محافظ القليوبية ومفتي الديار المصرية يفتتحان فعاليات الملتقى البيئي الثاني للتنمية المستدامة    جامعة مصر للمعلوماتية تتعاون مع شركة اديبون لتدريب طلبة الهندسة بإسبانيا    المياه أغرقت الشوارع.. كسر في خط مياه رئيسي بالدقهلية    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    شعبة المصدرين: أوروبا تتجه للاعتماد على مصر في تلبية احتياجاتها الغذائية والصناعية بسبب توتر الأوضاع الدولية    الهلال الأحمر الفلسطينى يثمن جهود مصر فى دعم غزة منذ بداية العدوان    الطب البيطري بسوهاج يتفقد مجزر البلينا للتأكد من سلامة وجودة اللحوم المذبوحة    كسر فى خط مياه بمدينة المنصورة يغرق الشوارع وفصل الكهرباء عن المنطقة.. صور    حلمي عبد الباقي وسعد الصغير وطارق عبد الحليم في انتخابات التجديد النصفى لمجلس عضوية نقابة الموسيقيين    أكرم القصاص: جهود مصر لإغاثة غزة تواجه حملة تشويه رغم نجاحاتها الدولية    هيئة الإسعاف: نقل 30368 طفلا مبتسرا بشكل آمن النصف الأول من العام الحالي    رئيس هيئة الرقابة الصحية يستقبل ممثلى "منظمة دعم أداء النظم الصحية والابتكار    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات في باكستان إلى 281 قتيلًا    وسائل إعلام فلسطينية: مقتل 20 شخصا من طالبي المساعدات في قطاع غزة منذ فجر اليوم    اليوم.. مصر تحتفل ب "عيد الرياضة" لأول مرة    «يا عم حرام عليك».. شوبير يدافع عن محمد صلاح بعد زيارة المعبد البوذي    حقيقة مفاوضات النصر مع كوكوريلا    بمشاركة وزير السياحة.. البابا تواضروس يفتتح معرض لوجوس للمؤسسات الخدمية والثقافية    وزير العمل يشيد بإنشاء 38 محكمة عمالية ومكاتب قانونية مجانية    «الداخلية»: ضبط 27 قضية مخدرات في حملات أمنية على أسوان ودمياط وأسيوط    بالفيديو.. الأرصاد تكشف موعد انكسار موجة الطقس الحارة    حبس 3 أشخاص في واقعة العثور علي جثه طفل داخل شرفه عقار بالإسكندرية    البورصة المصرية تربح 3.2 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    «أحط فلوسي في البنك ولا لأ؟».. الفوائد تشعل الجدل بين حلال وحرام والأزهر يحسم    واجب وطني.. محافظ بورسعيد يناشد المواطنين المشاركة بانتخابات مجلس الشيوخ    رئيس الوزراء الفلسطيني: نطالب وفود مؤتمر حل الدولتين بمزيد من الضغط الدولي    وزير الصحة: إصدار 28 ألف قرار علاج على نفقة الدولة ل مرضى «التصلب المتعدد» سنويًا    في هذا الموعد.. «راغب ونانسي» يحييان حفلًا غنائيًا ضخمًا في لبنان    انطلاق تصوير فيلم «ريد فلاج» بطولة أحمد حاتم    ليلة استثنائية مع الهضبة في العلمين والتذاكر متاحة على 5 فئات    تدريبات خاصة ل"فتوح والجفالي" بفرمان من مدرب الزمالك    معلومات الوزراء يستعرض أبرز التقارير الدولية حول سوق المعادن الحرجة    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية    موسوي: إسرائيل كشفت عن وجهها الوحشي بانتهاكها كافة الأعراف الدولية    6 مشروبات تناولها قبل النوم لإنقاص الوزن بسرعة    تجديد الشراكة العلمية بين مصر والصين في مجال مكافحة الأمراض المتوطنة    أوقاف الفيوم تنظم ندوة حول "قضية الغُرم" بالتعاون مع مؤسسة مصر الخير    رئيس الوزراء: الحرف اليدوية أولوية وطنية.. واستراتيجية جديدة لتحقيق طفرة حتى 2030    «التضامن» توافق على إشهار جمعيتين في محافظة البحيرة    نتنياهو يقترح خطة عمل جديدة لغزة.. ماذا تتضمن؟    مقتل 16 شخصا وإصابة 35 في غارات روسية جنوب شرق أوكرانيا    نقيب المهندسين ل طلاب الثانوية العامة: احذروا من الالتحاق بمعاهد غير معتمدة.. لن نقيد خريجيها    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    القبض على رمضان صبحى فى مطار القاهرة أثناء العودة من تركيا    سميرة صدقي: والدي قام بتربيتي كأنني رجل.. وجلست في مراكز عرفية لحل المشاكل (فيديو)    "بقميص الزمالك".. 15 صورة لرقص شيكابالا في حفل زفاف شقيقته    «هيدوس على النادي ويخلع زي وسام».. نجم الزمالك السابق ينصح بعدم التعاقد مع حامد حمدان    يوسف معاطي: سعاد حسني لم تمت موتة عادية.. وهنيدي أخف دم كوميديان    رئيس الإسماعيلي يعلق على أزمات النادي المتكررة    الاَن.. الحدود الدنيا وأماكن معامل التنسيق الإلكتروني للمرحلة الأولى 2025 في جميع المحافظات    ياسر الشهراني يعود إلى القادسية بعد نهاية رحلته مع الهلال    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    5 أبراج «معاهم مفاتيح النجاح».. موهوبون تُفتح لهم الأبواب ويصعدون بثبات نحو القمة    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طارق حجى يكتب: رحلة صعود الإسلام المحارب وانزواء البدائل

منذ قرنه الأول عرف الإسلام مجموعات متطرفة بل بالغة التطرف بمحاذاة تيار عام متوسط وبعيد عن العنف والتطرف وأحادية النظرة والتمسك بالملكية المطلقة للحقيقة. فمنذ سنة 660 ميلادية (منتصف القرن الهجرى الأول) برزت فرقة الخوارج التى اتسمت بالغلو الشديد فى التمسك بفهمها للإسلام وتكفير أى مسلم يحيد عن فهمها هذا.
وفى العقود والقرون التالية ظل الإسلام يعرف تياراً عاماً وسطياً (معتدلاً بمعيار الفترة الزمنية) وتيارات جانبية بالغة التطرف والعنف والتمسك بأن كل من يحيد عن فهمها للأمور يعد مارقاً وكافراً.
وقد أعطى صديقى العلامة الكبير الأستاذ الدكتور محمود إسماعيل عبدالرزاق حياته العلمية وجهده العقلى الفذ لدراسة هذه المجموعات المتشددة التى أطلق عليها تسمية «الحركات السرية فى الإسلام» وكتب عن فرقها بحوثاً بالغة العمق وخص مجموعة منها بدراسة معمقة وهى القرامطة الذين قاموا بخطف الحجر الأسود وأخذوه لموقع بعيد فى شرق الجزيرة العربية لأكثر من قرن من الزمان.
وإلى جانب التيارات أو المجموعات أو الفرق التى كانت تغالى فى التطرف والحرفية وإيجاد قواعد تفصيلية لكل أمور الحياة، كان هناك التيار العام الذى يمكن تلخيصه فى المذاهب السُنية الرئيسية (وأهمها مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعى ومذهب أحمد بن حنبل ومذاهب أخرى اندثرت مثل مذهب الليثى ومذهب الطبرى)، وكذلك عدد من المذاهب الشيعية (وأشهرها الإمامية أى أولئك الذين ينتسبون أو يرجعون إلى اثنى عشر إماماً أولهم على بن أبى طالب وآخرهم الإمام الذى اختفى ويعتقد الشيعة الإمامية أنه غائب وسيعود).
وداخل التيار العام كان هناك من يفسح مجالاً للعقل (الرأى) مثل أبى حنيفة الذى لم يقبل من الأحاديث النبوية إلا أكثر قليلاً من مائتى حديث وهو ما يفسح المجال للرأى - وفى المقابل كان هناك مذهب أحمد بن حنبل الذى يضم كتابه (المسند) أكثر من عشرة آلاف حديث، وهو ما لم يترك شيئاً دون تنظيم وهو أيضاً ما يجعل النقل هو السائد، والعقل هو الغائب أو شبه الغائب.
ولتيار أحمد بن حنبل ينتمى فقيهان آخران هما ابن تيمية وابن قيم الجوزية وهما مثل أحمد بن حنبل لا يتركون مساحة تذكر للعقل والرأى وإنما لديهم أحاديث مقبولة تنظم شتى جوانب الدين والدنيا بكل تفاصيلها. ويضاف لذلك أن العقل الإسلامى واجه ما يشبه المعركة بين أبى حامد الغزالى الذى لا يؤمن بأن العقل قادر على إدراك الحقائق،
وبين ابن رشد الذى كان تلميذاً وفياً للمعلم الأول «أرسطو طاليس» فى إعطاء العقل مقامه السامى، وهو ما يتضح من دقائق معركته الفكرية مع أبى حامد الغزالى التى بدأها أبوحامد الغزالى بكتابه (تهافت الفلاسفة) ورد عليه فى زمن لاحق ابن رشد بكتابه الرائع (تهافت الفلاسفة) ورد عليه فى زمن لاحق ابن رشد بكتابه الرائع (تهافت التهافت).
والخلاصة أنه فى عالم الفقه (وهو عمل بشرى محض) فقد كان التوسع للمدارس التى تحبذ قبول آلاف الأحاديث عن إعمال الرأى، وبمحاذاة ذلك ففى عالم الفكر (علم الكلام بلغة العرب فى ذلك الزمان والفلسفة بلغة العصر) فقد كانت أيضاً الغلبة لمدارس النقل والحدس (الغزالى) وقلة أثر مدرسة العقل (ابن رشد)،
وإن كان الأوروبيون بوجه عام والفرنسيون بوجه خاص هم الذين استفادوا من طروحات ابن رشد، والتى حاضرت منذ أسابيع فى سويسرا عن أشد طروحاته عقلانية وأعنى نظريته التى تذهب إلى أن الله خلق الكون وبنفس القدر نواميس (قوانين) حركته، وأن العقل يحتم أن يؤمن الإنسان بأن تلك النواميس دقيقة لدرجة تسمح بالقول بعدم تدخل الله فى مسار ومجريات الحياة، لأنه ليس فقط خالق الحياة، بل أيضاً خالق نواميس وقوانين سريانها التى تحكم مسارها.
وكنتيجة لتلك الصورة العامة فقد عرف المسلمون نمطين لفهم الإسلام هما: نمط متشدد شديد الغلو فى التحريم والتجريم والتنظيم، ولم يكن هذا النمط موجوداً إلا فى الفرق السرية (وهى قليلة فى عددها وأثرها) وفى المناطق البدوية (التى أجاد ابن خلدون وصفها ووصف سيولوجيتها فى مقدمته وتاريخه) بالجزيرة العربية.
أما الأماكن الأكثر ازدهاراً عقلياً وذات الجذور الحضارية العريقة مثل مصر والعراق وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع فقد ساد فيها فهم للإسلام يتسم بدرجة أرحب من المرونة والتسامح وقبول الآخر وعدم تكفير أصحاب الرؤى المختلفة.
وهكذا فإنه يمكن القول إنه حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادى كان هناك فهمان للإسلام: فهم متطرف متشدد يكثر التحريم والتجريم والتنظيم ووضع القواعد التفصيلية لكل أمور الدين والدنيا.. وهو الفهم الصحراوى البدوى الذى ساد فى مجتمعات كثبان الرمال بجزيرة العرب.
أما الفهم الثانى المتسم بالتسامح والمرونة والقبول النسبى للآخر وعدم وضع قواعد تنظيمية تفصيلية لكل أمور الدين والدنيا فهو ما أسميه الفهم المصرى - التركى - السورى للإسلام، الذى شاع وذاع فى معظم المجتمعات الإسلامية خارج كثبان رمال الجزيرة العربية.
كان ذلك هو وضع عالم المسلمين حتى ولد بصحراء نجد فى سنة 1703 محمد بن عبدالوهاب وهو الرجل الذى صارت الأمور فى نجد على هواه بعد ذلك، فحدث فى عام 1744 حلف بينه (وعائلته) وبين محمد بن سعود حاكم الدرعية (وأهله أيضاً) وهو الحلف الذى يقوم على أن يحكم آل سعود وفق فتاوى آل الشيخ (محمد بن عبدالوهاب وعائلته أى الوهابيين).
وهو الحلف الذى أدى لما يمكن أن نسميه الدولة السعودية الأولى التى سيطرت منذ سنة 1804 على ما يقرب من مليون ميل مربع فى الجزيرة العربية حتى استأصل شأفتها وسحقها إبراهيم باشا ابن محمد على باشا الكبير فى سنة 1819 وهو عام تدمير الدريعية عاصمة الدولة السعودية الأولى.
ويمكن القول إن قرار محمد على باشا الكبير إرسال ابنه طوسون لتدمير الدولة السعودية الأولى ثم عهده بهذه المهمة لابنه إبراهيم باشا المعروف بكفاءته الحربية الهائلة هو قرار له دلالة بالغة الأهمية: إذ يمكن القول إن الفهم المصرى - التركى - السورى للإسلام قرر أن يذهب إلى الفهم الإسلامى الوهابى بالغ التطرف والتعصب والتشدد فى معقله لتدميره - هو قرار ثقافى وحضارى، قبل أن يكون قراراً سياسياً أو عسكرياً.
إن محمد على الذى كان مولعاً بالنهضة الأوروبية كان لا يرى أى تعارض بين آليات النهضة الأوروبية وكونه مسلماً، لما أنه كان يرى التعارض (كل التعارض) بين الفهم الصحراوى الوهابى للإسلام وحدوث النهضة التى كان عقله وفكره منشغلاً بها منذ تولى حكم مصر سنة 1805 (وحتى تنازله عن الحكم سنة 1848 لابنه إبراهيم باشا).
المهم: عاد السعوديون بشكل مستتر للتأثير فى الحياة السياسية فى شرق الجزيرة العربية بعد سنوات مما فعله بهم إبراهيم باشا (إذ ألقى القبض على كبيرهم وأرسل به إلى مصر ومن مصر إلى أسطنبول حيث لقى حتفه). عاد السعوديون (خفية) لممارسة شؤون السياسة مقاسمة مع الرشيد (السعوديون فى الرياض والرشيد فى حائل) حتى اصطدم الفريقان (آل سعود والرشيد) وانهزم السعوديون بزعامة عبدالرحمن والد الملك عبدالعزيز مؤسس العهد السعودى الثالث بعد ذلك - وكانت هزيمة السعوديين فى سنة 1891،
ورحل الأمير المهزوم (عبدالرحمن) بأقطاب البيت السعودى إلى الكويت حيث كانوا فى ضيافة الشيخ مبارك الصباح الذى لعب دوراً كبيراً فى توجيه الشاب الصغير (عبدالعزيز) بن عبدالرحمن آل سعود - وكان عبدالعزيز قد ولد سنة 1876 واختمرت فكرة العودة للرياض فى ذهنه بتأثير من عوامل عديدة من بينها جلساته مع كبير الكويت الشيخ مبارك الصباح، وإن كان الصبى (عبدالعزيز) لم يحفظ الجميل للشيخ الذى آواه وعائلته، فقد كان عبدالعزيز دائم الحلم بضم الكويت لمناطق ملكه ونفوذه،
وهو ما حقق بعضه بالاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضى الكويتية، وإن كان قد حيل بينه وبين تحقيق حلمه بالاستيلاء الكلى على الكويت، ويشكر (من وجهة النظر السعودية) سير بيرسى كوكس (المعتمد البريطانى) فهو الذى سمح لعبدالعزيز بالتهام ما التهم وبقضم ما قضم من الأراضى الكويتية.
فى يناير 1902 استولى عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على الرياض مستهلاً رحلة طويلة لتوسعة دائرة نفوذه وسلطانه وهى الرحلة التى انتهت فى سنة 1925 باستيلائه أولاً على مكة ثم فى الشهر الأخير من السنة (ديسمبر) على المدينة المنورة. وفى سبتمبر 1932 يعلن عبدالعزيز آل سعود، وهو فى السادسة والخمسين، نفسه ملكاً على مملكة نجد والحجاز، التى ستصبح بعد ذلك أول مملكة تحمل اسم العائلة الحاكمة عندما سميت المملكة العربية السعودية.
فى النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين تكونت المملكة العربية السعودية فى ظل نفوذ طاغ للمذهب الوهابى (رغم الهزيمة العسكرية فى 1930 للإخوان المتوحشين بقيادة فيصل الدويش) وفى نفس الفترة اكتشف البترول فى السعودية بكميات هائلة، وهكذا أصبح بوسع الفهم الوهابى للإسلام أن يستعين بثروة هائلة لدعم نموذجه.
وبعد ثلاثة عقود من تكوين المملكة العربية السعودية واكتشاف البترول كانت أشياء كثيرة فى الدنيا قد تغيرت.
- أولاً: حققت السعودية ثروة هائلة مكنتها من الإنفاق ببذخ على الفهم الوهابى للإسلام داخل المملكة العربية السعودية وفى كل البلدان العربية والإسلامية (ثم بعد ذلك فى كل القارات، وبالذات فى أوروبا). وهو ما أدى لحدوث تأثيرات لا تنكر على فهم كثير من المسلمين المعتدلين أصلاً للإسلام، إذ اقتربت عقول العديدين منهم لنموذج الفهم الوهابى للإسلام.
- ثانياً: تعرضت مصر لتراجع كبير فى كل مستوياتها منذ الستينيات بما فى ذلك تراجع مناخها الثقافى العام وتغلغل النفوذ الوهابى داخل مؤسسة الأزهر العريقة، ثم جاءت هزيمة يونيو 1967 لتفتح المجال واسعاً أمام المجموعات المتأثرة فى مصر بالفهم السعودى للإسلام لكى تتحول إلى تيارات ومجموعات سياسية نشطة وذات توجهات متشددة بل متطرفة بل حاملة أيضاً للمدفع والبندقية.
- ثالثاً: ارتكب الغرب بوجه عام والولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص أخطاء عديدة بسبب ظروف الحرب الباردة من بينها إما غض النظر عن تنامى الفهم الوهابى للإسلام فى العالمين العربى والإسلامى وأحياناً التعامل مع تيارات تنتمى للفهم الوهابى للإسلام بغرض تحقيق أهداف محددة مثل طرد القوات السوفيتية من أفغانستان، كما سمح بتأسيس مئات المساجد والمراكز الإسلامية فى أوروبا وأمريكا الشمالية دأبت على ترويج وتسويق أكثر التفسيرات الإسلامية تشدداً وتزمتاً ومخاصمة للحداثة والاندماج فى مسار وركب التمدن الإنسانى.
وعندما اغتالت (يوم 6 أكتوبر 1981) مجموعة متطرفة الرئيس المصرى أنور السادات كان ذلك رمزاً من رموز ذيوع وشيوع ونفوذ وانتشار نموذج الفهم الوهابى للإسلام، وبنفس القدر تراجع الفهم المصرى - التركى - السورى للإسلام. ثم توالت أحداث مماثلة تكرر الدليل بعد الدليل على أن الفهم السعودى للإسلام أصبح متسعاً ومنتشراً ومؤثراً فى معظم المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة من نيجيريا إلى الجزائر إلى مصر إلى الجزيرة العربية إلى باكستان وأفغانستان وإندونيسيا.
وفى صباح 11 سبتمبر 2001 قامت مجموعة من المنتمين للفهم الوهابى للإسلام بهجماتها فى نيويورك وفيرجينيا وغيرهما فى أعمال تمثل موقف الفهم الوهابى للإسلام من الآخر بوجه عام ومن الحضارة الغربية بوجه خاص.
وإذا كان من السهل على أى مواطن أوروبى أو أمريكى غير متعمق فى تفاصيل ما جاء بهذا المقال أن يظن أن الإسلام والعنف والإرهاب هى أمور ملتصقة ببعضها البعض، فإن الدارس لهذا الموضوع يعرف أن كل ما حدث أن فهماً محدداً للإسلام كان بلا شأن ولا تأثير قبل انهمار الثروة البترولية قد أصبح فى ظل ظروف شرحتها فى فقرة سابقة من هذا المقال قادراً على أن يجعل (بفعاليات البترو/دولار) العالم يظن أن فهمه للإسلام هو (الإسلام)، والحقيقة أنه فهم ضيق وصغير ولم يكن له أنصار بين المسلمين قبل حلول الثروة البترولية،
وأن ملايين المسلمين فى مصر وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع والعراق وإندونيسيا وغيرها كانوا لايزالون بعيدين كل البعد عن حدة وتشدد وتطرف وعنف ودموية هذا المذهب الصغير فى قيمته الفكرية الذى لولا البترودولار وغفلة العالم ما وصل لما وصل إليه اليوم حيث أصبح بالغ الخطورة على سلام البشر وعلى الإنسانية، وأضيف وبكل الصدق «على الإسلام والمسلمين»،
وأعنى هنا المسلمين الذين عرفهم العالم فى مصر وسوريا ولبنان والعراق وتركيا منذ نصف قرن كنموذج للتسامح والتواصل مع الآخر والتعايش مع الديانات والثقافات المختلفة - ولكن هؤلاء المسلمين هم الذين أصبحوا بفعل حكام طغاة مستبدين (وفاسدين) فى ظروف معيشية متدنية تجعلهم فريسة سهلة للفهم الوهابى للإسلام المدعوم بشلالات البترودولار.
إن أى حديث عن الإسلام والمسلمين والعنف والتشدد والتطرف يتجاهل تلك النظرة التفصيلية لفهم بالغ التطرف للإسلام وفهم آخر رحب وإنسانى ومتسامح - هو حديث ليس سطحياً فقط وإنما يمكن أن يقود لقرارات أخرى خاطئة مثل قرارات إغماض العيون عن تنامى الفهم الوهابى للإسلام منذ خمسينيات القرن العشرين ومثل خطيئة التعامل مع تيارات تنتمى لهذا الفهم فى أماكن عديدة من العالم مثل أفغانستان منذ 1979.
وأخيراً، فلست بحاجة لأن ألفت انتباه القارئ المحايد إلى أن وجود نصوص فى القرآن يمكن أن تستعمل كدليل على عنف الإسلام - هو أمر لا أهمية له: فمن جهة فإن هناك تفسيرات مستنيرة تربط هذه النصوص بظروف وملابسات معينة، فالعبرة ليست بالنص وإنما بالعقل الذى يتعامل مع النص. كذلك فإن هناك نصوصاً قرآنية أخرى عديدة تدعو لنقيض العنف والعدوان على المختلفين ديناً ومذهباً، بل تحض على التعامل معهم بعدل وإنسانية.
كذلك فإن التركيز على النصوص سيسمح للمتطرفين، على الجانب الآخر، بأن يقولوا إن فى أسفار التوراة بوجه عام وفى سفر يشوع بن نون بوجه خاص ما يحض أيضاً على العنف والدم،
وهو ما لا ينبغى أن تتجه إليه العقول.إن المهمة السامية فى هذا المجال هى مناصرة المستنيرين وتأييد المعتدلين والوقوف إلى جانب الفهم الإنسانى للإسلام الذى كان هو دائماً «الأغلبية» ومقاومة الفهم المتشدد والمتطرف بل الدموى الذى أنتجته (وهذا أمر طبيعى) العزلة وراء كثبان رمال صحراء الجزيرة العربية واختلاط هذه العزلة بنزعة قبلية يستحيل معهما (العزلة الجغرافية والنزعة القبلية) أن يكون الموقف من الآخر إنسانياً ومتسامحاً وإيجابياً.
وسيكون من أوجب واجبات الحكومة السعودية أن تدرك أن الحلف السعودى - الوهابى لم يعد من الممكن له أبداً أن يستمر، فهو حلف يرسخ فكراً ظلامياً متطرفاً معادياً للتقدم والإنسانية والحضارة والتواصل بين الثقافات، والنفع من أهم طبيعة من طبائع الحياة وهى التعددية.
■ هذا المقال هو الترجمة العربية لنص المحاضرة التى ألقاها طارق حجى بالإنجليزية يوم 23 أبريل 2009 بمقر الأمم المتحدة فى جنيف ضمن فعاليات المنظمات غير الحكومية التى رعتها الأمم المتحدة متزامنة مع مؤتمر دربان - 2.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.