فكرت طويلاً فى موضوع هذا المقال، فهو مقالى الأخير قبل نهاية عام اتصف عالمياً بالاضطراب الشديد، ولم يحدث به عربياً ما يحفز على التفاؤل حين القيام بجردة الحصاد الختامية. استبعدت إذن كتابة مقال «فى وداع العام» التقليدى وقررت القفز فوق الواقع الردىء بتفاصيله المرهقة، لأدع طاقة التخيل الإيجابى، وهى دوماً جزء من وجداننا كبشر عندما نتدبر فى العام والخاص من الأمور تملأ الأسطر التالية بأحلامها «غير الواقعية» للعالم وللعرب فى العام الجديد. أحلم ببشرية تتوافق فى 2009 وبعد تبلور ملامح الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة فى العام المولى على وضع نهاية لحقبة الرأسمالية المتوحشة المنفلتة فى سعيها نحو الربح من كل وازع إنسانى وقيد مجتمعى وتبحث بجدية عن منظومة بديلة أكثر عدالة فى توزيع الموارد العالمية المتناقصة بين المجتمعات الغنية والفقيرة، فقراء عالمنا اليوم هم تقريباً ربع سكانه (1.4 مليار) وعددهم فى تزايد كل يوم، الأمر الذى ينبئ، إن استمر، بكارثة محققة وبصراعات لا تنتهى. أحلم ببشرية ترفض ظلم أقويائها ضعفاءها وتفعل ضوابط أخلاقية وإنسانية حقيقية لاستخدام القوة فى العلاقات الدولية. لن ينهى رحيل إدارة بوش فى الولاياتالمتحدة، تلقائياً، نزوع القطب الأعظم نحو توظيف آلته العسكرية للتدخل فى ساحات صراع يرى بها تهديداً لمصالحه الحيوية ليعبث هنا ويدمر هناك، كذلك لن تتراجع إسرائيل بإرادتها عن اضطهادها المنظم الشعب الفلسطينى المحتلة أراضيه وعن ضغطها العسكرى وحصارها غزة قتلاً لحركة المقاومة وتجويعاً لأهلها. لن تختفى مثل هذه الممارسات سوى بانتفاض بشرية تنتصر سلمياً للمظلومين وتواجه الظالم فعلاً وقولاً ورمزاً بقوة ضمير جمعى، لم يعد يحتمل مشاهد قتل المدنيين فى أفغانستان والعراق أو صور أطفال غزة الذين يلتهمهم المرض والفقر، ويلتزم فى الوقت ذاته بضوابط أخلاقية وإنسانية عليا برفض العنف. إلا أننى أحلم أيضاً ببشرية ترفض الظلم داخل المجتمع الواحد وتتدخل جماعياً حين الضرورة لإنهائه. فعالمنا فى العديد من أقاليمه يعانى من تسلط حكام مستبدين ونخب فاسدة لا سبيل لإصلاحها تقمع المواطنين باسم الدولة وتحول بينهم وبين الحياة الكريمة وممارسة حقوقهم المدنية والسياسية. إزاحة هؤلاء المستبدين لن تتأتى سوى بانتفاضات شعبية مستدامة عمادها معارضة المواطنين السلمية سعياً لتغيير جذرى يبنى مجتمع الحقوق والدولة المسؤولة ويحيى الأمل فى غد أفضل. أما الحالات القصوى، التى يبدو بها التغيير من الداخل مستحيلاً، فلا مناص من تدخل جماعى تديره أمم متحدة فاعلة ومتوازنة لا تسيطر عليها القوى العظمى بمفردها يذهب بموجابيى هذا العالم ويرحم الشعوب المغلوبة على أمرها من ظلم استحال إبادة جماعية. أحلم بوطن عربى يستعيد عافيته ليواجه التحديات العظام، التى يفرضها شيوع الفقر والظلم والتخلف والتطرف بين ظهرانيه. وطن عربى يرفض سكانه تسلط مستبدى الخارج والداخل بسلمية تنبذ العنف وعقلانية جادة لا تنتشى ببطولات وهمية ولا يستغرقها صباح مساء البحث عن خيالات المخلص المنقذ فى الصغير من الأفعال. وطن عربى يتوازن بقبول التعددية والتسامح مع الآخر الدينى والمذهبى والعرقى على نحو يعيد لنا طاقتنا الإبداعية ويحيى دورنا كمشاركين حقيقيين فى الحضارة البشرية. وطن عربى أحبه وأفخر بانتمائى له. أعزائى القراء، كل عام وأنتم بخير.