سيظل موقفنا من قضية العمل وما يرتبط به من قيم الاجتهاد والأمانة والإخلاص مثيراً للجدل والتأمل. ثمة اعتقاد أن الناس لا تؤدى عملها على النحو المطلوب إذا كانت تفتقد الحافز المادى العادل والمناسب. كان لعبقرى القصة القصيرة العربية يوسف إدريس كتاب صغير الحجم بعنوان »راحة البال«. استوحى فكرته من مشاهداته فى قطار أثناء رحلة قام بها من باريس إلى مدينة مارسيليا فى ثمانينيات القرن الماضى فى فرنسا. يناقش إدريس فى كتابه العلاقة بين مستوى الإنجاز فى العمل وبين ما يحصل عليه الفرد من مقابل مادى. لاحظ إدريس بعينه اللاقطة للتفاصيل سلوك الفتاة الفرنسية عاملة «البوفيه» وهى تلبى طلبات ركاب القطار فى حيوية ونشاط ملحوظين دون كلل أو ملل. وخلال ثلاث ساعات هى زمن رحلة القطار من باريس إلى مرسيليا لم تهدأ الفتاة لحظة عن الحركة. ولم تكفّ عن الابتسام على الرغم من المجهود الكبير الذى تبذله وهى تتعامل مع أصناف شتى من البشر. كان من الواضح أنها تؤدى عملها بشغف واستمتاع. وقبيل انتهاء رحلة القطار أتيح ليوسف إدريس أن يدير حواراً مع الفتاة الفرنسية عرف من خلاله ظروف عملها وما تحصل عليه من دخل مادى مجز وما تتمتع به من نظام ضمان اجتماعى يجعلها آمنة مطمئنة. وخلص إدريس إلى أن مثل هذه الفتاة تؤدى عملها بهذه الدرجة من النشاط والجدية والسعادة لكونها »مرتاحة البال«! تستطيع أن تستأجر منزلا مريحاً وتشترى سيارة ولو بالتقسيط وتلبى كل احتياجاتها الضرورية، فهل يمكن القول انطلاقاً من مفهوم »راحة البال« الذى لاحظه يوسف إدريس أننا لا نعمل بجد وإخلاص إلا حين نحصل على مقابل مالى مرض؟ وهل معنى ذلك أن تواضع إن لم يكن تدنى ما يحصل عليه الشخص من راتب هو الذى يبرر أو بالأقل يفسر غياب قيم الإتقان والأمانة والإخلاص فيما يقوم به من عمل؟ ربما يبدو هذا التفسير مقبولاً لدى البعض. إنها نظرية رائجة لا تعدم لها أنصاراً وأتباعاً. يعبر عنها البعض أحيانا بجملة مستفزة هى »على قد فلوسهم«! لكننا ننسى أن هذا التفسير عدمى وخطير. فلا الراتب الصغير يحول بالضرورة دون التحلى بقيم الجدية والأمانة والإخلاص فى العمل، ولا الراتب الكبير يضمن بالحتم توافر هذه القيم. (2) يلازمنا الانبهار بالشعوب الجادة المتقدمة ولا نكف عن التساؤل فى حيرة مصطنعة: ولماذا نحن أقل جدية وتقدماً؟ تماماً مثلما نتحدث منذ مئات السنين عن حاجتنا لقيم العمل والتقدم فى الوقت الذى تركنا فيه الآخرين يعملون وينجزون! لطالما كان كغيره مسكوناً بالمقارنة بين الشرق والغرب. مقارنة طالما حامت حوله فطاردها محاولاً تفسيرها فينجح مرة ويخفق مرات. الناس من حوله طيبون مسالمون لكنهم يفرون من العمل ويتحايلون على قيوده فى لعبة يومية مثيرة للغيظ لكنها مسلية أحياناً! لا ينسى كيف أن مكتب عميد أكاديمية التخطيط الذى يعمل فيه مثل كل مكاتب الأساتذة يتحول طوال اليوم إلى جلسات سمر وقاعات لاستقبال الأصدقاء، يتخلل ذلك وقت قصير مستقطع كما فى مباريات كرة السلة لأداء العمل! حاول البعض معالجة هذا الواقع الغريب بالمجىء مبكراً ساعة قبل الدوام لإنجاز الأعمال المهمة قبل افتتاح جلسات السمر اليومى! هل يحدث هذا فى أماكن أخرى غير أكاديمية التخطيط؟ ربما! وهل يحدث هذا فى جامعة غربية أو أمريكية؟ المؤكد أنه لا. فى التاسعة صباحاً يذهب إلى عمله الجديد فى إدارة الأوقاف الخيرية. يلمح حسّان الهادئ الوديع خلف مكتبه. يلاحظ أنه منهمك كعادته فى مزاولة ألعاب الكمبيوتر. يسأله متعجباً: هنا أيضاً يا حسّان؟ يرد عليه فى تلقائية وبراءة: لا أجد الوقت فى بيتى لممارسة هذه الألعاب المفضّلة! حسّان شاب ذكى ويحمل شهادة جامعية ويحصل على راتب معقول. لكنه يكره العمل بقدر كراهيته للموت. ويتفنن فى »التزويغ« من عمله. ولا يتوقف عن استغلال مهارته فى إفساد جهاز تسجيل الحضور والانصراف الإلكترونى المثبت إلى جوار مدخل إدارة الأوقاف الخيرية! (3) أخذته الذاكرة إلى زمن بعثته الدراسية فى فرنسا. حدث ذات مرة أن مضت الأيام الأولى من الشهر دون أن يحمل البريد إليه كما العادة شيك المنحة الدراسية المقررة من الملحقية الثقافية. سأل ذات مرة ولماذا لا تحوّل قيمة المنحة مباشرة على الحساب المصرفى للمبعوث؟ قيل له وما الذى يضمن لنا ألا يبقى المبعوث فى الوطن شهوراً طويلة بينما تتكوم منحته الدراسية فى حسابه المصرفى؟ لا أحد يثق بأحد فى هذا المجتمع! اتصل بالملحق الادارى مراراً دون جدوى. فى كل مرة كان يؤكد له أن الشيك فى الطريق إليه. ولمّا انقضى النصف الأول من الشهر اضطر للسفر من المدينة التى يدرس فيها إلى باريس حيث مقر الملحقية الثقافية. نهض الملحق الإدارى لتحيته وقد بدا رجلاً مرحاً خفيف الظل ممتلئ الجسم. سأله عن شيك المنحة الدراسية. سرعان ما أكد له أنه سبق إرساله منذ فترة. تعجّب. مرفق البريد فى فرنسا منضبط ودقيق! كان مكتب الملحق الإدارى فوضوياً مكتظاً بكم هائل من الملفات والأوراق المبعثرة هنا وهناك. لمح أوراقاً أخرى متكوّمة على الأرض يبدو أنها سقطت من سطح المكتب. تعجب أن يكون مكتب الرجل المسؤول عن حسابات ومستندات على هذا القدر من الإهمال والفوضوية. نهض مقترباً من المكتب بينما كان الملحق الإدارى منشغلاً تماماً عبر الهاتف بالحكى وتبادل الدعابات مع أحد الأشخاص. تفادى أن يدهس بقدميه الأوراق الملقاة على الأرض. أثار انتباهه فجأة طرف شيك أخضر اللون برز وسط كومة الرسائل والأوراق. انحنى يلتقط الشيك وقد تملكته المفاجأة تماماً. اكتشف آخر وأغرب ما كان يمكن أن يتوقعه! لمح اسمه مدوناً على الشيك! هذا إذاً هو شيك المنحة الدراسية الذى ظل ينتظره نحو عشرين يوماً ملقياً على الأرض! كان الملحق الإدارى مسترسلاً فى حديثه الهاتفى دون أن يلحظ شيئاً. توقف فجأة واضعاً يده اليسرى على سماعة الهاتف وهو يطمئنه قائلاً: »ولا يهمك نعمل غيره«. حين أبرز للملحق الإدارى الشيك الذى عثر عليه ملقياً على الأرض هتف الملحق الإدارى قائلاً دون أدنى اكتراث وكأن شيئاً لم يحدث: »ابن حلال.. مش قلت لك مافيش شيكات عندنا بتضيع«! (4) ما زالت الأسئلة نفسها تطارده. كان جالساً فى مقهى بي روتى صباح يوم أحد هادئ يتأمل حركة الغادين والرائحين، يراقب ملامحهم محاولاً أن يخمّن ما يكون وراءها من حكايات يومية. أخذ يسائل نفسه: لماذا الناس فى الغرب يمضون فى الشوارع مسرعى الخطى بهمة ونشاط بينما فى بلداننا يمشون فى رتابة بخطوات بطيئة متثاقلة؟ هل يدفعهم المناخ البارد هناك إلى الحركة بينما تغرى الشمس لدينا بالكسل والاسترخاء؟ أى تفسير مضحك! سيظل العرب إذاً فى سكون وخمول متى ظل المناخ هادئاً والأراضى منبسطة والصحراء مترامية! فى كل مرة كان يشاهد فيلماً سينمائياً غربياً كان يساوره الاعتقاد لسبب غير مفهوم أن الرياح تستثير الغضب، والطبيعة الوعرة تحرض على التفكير، والأمطار تلهم الخيال؟ يقولون إن العرب لم يعتمدوا تاريخياً فى حياتهم الاقتصادية على العمل المنتج كالزراعة والصناعة بقدر ما اعتمدوا على أنشطة ريعية كالرعى والتجارة قديماً، والسياحة والنفط حديثاً. يصعب عليه أن يصدق أن العرب كأفراد أقل ذكاء أو مهارة مقارنة بغيرهم فى المجتمعات المتقدمة. وإلا فماذا عن هذه الأعداد الهائلة من العلماء والأطباء والأكاديميين العرب الذين بنوا قصص نجاح مدهشة فى الغرب. لا يكاد يمر أسبوع دون أن يتابع كتابة أو ندوة أو حواراً متلفزاً عن ظاهرة هجرة العقول العربية. فهل هاجر هؤلاء واستقروا فى الغرب لأنهم وجدوا التقدير المادى المناسب؟ أم أنهم هاجروا حيث توجد البيئة المحفزة لإبداعهم وطاقاتهم؟ أم أن للمناخ السياسى فى بلاد العرب دخلاً فى ذلك؟ لعلّه كل هذا معاً. لكن المؤكد أن ثمة خللاً ما فى المنظومة الاجتماعية التى تسود فى بلادنا. خلل يتداخل فيه الثقافى والسياسى والسلوكى وربما النفسى أيضاً. وإلاّ فكيف نفسر أن ذكاء وقدرات هؤلاء تبقى فى بلدانهم طاقة معطلة ومهدرة. بينما يصبح فى بلدان أخرى طاقة منتجة مبدعة؟ كيف؟ (5) قال له يوسف: ألا ترى فى مقولة »على قد فلوسهم« تفسيراً واقعياً لتواضع قيم الجدية والأمانة فى حياتنا؟ رد عليه ساخراً: كلا. إنه تفسير بليد وغير أخلاقى. بادله يوسف السخرية قائلاً: بل غير الأخلاقى ألا نعطى للناس أجراً كريماً! قال متسائلا: ما أعرفه أنه لكى يحصل الناس على أجر كريم عليهم العمل باجتهاد وإخلاص لزيادة الإنتاج. قاطعه يوسف قائلاً: لا تنتظر اجتهاداً وإخلاصاً من شخص لا يفى راتبه باحتياجات الإنسان الأساسية. علّق متسائلا: وهل كان راتب الملحق الإدارى لا يفى بحاجاته الأساسية حتى يضن بالحد الأدنى من الجدية والإخلاص فى عمله؟ قال له يوسف: أولى بك أن تنظر لموظف أوروبى لتعرف أن الطمأنينة المادية هى محفز للإخلاص فى العمل. رد قائلاً: وأولى بنا أيضاً الاتجاه شرقاً لنعرف أن دولاً مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة لم يكن دخل الفرد فيهما حتى عشرين أو ثلاثين عاماً يتجاوز تسعين دولاراً فى الشهر لكن بفضل اجتهادهم وإخلاصهم قفز هذا الدخل الشهرى ليصل فى كوريا الجنوبية إلى ألفى دولار وفى سنغافورة إلى 2700 دولار. سأله يوسف فى ضجر: هلا توقفت عن حديث الأرقام وقلت لى ماذا تريد. ردّ قائلا: ما زلت أؤمن يا صديق أن قيم العمل هى موقف أخلاقى قبل أن تكون أى شىء آخر! [email protected]