من لم يعظه أسامة الدناصورى فلا واعظ له. قرأت كتابه المعجز «كلبى الهرم كلبى الحبيب» فاتعظت عظة لم أجدها لدى مئات الكتب التى كُتبت لتعظ ضعاف النفوس من أمثالى، وغيرت قراءته حياتى إلى الأبد كما لم تفعل عشرات الكتب التى يقال إنها تغير حياة من يقرؤها، مع أننى لم أكن يوما أعتقد أن حياتى ستتغير على يد شاعر لم أتوقف فى حياته عند شىء يخصه غير اسمه. ربما لما كان أسامة الدناصورى رحمه الله يعلم أن أحدا سيقول كلاما كهذا عن كتابه لما كان قد كتبه، لا أظنه كان مهتما بأن يعظ أحدا مثلى أو يغير حياته للأبد، بقدر ما كان مهتما أن تعطيه الكتابة هدنة مؤقتة من صحبة الألم ومكابدة الشقاء. الكتابة عن الكتب صعبة، فما بالك بالكتابة عن الكتب التى تغير الحياة، لذلك تأخرت طويلا فى الكتابة عن كتاب أسامة الدناصورى والذى أعادت دار ميريت مشكورة نشره ضمن الأعمال الكاملة له، لم أكتب عنه إلا بعد أن تصالحت مع فكرة أننى لن أوفيه حقه أبدا مهما كنت بارعا، كيف يمكن أن يكتب الإنسان بسهولة عن كتاب يجسد ضعف الإنسان ويخلد قوته فى نفس الوقت، كتاب يعلمك أن تقدر كل النعم التى تبدو لك صغيرة أو لا تبدو لك نعما على الإطلاق، كتاب سيعلمك كيف تحب كل تفاصيل الحياة وألا تقع أبدا فى فخ الحلم بصورة كاملة أو مثالية، كتاب يجعلك تبوس يدك وجها وضهرا كلما حاصرتك هموم الدنيا لأنك لست مضطرا رغم كل همومك لمكابدة ألم العملية «روح الغسيل الكلوى»، كتاب يعلمك، وهذا ليس درسا سهلا صدقنى، أن تحب أكثر كلبك قبل أن تصيبه غوائل الدهر بالهرم وتدعو الله ألا يحرمك منه أبدا. لا أريد أن تتصور أبدا بسبب كلامى الذى لا يرقى إلى مستوى كتابة كانت دماء أسامة مدادا لها، أن كتابه مشغول بأن يردد لك ذلك الكلام الذى كنت تعتبره هراء منذ كنت تقرأه على جدران المدرسة وتسمعه فى الإذاعة الصبح وتشاهده الساعة ثمانية بالليل ويحاصرك من كل اتجاه دائما، صحتك بالدنيا، والصحة تاج على رأس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، وربنا يديك الصحة، وفكها يا عم المهم صحتك، وما تعملش فى نفسك كده هيجرا لك حاجة، صحيح أن كتاب أسامة كعرض جانبى سيجعلك تقدر كل هذا الكلام، لكن دون أن يقول لك كلاما مبتذلا كهذا، لأنه يؤمن بأنك حر فى إفساد حياتك وتدمير صحتك كما تشاء، كما أنك لست محتاجا لكى تؤمن بهذا الكلام لقراءة كتاب، بقدر ما أنت محتاج لنزلة برد قذرة. أجمل ما فى الفن ما لا يقوله الفن صراحة، وأجمل ما فى كتاب أسامة الدناصورى أنه جاء شهادة حية على موات عصر مبارك دون أن يقول ذلك بالمفتشر، مواضع كثيرة من الكتاب تحتاج منك إلى أن تكون قويا بما يكفى لمواجهة العفن الذى نعيشه وهو يتجسد أمامك مكثفا كأبشع ما يكون. تقول لنفسك دون تجنى: إذا كانت مصر قد عاشت أيام عبدالناصر عصر الأحلام الكبيرة والخيبات الأكبر، وعاشت فى أيام السادات عصر المصالح الصغيرة، فقد عاشت مع مبارك وسنينه عصر الفشل الكلوى بامتياز، الفشل الكلوى فى كل المجالات. استمع وتألم إلى هذا الحوار الذى يرويه أسامة داخل وحدة غسيل كلوى بين اثنين من الذين داس عليهم هذا العصر. «إيه رأيك فى الشغل فى القصر العينى بعد غياب السنين دى؟.. اسكت دى حاجة لا تسر عدو ولا حبيب. إزاى؟. منتهى الإهمال دى حتى وحدة الملك فهد اللى كانوا بيضربوا بيها المثل بقت زبالة، دى العيانين يا بنى هى اللى بتقفّل لنفسها ومن كام يوم أبو واحدة صاحبتى مات عالمكنة. ألا إيه اللى ممكن يحصل عشان واحد يموت عالمكنة. أكيد دخّله هوا أو جاله هبوط حاد ومحدش لحقه». لم يكن أسامة الدناصورى خلال حياته القصيرة بحاجة إلى المزيد من المعاناة، ولذلك كان يتبنى نظرية أسماها القلقسة لتسهيل حياته فى جحيم الآخرين، القلقسة كما يصفها أسامة هى «جعل الرأس كالقلقسة الصماء التى لا تعى شيئا ولا تهتم بشىء تعلمت أن أقلقس معظم الحوارات التى تدور بينى وبين الآخرين حتى تسير الحياة بنعومة كما تسير». والمشكلة أن أسامة الذى رحل بنعومة لم يأخذ باله أنه ليس صاحب هذه النظرية ولا يرجع له فضل ابتكارها، فقد رحل دون أن تسمع مصر بألمه ودون أن تسمع ألم أحد من أبنائها، لأنها من فرط الألم الذى كابدته كل هذه السنين وجدت أن الألم سيكون أخف عندما تقلقس لأبنائها. ألف رحمة ونور يا أسامة. ألف رحمة ونور. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]