هناك إجماع بين الباحثين في العلم الاجتماعي علي أن التطرف الإيديولوجي أيا كان مضمونه, يمكن أن يؤدي الي استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية. وليس هناك شك في أن العنف السياسي الذي عادة ما يبدأ بالتطرف الإيديولوجي, يمثل تهديدا مباشرا للديموقراطية كنظام سياسي, ولممارسة الديموقراطية كسلوك اجتماعي. وقد أدت سلسلة العنف الذي بدأته جماعة الإخوان المسلمين إلي اغتيال الشيخ حسن البنا, واصطدام الجماعة مع النظام الملكي الذي قام بحلها. ويلفت النظر حقا أن جماعة الإخوان المسلمين قد اصطدمت مع كل الأنظمة السياسية التي تعاقبت علي مصر. ومن هنا أهمية التحليل العلمي لظواهر التطرف الإيديولوجي والعنف. وقد شهد القرن العشرون جماعات متطرفة شتي في عديد من البلاد الغربية والآسيوية تبنت التطرف الإيديولوجي مذهبا والعنف وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية التي تؤمن بها. ولم تسلم البلاد العربية والإسلامية من هذه الظاهرة فقد نشأت جماعات دينية قد تكون من أبرزها جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها الشيخ حسن البنا في الإسماعيلية عام1928, ومارست الدعوة الإسلامية بشكل سلمي زمنا الي أن كشفت النقاب عن تبنيها للعنف وسيلة لتحقيق انقلاب علي الدولة المدنية في مصر من خلال جهازها السري, الذي قام بسلسلة من الاغتيالات لشخصيات سياسية مصرية أبرزهم محمود فهمي النقراشي باشا رئيس الوزراء وغيره من الشخصيات القضائية كالمستشار الخازندار. وقد أدت سلسلة العنف الذي بدأته جماعة الإخوان المسلمين إلي اغتيال الشيخ حسن البنا, واصطدام الجماعة مع النظام الملكي الذي قام بحلها. ويلفت النظر حقا أن جماعة الإخوان المسلمين قد اصطدمت مع كل الأنظمة السياسية التي تعاقبت علي مصر. ذلك أنه بعد الاصطدام الأول مع النظام الملكي, دخلت في صراع دموي مع نظام ثورة يوليو1952 ثم بعد ذلك في نظام الرئيس السادات, بالرغم من أنه هادنهم وأخيرا مع النظام السياسي المصري الراهن وتقتضي دراسة ظواهر التطرف الايديولوجي والعنف السياسي بصورة علمية المعرفة الدقيقة بالنظريات المختلفة التي قامت بدراسة مايمكن تسميته بالعقل التقليدي, الذي ينطلق من رؤية للعالم تتسم بالمحدودية والتعصب والانغلاق. وهذا العقل التقليدي يتحول تحت ظروف معينة إلي عقل إرهابي ينظر للعنف ويدفع الي الإرهاب. وفي مجال الدراسات العلمية الموثقة لفكر وسلوك جماعة الإخوان المسلمين, أصدر مؤخرا الباحث المعروف في مجال دراسة الحركات الإسلامية الأستاذ عبد الرحيم علي مدير المركز العربي للبحوث والدراسات كتابا بالغ الأهمية عنوانه: كشف البهتان: الإخوان المسلمون, وقائع العنف وفتاوي التكفيروعبد الرحيم علي يعد مرجعا في دراسة الحركات الإسلامية التي مارست العنف, وقد أسس في مركزه أهم قاعدة بيانات عن هذه الحركات, يتضمن السير الذاتية لقادتها, والحوادث التي قامت بها, والوثائق الإيديولوجية لكل منها, والمحاكمات التي تمت لأعضائها, وتحولاتها الإيديولوجية ووضعها الراهن. ولدي عبد الرحيم علي مشروعات طموحة للغاية أهمها علي الإطلاق تأسيس بوابة إلكترونية تتضمن آلاف البيانات والوقائع, بما يسمح للباحثين بدراسة مختلف ظواهر التطرف الإيديولوجي والعنف السياسي. كتاب عبد الرحيم علي يتضمن فصولا أربعة عن فقه التكفير, ووقائع العنف والإخوان والأقباط, والإخوان والمرأة, بالإضافة إلي ملحق بالوثائق الأصلية عن قضايا العنف وفتاوي المرأة والأقباط وخطة التمكين. ويرد اهتمامي بهذا الكتاب الي أنني درست من قبل في سلسلة مقالات مترابطة ظواهر التطرف الإيديولوجي والإرهابي علي المستوي العالمي, وقد نشرت هذه المقالات في كتابين لي أولهماإعادة اختراع السياسة الصادر عام2005 عن دار نشر ميريت, وأزمة المجتمع العربي المعاصر الصادر عن دار العين عام2007. وقد اهتممت بالتحليل السياسي والسوسيولوجي والسيكولوجي للتطرف الإيديولوجي والعنف السياسي, لأن هذه الظواهر تعد في الواقع من أكبر معوقات التطور الديموقراطي في البلاد التي تسعي للتحول من السلطوية الي الليبرالية من ناحية, بالإضافة إلي أنها تؤثر علي الأمن القومي والاستقرار السياسي لعديد من الدول. وقد بدأ الأستاذ عبد الرحيم علي بداية منطقية لأنه ركز أولا علي دراسة فقه التكفير, لأن تأثير الأفكار المتضمنة فيه كان هو الذي دفع عشرات الشباب الي الانضمام الي الجماعات الإسلامية, التي بدأت بالدعوة السلمية ثم مالبثت أن تحولت الي الإرهاب. وهناك اتفاق بين الباحثين علي أن المنظر الرئيسي لفقه التكفير هو سيد قطب الذي بدأ حياته كاتبا أدبيا قبل أن ينضم للإخوان المسلمين عام1950, وعبر تحولات فكرية متعددة أنتج عقيدة متماسكة تتضمن أحكاما قاطعة عن جاهلية المجتمع وتكفيره ودعوة للانقلاب عليه. وهذه الأفكار كانت في الواقع دافعا لعديد من الجماعات الإسلامية لكي تتبني العنف والإرهاب. ويقدم عبد الرحيم علي في الفصل الأول الذي خصصه لفقه التكفير دراسة موثقة تحلل الأقوال الرئيسية لسيد قطب, وتعليقات عدد من الفقهاء المسلمين المعتدلين عليها وأهمها علي الإطلاق الشيخ يوسف القرضاوي, الذي أرجع تطرف سيد قطب إلي انه لم تسبق له دراسة الفقه الإسلامي, مما أدي به إلي أنه يعطي تفسيرات غير صحيحة لعديد من الآيات القرآنية. وقد قام سيد قطب بتكفير كل المسلمين الذين يعيشون في بلدان لاتحكم بالشريعة الإسلامية. ويسوق عبد الرحيم علي اقتباسا من كتاباته يقول في إحداها ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين ووضع العنوان المميز للمؤمنين والعنوان المميز للمجرمين في عالم الواقع لا في عالم النظريات, فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون حولهم ومن هم المجرمون... ويسوق عبد الرحيم علي اقتباسا آخر من كتاب الظلال لسيد قطب يقول فيه إن الجاهلية ليست إسما لمرحلة تاريخية سابقة علي الإسلام بل إنها تنطبق انطباقا حرفيا علي كل وضع بصرف النظر عن اعتبارات الزمان والمكان,إذا كان الوضع مشابها لتلك المرحلة التاريخية السابقة علي الإسلام. ويقرر سيد قطب في كتابه معالم علي الطريق الذي يعد هو مانيفستو الجماعات الإسلامية الإرهابية أن العالم يعيش اليوم في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها. جاهلية لاتخفف منها هذه التيسيرات الهائلة وهذا الإبداع المادي الفائق. هذه الجاهلية تقوم علي أساس الاعتداء علي سلطان الله في الأرض وعلي أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية إنها تسند الحاكمية الي البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابا... ويقرر عبد الرحيم علي أن الامتداد المنطقي لهذه الأفكار يقود الي حتمية الصدام واستحالة التعايش فالمسلم الحقيقي من المنظور القبطي لايملك الحق في التصالح مع المجتمع الجاهلي والولاء لقيمه. ويمكن القول إن المفردات الرئيسية لفقه التكفير ضد سيد قطب هي الحكم علي المجتمع الحالي بالجاهلية من ناحية, وتكفير الناس الذين لم ينقلبوا عليه من ناحية أخري. وقد اثرت افكار سيد قطب المتطرفة علي مئات الشباب الذين انضموا الي جماعة الإخوان المسلمين, أو إلي الجماعات الإسلامية الأخري التي مارست الإرهاب الصريح ضد الدولة والمجتمع علي السواء. ومن اللافت للنظر أن جماعة الإخوان المسلمين لم تصدر أي بيان تنقد فيه أفكار سيد قطب المتطرفة, بل إن أحد أبرز قادتها الآن كانوا من المؤمنين إيمانا مطلقا بهذه الأفكار. والخلاصة أن كتاب عبد الرحيم علي يعد وثيقة بالغة الأهمية في مجال نقد التطرف والعنف. والمتأمل للمشهد السياسي المصري الراهن لابد أن يندهش لتجاهل عديد من القوي السياسية هذا التاريخ الموثق للإخوان المسلمين في مجال تبني التطرف الإيديولوجي والذي يظهر في أحكامهم السلبية علي الدولة المدنية بتشريعاتها الوضعية, وعلي المجتمع المصري الراهن, بالإضافة الي تناسيهم تاريخهم الموثق في استخدام العنف. ولذلك تبدو غربية محاولات التقارب بين عدد من الليبراليين كأشخاص ليست لهم قواعد شعبية مع الإخوان المسلمين, بالإضافة الي سعي عدد من الأحزاب السياسية للتحالف معهم للاستقواء بطاقاتهم السياسية التنظيمية في الانتخابات القادمة. قد لايكون مانشاهده اليوم من أحداث سياسية علي مسرح السياسة في مصر غريبا, مادام أن مجموعة مشتتة من الأشخاص تحت لافتة الجمعية الوطنية للتغيير زارت حزب الوفد العريق ودعته للانضمام للجمعية! في نفس الوقت الذي تعتبر فيه بعض الأحزاب السياسية الصغيرة أن زيارة البرادعي لها في مقرها شرف لايدانيه شرف! هذا فصل آخر من فصول أعاجيب السياسة المصرية!