فى مؤتمر صحفى لوزيرى الرى والزراعة، وجه الصحفيون اللوم للرجلين بسبب تفاعل الحكومة مع قضية «الرى بالمجارى»، على الرغم من إثارتها قبل سنوات فى بعض الجرائد، فجاء رد الوزيرين «ليست الصحف كلها لها نفس التأثير». بهذه العبارة أوجز الرجلان -ربما دون قصد- كيف توزن الصحف فى معايير النجاح، التى حدد لها شيوخ المهنة أربعة مؤشرات هى: أرقام التوزيع، وحجم الإعلانات، والنقل عن الصحيفة فى وسائل الإعلام الموثقة، وحجم تأثيرها فى دوائر صنع القرار. ونتيجة لهذه المؤشرات، تتبارى الصحف المصرية بنشر أرقام توزيعها، وأرباحها من الإعلانات، وتعتبر ذلك مفخرة تغيظ بها المنافسين، وتعطى لها الحق فى أن تشتق لنفسها شعارات من نوع «الأوسع انتشاراً»، و«صحافة الملايين»، وإذا حدث أن نقلت وسيلة إعلامية بحجم «رويترز» خبراً من إحدى الصحف، تراها تطير لذلك فرحاً، وتفرد المانشيتات للنقل لا للخبر. لكن فى بلد نامٍ مثل مصر، يبقى التحدى هو أن يكون للصحيفة تأثيرها فى دوائر صنع القرار، وأن تتبنى قضية مهمة وتفرضها على أجندة الحكومة، وتدفعها للاستجابة للرأى العام، لا أن تكون «حكومة ودن من طين وأخرى من عجين»، وهكذا تمارس الصحافة سلطتها الرابعة، وتكسب مساحات جديدة من النجاح. من هنا جاءت حملة «الرى بالمجارى» التى كان ل«المصرى اليوم» سبق الكشف عنها، لتضيف إلى الجريدة والصحافة المصرية رصيداً جديداً من التأثير، بعد أن أقرت الحكومة بالأزمة، وراحت تبحث وسائل حلها على وجه السرعة. وحقيقة الأمر أن هذا النجاح يوضح فى جانب منه أن التنافس بين الجرائد لم يعد على الخبر والسبق الصحفى فقط، بل إن واحداً من أهم الفنون الصحفية، وهو التحقيق الاستقصائى، أصبح الآن محل تنافس بين الجرائد، لأنه يكشف الإهمال النائم تحت الأضابير والملفات، والفساد الناتج عن ضعف الرقابة على الأجهزة الحكومية. وفى ترجمة لهذه الصحافة الاستقصائية، التقطت «المصرى اليوم» أول خيط فى القضية، ورصدت تأثير مياه الصرف الصحى الخام على الزراعات فى الصف جنوب حلوان، وعمقت العمل الصحفى باللجوء لخبراء محايدين وتحليل عينات من الزرع والمياه، حتى انتهى جهد شهور من البحث الهادئ تحت السطح، بتحقيق هَزَ كل بيت مصرى، لأنه لم يعد أحد يأمن على طعام أولاده من خضروات المجارى. وبمجرد النشر، توالت البلاغات من المواطنين عن عشرات المناطق الأخرى التى تروى أراضيها الزراعية بمياه الصرف الصحى، وبعد جهد ومناورات مع مسؤولين سعوا لإخفاء الحقيقة، وضعت «المصرى اليوم» فرضية وراحت تختبر صحتها، افترضت أن أغلب محطات الصرف الصحى فى مصر تستقبل كميات أكبر من طاقتها، وتمرر جزءاً من المجارى دون معالجة إلى ترع وقنوات تمر بأراض زراعية، يروى منها الفلاحون آلاف الأفدنة، وتباع الخضر المروية بالمجارى فى مختلف الأسواق فى القاهرة والمدن المصرية، وللأسف الشديد، كانت الفرضية صحيحة، وبدا أن المصريين معذورون فى متاعب الكبد والفشل الكلوى والسرطانات، وأعيتهم العلل وهدّهم المرض. الوجه المضىء فى هذه المأساة هو تصاعد الطلب فى الوسط الصحفى على التحقيقات الاستقصائية التى لم يهتم بها الصحفيون المصريون والعرب بنفس الاهتمام الذى تحظى به فى الغرب، هذه الصحافة التى كشفت عن فضائح «ووتر جيت» و«أبوغريب» و«صفقة اليمامة» وأقالت رؤساء ووزراء غربيين. ويبقى الأمل معلقاً على تجارب وليدة فى العالم العربى، كان آخرها تأسيس مبادرة باسم «إعلاميون عرب من أجل صحافة استقصائية» (أريج)، وهى مؤسسة غير هادفة للربح مقرها الأردن، وتضم صحفيين من مختلف الدول العربية، يجمعهم هدف تعميق صحافة المساءلة، أو الصحافة الاستقصائية. وبفضل تواصل المحترفين فى عالم الصحافة العربية مع مبادرة مثل «أريج»، يمكن أن تخرج إلى النور عشرات التحقيقات الجيدة، مثل التى كشفت فيها «المصرى اليوم» عن جريمة رى المزروعات بالمجارى، وهى -فى اعتقادى- نموذج لما يمكن أن تصل إليه الصحافة الاستقصائية من تأثير فى دوائر صنع القرار، واكتساب ثقة الجمهور. ملاحظة: من بين التعريفات العديدة للصحافة الاستقصائية، يعجبنى تعريف للمدرب والصحفى الإنجليزى المخضرم «نيك جوردون» يقول فيه: «التحقيق الاستقصائى الجيد، هو الذى يفرض عناوين الصحف الأخرى صباح اليوم التالى!!». [email protected]