عن أهمية المسافة فى علاقات الناس ببعضهم البعض، سرد د. زكى نجيب محمود فى إحدى مقالاته قصة طريفة عن مجموعة من القنافد اجتمعت فى ليلة شتوية شديدة البرودة لتجد حلاً لذلك، اقترح أحدهم أن يقتربوا بشدة من بعضهم البعض لتدفأ أجسادهم، وعندما فعلوا ذلك شعروا بالدفء لكن فى نفس الوقت تألموا من وخز شوك أجسادهم المتلامسة، فعادوا للابتعاد مرة أخرى، فوخز الشوك كان أقوى من الشعور بالبرد، وعندما ذهب الألم عادوا للتفكير فى كيفية التغلب على البرد من جديد، وهنا اقترح آخر تعديلاً فى الاقتراح الأول وهو أن يقتربوا لينعموا بالدفء لكن بشرط أن يتركوا مسافة قصيرة بينهم حتى لا تنغرس الأشواك فى الأجساد المتقاربة. وهذه القصة بليغة فى تصوير العلاقات الإنسانية، فكلما اقتربنا شعرنا بدفء العلاقة أكثر ولكن حين نمحو المسافات بيننا يبدأ الوخز والألم، فالدفء يتحول إلى لهب حارق يضرنا ولا ينفعنا. أتذكر عبارة بليغة لصديقة عاتبتها مرة على أننى لا أسمع صوتها إلا كل عدة شهور قالت: «لولا المسافات لاحترق الخبز». استوقفتنى العبارة البسيطة والعميقة والمفسرة للكون، فالمسافات بين مكوناته محسوبة بدقة متناهية ولو تغيرت هذه النسب لانفجر الكون وآل للعدم. الحس الشعبى أدرك حسبة المسافات وعبر عنها فى المثل القائل: «إن كبر ابنك خاويه» والمثل يدل على تغير علاقة المسافات، فى البداية العلاقة بينك وبين أولادك تكون علاقة رعاية شاملة ورصد كامل عن قرب شديد، وعندما يكبرون يجب أن تدرك أن الوليد كبر وخرج من دائرة نفوذك إلى دائرة اهتمامك وهى دائرة أوسع وأشمل لكنها مسافة أبعد بينك وبين أولادك. أحياناً، تحتاج الحياة منا، أن نصنع بإرادتنا المسافات، أن نبتعد اختيارياً لنحدد من جديد المسافات الفاصلة بيننا وبين الآخرين، تبعاً لإدراكنا لهذه العلاقات وإحساسنا بها، ونتساءل هل علينا أن نقترب أكثر أو نبتعد أفضل؟ ونجاح العلاقة الزوجية قائمة على فلسفة المسافات، والمرونة فى تطبيقها، وإحساس كل من الشريكين بالآخر واحتياجاته فى كل مرحلة من مراحل حياتهما المشتركة. أحياناً يكون من الواجب أن تمحو المسافة بينك وبين شريكك عند شعورك باحتياجه للمساندة والمؤازرة والدعم، وأحيان أخرى عليك أن تفسح له الطريق وتترك مسافة بينكما، تتيح له حرية يحتاجها واشتياقاً يفيده، على أن يظل فى كل الأوقات فى دائرة اهتمامك ولا تفكر أبداً فى وضعه فى دائرة نفوذك، تملى عليه النصائح مرة والأوامر مرات وكأنه وليدك وليس شريكك. استمرار العلاقات بيننا على مدى سنوات لا يعنى أنها ستستمر للأبد، التدبر والتأمل والمراجعة والمرونة مع الصفح والتسامح تبقيها حية ومتطورة. العلاقات مثل الحياة، متغيرة ومتطورة وتحتاج لرؤية وجهد لإنجاحها. لولا المسافات لاحترق الخبز.. ولولا البعاد ما كان الشوق.. ولولا المستحيل ما كان الممكن.. ولولا غياب الشمس ما ظهر القمر. ابتعدوا فترة لتقتربوا أكثر.