الأعمال ليست دوما بالنيات. هذا ما شعرت به وأنا أقرأ خبر اتهام منظمتين حقوقيتين لمجمع البحوث الإسلامية بنشر كتب تسىء للإسلام. والخبر يقول إن «المجموعة المتحدة» و«مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف» قد تقدما بأربعة بلاغات للنائب العام لضبط ومصادرة عدد من الكتب «التى تروج للخرافات وتزدرى الدين الإسلامى». وقد أوضح نجاد البرعى رئيس «المجموعة المتحدة» أن سبب اختصام «مجمع البحوث الإسلامية» وتقديم البلاغات للنائب العام هو أن القائمين على المجمع قد تركوا وظيفتهم الأساسية، وهى مراجعة الكتب والمصنفات الإسلامية التى تتعرض للإسلام، وانصب اهتمامهم على مطاردة المبدعين وتحريض المجتمع عليهم ومصادرة الإنتاج الأدبى والفنى بدعوى مخالفة الآداب العامة وأحكام الشريعة الإسلامية. الجهة المقدمة للبلاغات إذن هى مؤسسات حقوقية مهمومة بحرية الفكر والإبداع، والنية الطيبة فى المسألة هى لفت انتباه «مجمع البحوث الإسلامية» التابع للأزهر الشريف إلى ضرورة التركيز فى اختصاصه الأساسى وترك المبدعين فى حالهم. لكن للأسف الشديد تبنت تلك المؤسسات نفس اللهجة التحريضية التى يكتوى بنارها المبدعون والمفكرون واستخدمت نفس سلاح الخصم وهو الهجوم ووضع «مجمع البحوث الإسلامية» فى موقع المدافع عن نفسه. الخطير فى مثل هذه البلاغات، أيا كانت الجهة المبلغة، هى أنها تشير إلى أن أصحابها يعرفون على وجه الدقة ما هو من «صحيح الإسلام» وما هو «مخالف للشريعة الإسلامية». وفكرة امتلاك الحقيقة المطلقة هى منزلق خطر لأنها تكرس للفكر الواحد الذى يرفض بالضرورة أى فكر آخر مخالف له. والسؤال هو: كيف يمكن لأى مجتمع أن يتطور إذا كان كل فريق يمارس تجريم الفرق الأخرى، وما الذى نعلمه لشبابنا إذا كانت الجهات المعنية بالدفاع عن الحرية تهاجم فريقا آخر حتى لو كان هذا الفريق له سوابق فى مطاردة المبدعين وتهديد حرية أفكارهم؟! إن مثل هذه البلاغات «الأمنية» تفترض أن هناك كتبا لا يختلف اثنان على أنها من «صحيح الإسلام» وأن التاريخ الإسلامى على مر القرون لم يفرز أفكارا متعددة ومذاهب فكرية متنوعة ومختلفة، وهذا غير صحيح بالمرة. فالتاريخ الإسلامى حافل بالأفكار والمذاهب ولو عدنا لعصر بعينه لوجدناه يحترم كتبا نجرمها اليوم مثل كتاب «الطبقات الكبرى» للشعرانى (وهو الكتاب الذى ورثه أبى عن جده عالم الأزهر الشريف والذى حرص على أن يدسه فى مكتبتى ويحرضنى على قراءته والاحتفاظ به كدرة من درر الفكر والتصوف الإسلامى والإنسانى). هل يمكن أن نعتبر كتاب الشعرانى خرافات وخزعبلات؟ وهل لو قرأنا أشعار محيى الدين ابن عربى وجلال الدين الرومى بعين تتصيد الخرافة والشعوذة سيصعب علينا تجريم أفكارهما بينما الغرب العلمانى يحتفى بإبداعات المتصوفة المسلمين ويتأثر بها وينسج منها وحولها كتبا وروايات وعوالم رائعة؟! يؤسفنى أن أعلن اعتراضى على خطوة أعتقد أنها خاطئة تماما من قبل منظمات لها باع فى الدفاع عن الحريات. ليس بهذه الطريقة نأخذ للمبدعين حقهم المشروع فى الحرية، فلا يصح للمهمومين بالحرية أن يستخدموا نفس سلاح الاختصام والبلاغات. وأزمة الحرية فى مجتمعاتنا لن تنتهى إلا لو تخلصنا من إرث المطاردة والتكفير وسلطوية الفكر الواحد. سنصبح مجتمعا حرا عندما نربى أطفالنا على الحرية ونفتح أبواب المجتمع ونوافذه للأفكار على أفق الأفكار الرحب كى نمارس حق الاختلاف مصحوبا باحترام الرأى الآخر. لو كان من حقى توجيه النصح ل«المجموعة المتحدة» و«مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف» سأقول إن عليهما أن يضربا مثلا يحتذى به بسحب هذه البلاغات من مكتب النائب العام وإيجاد أساليب خاصة بهم لا تنفى الآخر ولا تجرمه. ستضرب المنظمتان فى هذه الحالة مثلا فى «التسامح» الحقيقى و«مناهضة العنف» الفكرى.