسكرية «الفائقة»، لم تطلق رصاصة واحدة مباشرة على «عدوها الذى أعلنت ضرورة محوه من خريطة المنطقة»، وأنها تعاونت بامتياز مع الحرب الأمريكية على كل من أفغانستان والعراق. وبالضرورة فإن الجميع أيضاً يعلمون أن سوريا لم تنشط المقاومة فى جبهة الجولان المحتلة منذ عام 1973، أما «حزب الله» فقد حدد مطالبه من الدولة اللبنانية فى «المطالبة بأعلى صوت بقمة عربية طارئة»، ومن الشعب اللبنانى فى «الدعوة إلى تظاهرة تأبينية للشهداء». أما الأطراف الأخرى مثل ليبيا والأردن وقطر واليمن وعدد آخر من الدول العربية، فلاشك أن سجلاتها فى مقاربة القضية الفلسطينية، وتعاطى بعضها مع الطرف الإسرائيلى وحليفه الأمريكى، لا تسفر سوى عن طيف يمتد من علاقات التعاهد والتعاون إلى المساومة والإذعان، ولا ينتهى سوى عند المعارضة الشكلية والقتال بالحناجر فى أفضل الأحوال. لم تقم مصر بما كان واجباً عليها إزاء العدوان على غزة، وهى أخطأت مثل الجميع، لكنها ليست أسوأ حالاً منهم ولا أكثر تقاعساً. والحملة على مصر لن تحقق مكاسب سوى لإسرائيل وأطراف إقليمية لديها مطالب وأغراض أقل نزاهة وأكثر براجماتية من تلك التى تسعى مصر لإدراكها.