وجدت نفسى.. باكياً فى مدينة برمنجهام بإنجلترا، التى شهدتنى فى سنوات الشباب ضاحكاً مع زملائى أبطال جيل السبعينيات للإسكواش فى زيارات وبطولات كثيرة. وبرغم أن قطار الزمن أبعد المسافة بينى وبين زميلى أحمد صفوت ومحمد عسران لاحترافهما الإسكواش بإنجلترا فإنهما سارعا بالسؤال عنى عندما اشتدت ضربات قلبى فأودعته فى أيدى أطباء إنجلترا، وأصرت على زيارة محمد عسران في موقعه، واتفقنا على مكان اللقاء فى محطة القطار الرئيسية بمدينة برمنجهام حيث تطلب الأمر منى تغيير ثلاثة قطارات من مدينة «هلّ» بالشمال للوصول إليه بعد غياب سنوات انقضت من العمر تتعدى 25 عاماً وأخذتنى الفرحة والاشتياق لمقابلة صديق وبطل عالمى زاملته فى جولاتنا حول العالم واستعدت ذكريات محمد عسران، وأنا أنظر من شباك القطار فى طريقى إليه. لقد كان لاعباً موهوباً بكل المقاييس خفيف الظل داخل الملعب وخارجه، لقد وصل إلى نهائيات عديد من البطولات الدولية والعالمية، وأهمها نهائي بطولة إنجلترا فى نادى لانس داون الشهير بالأثرياء فى حى الماى فير بوسط لندن، وكانت ضرباته القوية للكرة عنوان تواجده فى الملعب فى مصر وخارجها، حيث يهب الأصدقاء من مبنى الليدو بنادى الجزيرة لمتابعة تدريبى ومبارياتى معه، لقد فاز مصور إنجليزى بجائزة لالتقاطه صورة نادرة له، فى نهائى بطولة إنجلترا ضد جوجى علاء الدين الباكستانى، وفخذاه الاثتان ملاصقتان للأرض أثناء المباراة وكان عنوان الصورة فى الصحف «عسران لاعب الإكروبات» وانطلق يكسب بطولة نيوزيلاندا المفتوحة، وفى اليونان لعبت ضده فى نهائى البطولة التى حضرها المرحوم حسن كامل سفير مصر فى اليونان فى ذلك الوقت، وسجلت وقتها أطول مباراة فى التاريخ. كان عسران صديقاً لكل لاعبى العالم وهزم عمالقة اللعبة جونبارو نجنتون وجيف هانت وكانوا يجدو معه خفة الظل وسرعة البديهة والضحك طول الوقت، وكان له حضور فى جميع الأندية العالمية التى زرناها، وقد رشحته للعمل معى فى ألمانيا وزاد رزقى ورزقه كثيراً، ولم تغب عند ذهنى لحظة توهجه عندما أسقط يمامة من على الشجرة بكرة الإسكواش أمام ملاعب الإسكواش بنادى هليوبوليس فى مهارة فريدة، وكان لمبارياتنا دور كبير فى حمل الرسالة إلى جيل جمال عوض من بعدنا. نزلت من القطار مشتاقاً لرؤية هذا الصديق، وأطلقت نظرى فى جميع الاتجاهات باحثاً عنه فلم أجده ولم يلفت نظرى رجل أسمر عجوز يجلس على السلم وبيده عصاه وشعره كثيف أبيض، وعلامات الشيخوخة تحتل كل أجزاء وجهه وجسده، وانطلقت أبحث أين صديقى، حيث فوجئت بهذا الرجل ينادينى باسم الشهرة، يا هول المفاجأة إنه محمد عسران، وبكيت عندما تأكدت وقلت فى نفسى أيها الزمن الغدار ماذا فعلت بصديقى وكان كتلة متوهجة من الفن والمرونة واللياقة واللباقة والحب والجدعنة، لقد استدار الزمن لهذا الرجل الذى رفع اسم مصر ولم يكلفها جنيهاً واحداً، وهاجر إلى إنجلترا وهجرته زوجته المصرية التى بهرتها حقوق الزوجة الإنجليزية ليجد نفسه وحيداً. كيف تحول هذا البطل إلى شخصية رياضية عالمية مرموقة رغم تعليمه المتواضع ونشأته الفقيرة فى إحدى «عزب» عين شمس، إنه شخصية قدوة لأولاد الفقراء لإعطائهم الأمل فى النجاح والتألق. وتوقعت كرم ضيافته فقمت باختيار المطعم لتناول الغذاء وقلت احكى لى يا عسران عن أحوالك. لقد داهمه المرض فى معدته سنوات، ويتلقى الرعاية الفائقة ولم ينسه الشعب الإنجليزى ومجلس المدينة فأعطوه مسكناً بحديقة ليقيم بها مجاناً وأرادوا الاستفادة من تاريخه فأسندوا إليه مهمة تعليم الطلبة الاهتمام بالرياضة والبعد عن المخدرات، لقد أثرى عسران الإسكواش بإنجلترا فلم ينسه المجتمع وأعطوه كل المساعدة والتأييد إنه الولاء. وعندما أردت دفع الحساب بادرنى بالبكاء «صعبت عليه نفسه»، وقال لى: ليه كده.. أنا كويس يا جلال وأنت ضيفى فشكرت ذكائى لاختيارى هذا المطعم حتى لا أثقل عليه وداعبته قائلاً لقد أبكيتنى يا عسران فى بداية اللقاء وأنا أبكيتك فى نهاية اللقاء يبقى أنا كسبتك زى زمان فى الإسكواش وافترقنا ضاحكين.. رغم غدر الزمن.