حين تسألُ فى مصر عن الأنماط الثلاثة للصحف المصرية، تجد أن وعى المواطن المصرىِّ البسيط، ذكىٌّ واصلٌ للحقيقة. يقول لك: الصحفُ القومية تُناصرُ الحزب الحاكم، ويجانبُها الصدقُ كثيرًا. تُصوِّر لك المجتمعَ المصرىّ كأنه سويسرا، والحكومةَ المصرية كأنها ديمقراطيةٌ عادلة شفافةٌ فاعلة. بينما، على النقيض التامّ من ذلك؛ تفعل صحفُ المعارضة العكسَ الحادَّ. ترى الحكومةَ فاشيةً كسولا ولا أمل فيها. تُظلِم الدنيا فى وجه المواطن، وتُغلِق كوّة أى أمل أمام عينيه، فيكتئب ويُهمل عملَه ويوشك أن ينتحر، بعدما يقتل أطفالَه خوفًا عليهم من الجوع والعوز. ثم إنها لا تقدّم حلولاً لهذا الظلام! ويقول ماركس فى هذا: «إن أقصى اليسار، يمينٌ.» فمثلما مجاملةُ النظام وتطويبه، يُعدُّ يمينيةً تُزيد من ترهّل المجتمع وفساده، فإن مهاجمة النظام طوال الوقت، بسبب وبدون سبب، تطرّفٌ بغيض آخر، يرمى بظلاله إلى يمينية أخرى بعيدة، تنطلق من أقصى اليسار لتصبَّ فى خانة بداية اليمين، فتنغلق بهذا الدائرةُ الطباشيرية اللعينة. التى تخنق المواطن والوطن. ذاك أن التَّوقَ المتشوِّف لاعتلاء كرسى الحكم، يُعدُّ يمينيةً أخرى، بنحو أو بآخر. أما الصحف المستقلة، أو الصحف الخاصة، سمِّها ما شئت، فإنها تقفُ على الخيط الدقيق الواعى بين نقيضين متطرفين، كلاهما مُرٌّ. فلا هى تجعل الحياةَ ورديةً، فيتعجب المواطنون من انفصال الكُتّاب عن الواقع، ولا هى تطمسها بلون السواد، فتجعل المواطنين يلعنون يوم أنجبتهم أرضُ مصر، ويتهافتون على فيزا تطير بهم خارجها، ولو غرقًا فى المتوسط، وهم يهتفون: لو لم أكن مصريًّا، ما وددتُ أن أكون مصريًّا! ليس للصحف المستقلة مصالحُ مع النظام فتداهنه، وليس لها مطامعُ فى الحكم فتناهضه. مثلها مثل بعض الفضائيات الخاصة المصرية الوازنة، أجندتها الوحيدةُ: صالحُ الوطن، وتبصير المواطن بحقوقه، وحثّه على التمسّك بها، والضغط الإعلامى لكى ينالها ما أمكن. لذلك سقف الحرية فى تلك الصحف والفضائيات عال، وإن لم يخلُ الأمرُ من بعض المماحكات من قِبل الحكومة. أجندتها هى دفع المواطن للمطالبة بحقه فى غد أفضل. لذلك تجد معظم كتّاب الصحف المستقلة يفتشون عن الجمال وسط القبح، فإن رأوه أشادوا به، وإن لم يجدوه ناهضوا القبحَ حتى يُفرزَ جمالا، وإن نَدُر. ولأننى أنتمى لإحدى أهمّ وأرقى تلك الصحف المستقلة، فمثلما يُغضبنى الفسادُ والترهّل والفوضى والكسل والمحسوبيات وغياب دولة القانون، إلى آخر قائمة الركاكات الطولى، التى تُثقل كاهل مصر الطيبة الصبور، فإن الجمالَ يُبهجنى، وإن قلَّ، فأعضُّ عليه بالنواجذ، وأشير إليه بكلتا يدي، وأهتف، كما الأطفال: هنا شيء جميل، انظروا! فإن قال أُكتافيو باث: «إن على المثقف أن ينتقد الإدارةَ وإن كانت جيدةً»، فإنني، على عكس ذلك، أحب، أيضًا، أن أشيد بالجيد، كيلا يفتُر حماسُ مَن صنعه، ونخسر بذلك أحدَ صنّاع الجمال، وما أحوجنا إليهم! ذاك إن رسالة كل كاتب مصريّ حرّ، هى مصر: الوطن والمواطن. وما اختصامنا حكومات مصر، سوى بدافع من عشقنا هذا البلد، الذى أراه من أرقى بلاد الله، ولمواطنيه، الذين أراهم من أرقى الأعراق، حتى وإن اختصمتُ بعض سلوكاتنا الراهنةَ، التى أؤمن أنها مؤقتة، زائلة بإذن الله، لأنها ليست من صميم تكويننا كمصريين، وما هى إلا ردةُ فعلٍ طبيعيةٌ، وإنسانية، للجوع والمرض والفقر والقهر الذى نسبح فيه جميعًا. أكتب هذا الكلام لأنه بعد نشر مقالى الأسبوعَ الماضى، حول غياب صورة د.محمد البرادعى عن جدارية صور المُكرّمين بالدكتوراه الفخرية من قِبل جامعة القاهرة، حدث شىء طيب. نعم. تحدث أشياءُ طيبةٌ وسطَ ركام الأخطاء التى يعيش مجتمعُنا بين نفاياتها. يحدث أن يخترقَ شعاعٌ نحيلٌ وابلَ الظلام الذى يظلل سماءنا. وهذا ما سأتكلم عنه الأسبوع القادم. [email protected]