تعقيباً على المقالات الستة السابقة، تدفَّق سيلٌ من المقالات والتعليقات المنشورة بالجرائد المصرية والمواقع الإلكترونية. وقد جاء الأغلبُ قادحاً، صادحاً، فادحاً فى دلالته على أننا نحن المصريين، قد تغيَّرنا كثيراً فى العقود الماضية، فلم نعد هذه الجماعة التى ظلت لمئات السنين أنموذجاً للطاعة والوداعة، وللخضوع والخنوع، وللرخاوة والهوان! وإنما صرنا حسبما وصفَنا صلاح عبدالصبور فى (الناس فى بلادى) : جارحون كالصقور.. وحسبما وصفَنا سيد حجاب فى قصيدته العامية التى غنَّاها لنا «على الحجار» فقال فيها إن المصرى فى المظاهرات «يسخن ويشيط» وفى الانتخابات «ينسى التصويت». وقد نعود فى سلسلة قادمة من هذه السُّباعيات المتوالية، للكلام فى «التحولات المصرية والتحوُّرات المصيرية» التى تقلَّبت فيها صورتنا عبر التاريخ. لكننا الآن بصدد مناقشة تلك «الانفعالات» وردود الأفعال الكثيرة، على ما طرحته فى مقالاتى من رؤى ووجهات نظر، وهى لحسن الحظ، انفعالاتٌ جاءت من المسلمين والمسيحيين (معاً) وكان فيها الكثير مما يجب الوقوف عنده بمزيدٍ من الإيضاح. فمن ذلك، ما ذكره بعض «الإخوان المصريين» من أن حديث (الجهاد الأكبر) الذى ذكرته فى المقالة السادسة، هو حديثٌ نبوىٌّ غير صحيح، ولم يرد عند البخارى أو مسلم.. والحق فى ذلك معهم، لكن الإمامين «البخارى ومسلم» لم يجمعا كُلَّ الصِّحَاحِ من الأحاديث. علاوة على أن القاعدة الحديثية الشهيرة تقول إن من الحديث الشريف، ما هو صحيح فى معناه (الدراية) مع ضعف سنده (الرواية).. وقد أوردت الحديث لتبيان الفارق بين «جهادين» يتعين على المسلم بعامة القيام بهما، والأكبر منهما جهاده لنفسه للارتقاء بها. فلا خلاف إذن فى هذا الأمر! ومن ناحية أخرى، فلا خلاف هذه المرة (عموماً) مع رجال الكنيسة، لأن الذىن تولوا الرد على مقالاتى الأخيرة، كلهم من المثقفين المصريين الذين ليسوا فى مناصب كنسية، وليسوا متأسلمين؛ ولذلك جاءت مناقشاتهم أجدى. لولا بعض التعليقات المتشنِّجة، وغير اللائقة التى كتبها «متأقبطون» فى مواقع الإنترنت. لكنه على أىِّ حالٍ أمرٌ هينٌ، ولم يغضبنى لأننى كنت أتوقعه، ولأننى أحبهم حقاً، ولأننى مدركٌ أنهم يتوهمون عدائى للمسيحية (وهو أمر يعلم الله أنه غير صحيح) ولأنهم ينطقون بلسان «التأقبط» الذى ترعرع فى مدارس الأحد، وشجر فى النفوس مع عَنَتِ المتأسلمين (لا المسلمين) مع المسيحيين فى السنوات الأخيرة، التى ازدهر فيها «التشنج» فى بلادنا، وظهر فى مناسباتٍ عدةٍ، لا مجال الآن لذكرها. وبخصوص الأخوة الأفاضل، الذين تولوا الرد على المقالات بمقالات، خاصةً فى صحف ومواقع: الأقباط متحدون، الأقباط الأحرار، المصرى اليوم، اليوم السابع.. وغيرها، وبالأخص، تلك المقالات التى كتبها الأساتذة: لطيف شاكر (خمسة مقالات) وكمال غبريال، ورمزى زقلمة، وياسر يوسف غبريال.. وشخصٌ لطيفٌ، خفيف الظل، اسمه محمد البديوى! ولابد هنا من الإشارة إلى أن سيل الردود والمقالات الغاضبة لم يخلُ من «خفة الدم» التى صار المصريون مشهورين بها. فمن ذلك ما نراه فى مقالة الأستاذ حنا حنا المحامى فى (موقع الأقباط متحدون) حين يقول: «البادى أن د. زيدان استهوته جائزة «البوكر» التى ربحها برواية عزازيل، ففكر أن يربح بمقالات (المصرى اليوم) جائزة الكونكان».. حلوة! أو يقول (بالعامية) د. ياسر يوسف غبريال: «زيدان يدَّعى البطولة وهو عارف اللى جوه الفولة وأفكاره مش معقولة.. يُطلق بُمبة فكرية، هى أن القبطية صناعة عربية إسلامية». وقد كتب المسمَّى (أبو اسكندر) يردُّ علىَّ، فجعل كلامه بعنوان : الدور العدمان لشيخ الدراويش يوسف زيدان! وكتب المسمَّى (غالى): ما تزعلش، كلنا مجهزين شنطنا لشيراتون المرج، بس ياريت يوسعوه حتى يسع ملايين الأقباط.. وعندما حمل المسمَّى (محمد البديوى) على مقالاتى حملةً شنعاء، متشنِّجة، كتب أحدهم معلِّقاً عليه بقوله : يا واد محمد يابديوى، أقصد يا جورج، بطَّل حركات! ■ ■ ■ حسناً.. وبعيداً عن الطرائف اللطيفة السابقة، وبعد هذه الحوارات المصرية (جداً) أقول (جَادّاً) إن أهم ما انتقده الإخوة فى مقالاتى، أننى لم أذكر المصادر التى أعتمد عليها، خاصةً فى نقاطٍ حرجةٍ حاسمةٍ، مثل قولى بأن البطرك (البابا) القبطى (المونوفيزى) تيموثيوس، قتل البطرك الملكانى (الخلقيدونى) بروتيريوس، قتلةً بشعة فى مكان المعمودية بكنيسة الإسكندرية القديمة.. وكثيرٌ من الذين علَّقوا على ذلك، اتهمونى صراحةً بالكذب. ولهم فى ذلك العذرُ، لأنهم لا يعلمون. وعلى كل حال، فسوف أورد فيما يلى ترجمةً لما ورد فى (معجم أكسفورد للكنيسة المسيحية) بصفحة رقم 1360 فى الطبعة الصادرة عن جامعة أكسفورد البريطانية سنة 1957، للباحث الشهير ف.كروس.. وما ورد فى صفحة 252 من المجلد الرابع من (الموسوعة الكاثوليكية الجديدة) تحت عنوان «المسيحية القبطية» للباحث المصرى إسكندروس حبيب إسكندر «مطران أسيوط، المتوفى سنة 1964» وفى كليهما نقرأ ما ترجمته: «بعد مجمع خلقيدونية (سنة 451 ميلادية) رفض الأساقفة الذين اجتمعوا حول البطرك ديسقورُس، الاعتراف بالبطرك الخلقيدونى الملكانى بروتيريوس، وقاموا من بعد وفاة ديسقورُس بانتخاب بطرك آخر من بينهم، هو (تيموثيوس) القط – أو ابن عرس – وهو لقب أطلقه عليه أعداؤه، لضآلة حجمه وقصر قامته. وفى اليوم الذى كان البطرك بروتيريوس يحتفل فيه بشعائر الأسبوع المقدس (أسبوع آلام المسيح) فى الكاتدرائية، بالإسكندرية، هجم تيموثيوس ومعه أتباعه من العوام المتمردين على الكاتدرائية. حتى إن بروتيريوس احتمى بمكان المعمودية المقدس، إلا أن ذلك لم يجده نفعاً! إذ قام تيموثيوس ومن معه، بذبحه (وفى رواية أخرى: بشنقه) على مرأى ومسمع من الناس. ثم جلس تيموثيوس على كرسى بروتيريوس، وأعلن نفسه بطريركاً لمصر، إلا أنه تمَّ حَرْمه (طرده من حظيرة الإيمان) كنسياً، ثم نفيه إلى الأناضول بمرسوم من الإمبراطور ليو الأول، واستُبدل بروتيريوس ببطرك ملكانى آخر، هو تيموثيوس الأبيض (سلوفاسياكوس) وكان ذلك سنة 460 ميلادية».. انتهى النص، مترجماً عن الإنجليزية. وبالمناسبة، فلو كان المجال هنا يسمح، لذكرتُ الآن واقعة مقتل «الجعد بن درهم» على يد الأمير خالد بن عبدالله القسرى (وقد رويتها بالتفصيل فى كتابى: اللاهوت العربى) كى يعرف الذين ينتقدوننى أنهم لا يعرفون، وأن التأسلم والتأقبط واحدٌ، وأن العنف واحدٌ، وسوء المآل واحدٌ، والهمُّ واحدٌ.. فيا ربنا الواحد، ارحمنا من غلبة نفوسنا. ■ ■ ■ وفى مقالة الأستاذ رمزى زقلمة، يقول إنه فكَّر فى أن يحرق مكتبته كلها، حين قرأ مقالى (القبطية صناعة عربية إسلامية) ثم رجع بحمد الله عن قراره، وراح بأدبٍ شديدٍ ينتقد كلامى فى مقالة بديعة.. ولسوف أورد انتقاداته، ثم أرد عليها موضحاً بعض الأمور، بما أضعه بين القوسين! يقول: كيف قتل المقوقس عشرين ألفاً فى ميدان محطة الرمل والميدان لم يكن موجوداً آنذاك (أقول: الميدان كان موجوداً، وقد استخدمتُ الاسم المعاصر ليعرفه الناس. والاسم القديم للميدان هو «بوكاليا» التى تعنى حرفياً: مرعى البقر! والواقعة مذكورة فى المصادر المشهورة، ومنها كتاب تاريخ الآباء البطاركة، لأُسقف الأشمونين ساويرس بن المقفع).. اللغة القبطية قديمة، وتستخدم حتى اليوم فى الكنائس (أقول: لا يوجد لغة اسمها القبطية، وإنما هى اللغة المصرية العامية، وقد تمت كتابتها بالحروف اليونانية، واستخدمها الإكليروس المونوفيزى فى مصر، نكايةً فى البطاركة الملكانيين).. ماذا تسمى مجىء عمرو بن العاص إلى مصر، فتحاً أم غزواً؟ (أقول: الفتح والغزو واحدٌ فى اللغة العربية وعند أهل الإسلام، ولذلك نقول «غزوات النبى»، فإذا استقر الدين بأرضٍ بعد غزوها، صار الغزو يسمى فتحاً).. كان يجب أن تذكر كليماندس، كأحد آباء الكنيسة القبطية المبكرين (أقول: لم يكن كليمان السكندرى «كليماندس» قبطياً، لا بالمعنى العقائدى ولا القومى، وإنما كان مفكراً سكندرياً مسيحياً استفاد من الفلسفة اليونانية، وكتب باللغة اليونانية، فى مدينة الإسكندرية التى كانت آنذاك يونانية الثقافة).. النبى أرسل كتابه إلى المقوقس (أقول: عندى شكوكٌ كثيرة على هذه القصة، وسوف أشير لها فى روايتى القادمة : النبطى).. وأخيراً، يتعجَّب الأستاذ رمزى زقلمة من إشارتى إلى أن «النصرانية» هى تسميةٌ غير دقيقة للمسيحيين. وقد تلقيت رسائل كثيرة من إخوة مسلمين، تعجَّبوا أيضاً من هذه الإشارة. ولتوضيح الأمر لهؤلاء جميعاً، أقول : النصرانية كلمةٌ قرآنيةٌ، وقد استخدمها المسلمون الأوائل فى معرض التفرقة بين (الكنائس) المسيحية فى زمانهم، فقالوا لمسيحيى مصر «الأقباط» ولمسيحيى الشام والعراق «النصارى» ولمسيحيى بيزنطة وأوروبا «الروم».. ولكن حقيقة الأمر فى هذه التسمية ودلالتها، هو ما نراه بوضوح فى الطبعة الثانية من (معجم الحضارات السامية) صفحة 847، حيث نقرأ ما يلى: أُطلق هذا الاسم على المسيحيين الأول نسبة إلى يسوع الناصرى (أى الذى من الناصرة)، ثم أصبح له خلال القرون الميلادية الخمسة الأول استعمالان مختلفان، وكان اليهود يُطلقون اسم الناصرى على يسوع المسيح عينه، واسم النصارى على الذين يؤمنون به. أما المسيحيّون فكانوا يُطلقون هذا الاسم على جماعة من اليهود/ المسيحيين، هم أقل ابتعاداً عن الأرثوذكسية اليهودية من الإبيونيين، إلا أن آباء الكنيسة الأول اعتبروهم من الهراطقة. وكان النصارى يتقيَّدون بتعليمات العهدين القديم والجديد معاً، ويتمسّكون بالختان والمعمودية، ويُقدّسون يومىْ السبت والأحد، ويقيمون الفصح اليهودى والفصح المسيحى، ويكرّمون موسى والمسيح. وكان المعتدلون منهم يؤمنون بولادة المسيح من البتول مريم وبكلمة الله. أما فيما يتعلق بصلب يسوع فإنهم يقولون إن الروح القدس حَلَّ عليه فأصبح المسيح، وفارقه على الصليب فلم يعد مسيحاً، ومات بصفته الإنسانية. ويقول آخرون إن «سمعان» شُبّه بالمسيح وصُلب بدلاً عنه، بينما ارتفع هو حياً إلى الذى أرسله. وكان النصارى يُنكرون ألوهية المسيح وعقيدة الثالوث الأقدس، ويحرِّمون الخمر ولحم الخنزير والتبّنى والصور.. إلخ. ■ ■ ■ وأخيراً، فهناك عشرات الرسائل الاعتراضية المتشنِّجة، راحت تُنكر علىَّ بصخبٍ شديد، أننى مشغول بالتراث المسيحى مع أننى مسلم. وأننى تركت مؤخراً، مجال تخصصى (الفلسفة الإسلامية)، وصرت مشغولاً بما لم يكن يهمُّنى من قبل، وليس يعنينى من قبل ولا من بعد! ولهؤلاء أقول لتوضيح الأمر، إن فهم التراث الإسلامى لا يستقيم دون إمعان النظر فى التراث المسيحى. وإن التراثين متصلان على نحو فعلى، لكن بعض أصحاب (المصالح) حرصوا دوماً على الفصل «الذهنى» بينهما لغايات فى نفوسهم.. وفى حقيقة الحال، فإن انشغالى بهذه القضايا قديم، لكن طَرْحها على الناس على هذا النحو الموسَّع، الموثق، كان يقتضى قضاء سنوات فى البحث والدراسة قبل التعرُّض لمثل هذه الأمور الدقيقة. ويمكن لمن أراد التأكد من أن انشغالى بهذه القضية «قديم» أن ينظر إلى مقالى المنشور بصفحة الثقافة من جريدة «الأهرام» اليومية – أوسع الصحف المصرية انتشاراً- يوم 12/6/1992. وهو المقال الذى كتبته أيام كنت شاباً مهموماً بمصر، فى بداية الثلاثينيات من عمرى، وقد صرتُ اليوم كهلاً، آل عمره إلى خط الزوال! وها هو نص المقال: غروب ُ الذات مع انعدام ثقتى فيما يثار حول حجم «الفتنة الطائفية» فى مصر، وشكوكى القوية حول حقيقة الحوادث الداعية إلى الحديث عن هذه الفتنة.. فإننى أرى أن ثمة مواقف فعلية يمكن أن تقود إلى «الطائفية» بصرف النظر عما إذا كانت هذه «الطائفية» فتنة أو غير فتنة. والمواقف الطائفية الفعلية هذه نراها بكل وضوح فى اللحى الكثيفة ،التى راحت تنمو على وجوه بعض الشباب المصرى المسلم. وفى مقابلها نرى القلق البادى على وجوه المسيحيين، مع كل واقعة يحدثها الملتحون. ومع تمحور كل طرف منهما على ذاته، تصير لدينا (الطائفية)، فإذا حدث صدام بينهما صارت لدينا الفتنة. والآن، لنترك الظواهر الخاصة بالفتنة الطائفية هذه، لنبحث فى أسبابها العميقة من هذا المنظر، الذى وضعناه عنواناً لهذا المقال «غروب الذات» وما الذات هنا إلا الذات المصرية : لا يوجد مجتمع واحد فى العالم إلا وهو يشتمل على تعددية رأسية وأفقية. فالتعددية الرأسية هى تلك الطبقات المتراكمة تاريخياً، طبقات الوعى ومستويات التحضر والدين. وكلما كان المجتمع أكثر عمقاً فى الماضى، كان تعدده الرأسى أكثر كثافة وتراكماً، وكان وعيه المعاصر، بالتالى، أكثر تنوعاً فى مصادره. أما التعددية الأفقية، فالمقصود بها تنوع الجماعات المؤلفة لهذا المجتمع، والتفاوت النسبى فى الثقافة النوعية لتلك الجماعات، ما بين ثقافات الأقليات وسكان المدن وأهل الريف وغير ذلك. وفى بلد كمصر (المحروسة) تمتد خطوط التعدد الرأسى والأفقى على نحو مثير، فرأسياً هى ممتدة فى التاريخ لألوف السنين، ومتراكمة فى وعيها المعاصر طبقات فرعونية ويونانية ورومانية (وقبطية) وعربية إسلامية وأوروبية. والتعددية الأفقية فى مصر تتمثل فى توزيع أفرادها ما بين مسلمين ومسيحيين وهى التعددية الدينية، وما بين أهل المدن وصعايدة الوادى وفلاحى الدلتا وبدو الصحراء، وهى تعددية جغرافية فى الغالب. وما بين عوام ومثقفين، وجهلة ومتعلمين، وأغنياء وفقراء.. هذه التعددية الرأسية والأفقية تمتزج فى النهاية لتشكيل مفهوم «الذات المصرية» وهو مفهوم يرتبط بطبيعة اندماج ما هو رأسى وأفقى، فكلما ازداد الاندماج وانصهرت العناصر وتداخلت، تجلت هذه «الذات» وهيمنت على سلوك الأفراد وتصوراتهم العليا للوجود، وبالتالى تقوى الوحدة القائمة على هذا التعدد. وانصهار العناصر الرأسية والأفقية (أو تمايزها) ينتج من طبيعة الموقف الذى تتخذه الأمة فى كل مرحلة.. فإن كان الموقف حاداً وصارماً، اجتمعت العناصر واحتشدت له، وإن كان موقفاً سطحياً ومتميعاً، انفرط عقد هذه العناصر، وتجوهرت حول محاورها الأصلية.. وهنا تكون ظاهرة اضمحلال الذات وغروبها. ولقد ظهرت ملامح «الذات» وانصهار عناصرها فى المواقف المشهودة كموقف «مقاومة الاستعمار» وموقف حرب أكتوبر.. وغير ذلك. فلما تغيرت الحال، وبدأت عمليات التشتت فى الرؤى والتشتت فى الأرض، أعنى حين صار العدو صديقاً والإخوان أعداء، وحين صار الهم الأول هو الحصول على التأشيرة النفطية، انفرط عقد الذات، وصار الأمر إلى غروبها. وفى لحظة الغروب هذه ينتاب الأفراد الهلع والخوف من ظلمة الليل الآتى، فيهرعون إلى كهوفهم الخاصة فى محاولة للاحتماء.. فيحتمى كل فرد بما هو أقرب إليه من العناصر الأفقية أو الرأسية، ويصير المسلم مسلماً قبل كونه مصرياً، وكذلك المسيحى.. وينعزل البدوى عن الريفى، وكلاهما ينعزل عن المدنى.. وتتسع الهوة بين الجاهل العامى والمتعلم المثقف.. تظهر نعرات الاستقلال والتميز داخل المجتمع، ومعها تظهر محاولات تأكيد «الذات النوعية» على أنقاض «الذات الكلية». ولما كان مفهوم «الآخر» يتحدد بمفهوم «الأنا»، فإن تمحور كل جماعة حول (عنصرها الغالب) يبرز مفهوماً خاصاً بالأنا، وبالتالى يطرح الجماعات غير الشبيهة على أنها هى الآخر.. ثم يبدأ الخطر مع غياب مفهوم (العدو الأول للأمة) ليفسح المجال أمام (عداوة الأخوة)، فنرى العداء الشديد المتبادل بين أجزاء النسيج الاجتماعى، ليس فقط على مستوى الدين، وإنما على المستويات كافة، وهذا ما نلمحه اليوم وهو يتشكل ببطء ليبرز فى النهاية تقابلات عديدة داخل المجتمع المصرى، تقابلات تنذر بمواجهات محتملة. وأخيراً، فنظراً لوجود بعض التماسك فى «الذات المصرية»، فإن الظواهر السابقة لا تزال تطل على استحياء.. أما الخطر الحقيقى، فهو يتمثل فى اشتداد حدة هذه الظواهر مع اكتمال عملية «غروب الذات»، وهو اكتمال لا نتمنى أن نشهده، ولا أن يشهده أولادنا. ولذا، فعلينا جميعاً أن نستبصر واقعنا، ونرتفع فوق اللحظة لنستشرف معاً شروق الذات المصرية الواحدة. .. انتهى المقال المنشور قبل سبعة عشر عاماً! ■ ■ ■ وبالطبع، فهناك نقاطٌ فرعيةٌ كثيرةٌ ذكرها المعقِّبون المتعقِّبون، الهادئون منهم والمتشنِّجون، وهى نقاط غير مهمة ويضيق المقام هنا عن استعراضها جميعاً والرد عليها. خاصةً أنها جاءت معبرةً عن «إعلان المواقف» بأكثر مما تعبِّر عن المناقشة المجدية للرؤى ووجهات النظر، التى طرحتها مقالات هذه (السباعية) التى تنتهى اليوم.. وابتداءً من الأسبوع المقبل، سأبدأ سبعةً من المقالات الجديدة، ولم أقرِّر بعد ماذا سيكون موضوعها. لأننى الآن مترددٌ بين ثلاث قضايا، تستحق كل قضية منها أن تكون موضوعاً للسباعية المقبلة.. هل تكون حول «المسألة اليهودية»، التى تشتبك مع ثقافتنا اشتباكاً عميقاً، بل أعمق مما نظن؟.. أم تكون حول «الرؤية الصوفية للعالم» التى أرى أنها أحد الحلول المهمة للخروج من مأزق النزعة الدينية الأحادية السائدة الآن ببلادنا؟.. أم تكون عن «علم الكلام» الذى هو أصول العقائد الإسلامية. ولعل القراء، عبر تعليقاتهم على موقع (المصرى اليوم) يشيرون علىَّ برأيهم فى القضية الأكثر أهمية، حتى نبدأ فى طرحها هنا ابتداءً من الأسبوع المقبل. والله الموفق.