يؤكد الحادث الإرهابي الإجرامي الذي وقع ضد كنيسة القديسين في الإسكندرية وإن كان موجها للشعب المصري بكل طوائفه وأديانه مسلمين وأقباطا علي السواء أن هناك علاقة وثيقة بين انتشار لوثة التعصب الإيديولوجي أيا كان نوعه وعلي الأخص التعصب الديني والإرهاب. بعبارة أخري لا يمكن أن تخرج الأفعال الإرهابية إلا من بيئة سادتها موجات التعصب الديني. وهذا التعصب الديني يؤججه دعاة دينيون سواء مسلمين أوأقباطا بخطابهم المعادي للآخر المختلف دينيا, وتقوم علي تغذيته يوميا قنوات فضائية تنشر الفكر الظلامي وتشيع رؤية رجعية ومتخلفة للعالم. ولا أجد بدأ من أن أعيد تكرار مجموعة من الأفكار الرئيسية التي صغتها من قبل وأحكمت فيها الصلة بين التعصب الإيديولوجي والإرهاب. والتطرف الإيديولوجي مثله في ذلك مثل العولمة ظاهرة تملأ الدنيا وتشغل الناس! ومشكلته أنه لا يتعلق فقط باتجاهات فكرية منحرفة أورؤي للعالم متخلفة وبدائية فقط, ولكنه يتحول في مجال الممارسة علي مستوي الأفراد والجماعات وبعض الدول إلي إرهاب صريح. وهذا الإرهاب لا يوجه ضرباته فقط للخصوم الفكريين أو السياسيين, ولكنه يصوب سهامه المسمومة إلي المدنيين بصورة عشوائية, مما يؤدي إلي سقوط مئات القتلي والجرحي. ومن ثم يمكن القول إنه لكي نفهم الإرهاب وطبيعته وأسبابه, لابد لنا في البداية أن نحلل وندرس بعمق ظاهرة التطرف الإيديولوجي, من حيث تعريفه, ومصادرها ونتائج وطرق مواجهتها. وهناك في الفكر العلمي العالمي دراسات متعددة عن التطرف الإيديولوجي والإرهاب, بحيث يحار الباحث أي دراسة يعتمد عليها إن أراد أن يقدم تعريفا للتطرف الإيديولوجي وأبعاده المتعددة بغير أن يغوص في خضم النظريات العلمية المتعمقة بلغتها الصعبة التي ليس من السهل علي القارئ العادي أن يلم بها ويفهمها. وقد لفتت نظري دراسة شاملة لعالم النفس كيفين دور هايم من جامعة ناتال بجنوب إفريقيا, خصصها لسياسات العلم في مجال التنظير للمعرفة السلطوية, واستعرض فيها بشكل متعمق نظريات أربع تسود في ميدان البحث عن العلاقة بين الأسلوب المعرفي والمضمون الإيديولوجي.وهي السلطوية ونظرية التطرف, ونظرية السياق, ونظرية تعددية القيم. وقد حاولت هذه النظريات جميعا والتي لا يتسع المجال لاستعراضها أن تحل مشكلة التعميم النظري العالمي والسياقات التاريخية السياسية. والسؤال المطروح هنا: هل يمكن التعميم علي السلوك المتطرف, بغض النظر عن اختلاف المراحل التاريخية, وتباين المجتمعات والثقافات ؟ لكل هذه الاعتبارات العملية نقنع بالاعتماد علي بعض الدراسات التي تناولت موضوع التطرف بأسلوب منهجي ومبسط في الوقت نفسه وعلي رأسها دراسة بارتولي وكولمان المنشورة في سبتمبر2003. تعريف التطرف الإيديولوجي التطرف ظاهرة معقدة, بالرغم من أنه من الصعب تلمس تعقيدها, والتطرف ببساطة هو أنشطة( معتقدات, واتجاهات, ومشاعر, وأفعال,واستراتيجيات) يتبناها شخص أوجماعة بطريقة تبعده عن الأوضاع العادية السائدة بين الناس. وهي في مواقف الصراع تعلن عن نفسها باعتبارها شكلا عنيفا من أشكال الانغماس في الصراع. ومع ذلك يمكن القول إن إطلاق صفة التطرف علي الأنشطة والناس والجماعات, وكذلك تعريف ما هي الأوضاع العادية في أي موقف, هما مسألة ذاتية من ناحية, وسياسية من ناحية أخري. وعلي هذا الأساس يري باراتولي وكولمان في دراستهما المشار إليها أنه لابد من وضع الاعتبارات التالية في أي مناقشة للتطرف. الفعل المتطرف نفسه الذي يراه البعض عادلا وأخلاقيا مثل الحرب في سبيل الحرية قد تراه أطراف أخري باعتباره غير أخلاقي بل فعلا إرهابيا مضادا للمجتمع. وذلك كما تنعت قوات التحالف في العراق أفعال المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي. ويتم ذلك وفقا لقيم وسياسات وأخلاقيات كل طرف, وطبيعة علاقاته بالفاعل. وبالإضافة إلي ذلك فإن إحساس المرء بأخلاقية ولا أخلاقية الفعل المتطرف مثل حرب العصابات التي قادها نلسون مانديلا ضد الاستعمار الاستيطاني للبيض في جنوب إفريقيا قد يتغير بتغير الظروف( مثل نوعية القيادة, والرأي العام العالمي, والأزمات والسياقات التاريخية). وعلي ذلك يمكن القول إن السياق المعاصر والتاريخي للأفعال المتطرفة تشكل نظرتنا إليها. والاختلافات في القوة مهمة ونحن بصدد تعريف التطرف, ذلك في المواقف التي تستخدم فيها القوة جماعات نصيبها من القوة ضئيل, في مواجهة أنشطة مشابهة يقوم بها أفراد أو جماعات تدافع عن بقاء الوضع الراهن علي ما هو عليه, وبالإضافة إلي ذلك يمكن القول إن الأفعال المتطرفة من الأرجح أن تلجأ لاستخدامها فئات الشعب المهمشة, التي تري أن وسائل الصراع السلمية لنيل حقوقها مسدودة أمامها. ومع ذلك يمكن القول إن الجماعات والطبقات السائدة التي قد تساندها الدولة, عادة ما تلجأ إلي أفعال متطرفة لقمع خصومها السياسيين. وعادة ما تتمثل الأفعال المتطرفة في وسائل عنيفة, بالرغم من أن الجماعات المتطرفة قد تختلف في تفصيلها لتكتيكات عنيفة أو غير عنيفة, وكذلك بالنسبة للأهداف التي ستتوجه لمهاجمتها( مثل البنية التحتية, أو العسكريين, أو المدنيين, أو الأطفال) وفي الوقت نفسه فإن الجماعات التي لا تملك فائضا من القوة, من الأرجح أن تلجأ لأشكال مباشرة للعنف( مثل التفجير الانتحاري) في حين أن الجماعات المسيطرة عادة ما تلجأ إلي أشكال العنف المؤسسية( مثل استخدام التعذيب, أو التسامح مع المعاملة الوحشية للأمن مع الخصوم السياسيين) بالرغم من أن بعض الجماعات المتطرفة غالبا ما يظن أنها متماسكة ولا تحدث خلافات بين أعضائها, فالواقع يقرر أن هذه الجماعات غالبا ما تسودها الخلافات, سواء حول أهدافها أو وسائلها لتحقيق هذه الأهداف, أو حتي بالنسبة لرؤيتها للعالم. وأخيرا يمكن القول إن المشكلة الرئيسية بالنسبة للتطرف وخصوصا في مواقف الصراع الممتدة, لا تتمثل في عنف الأنشطة التي تقوم بها الجماعات المتطرفة ولكنها في الاتجاهات المتطرفة التي تتمثل في جمودها وثباتها وعدم تسامحها مع الغير, وبالتالي عدم قابليتها للتغير. منابع التطرف هناك ستة مصادر للتطرف, ولعل أولها هو الحرمان النسبي, بمعني سيادة الفقر والافتقار إلي الخدمات الصحية والغذاء السليم والتعليم والعمل, وكلها تتضافر لكي تشكل مبررات للعنف. فإذا أضفنا إلي ذلك إنكار الحاجات الإنسانية الأساسية( كالحاجة إلي الأمن والكرامة والاعتراف بهوية الجماعات المختلفة, وتعويق المشاركة السياسية, والخبرات غير المحددة التي تتعلق بإهانة الناس, والفجوة التي تزيد اتساعا مع الوقت بين ما يعتقد الناس أنهم يستحقونه وما يمكن لهم الحصول عليه, كل هذه العوامل أو بعضها يمكن أن تمثل خميرة للتطرف, وخصوصا حين تسد المسالك المشروعة للتعبير عن احتياجات الناس. والنقطة الثانية أن العنف يبني بالتدريج من قبل قادة سياسيين يعتمدون علي ظروف الناس الصعبة من خلال الترغيب( إعطاء منح مالية لمساعدة المتطرفين أو أسرهم) أو الوعود التي تعطي للمتطرفين أنهم حتي لو ماتوا أثناء الأعمال الإرهابية فإنهم سيكونون شهداء ولهم الجنة. وهؤلاء القادة يبررون التطرف باعتباره وسيلة فعالة للسيطرة علي السلطة. ومن ناحية أخري فإن الجماعات والطبقات الاجتماعية المسيطرة غالبا ما تغذي التطرف من خلال أساليبها القمعية في التعامل مع الجماعات المتطرفة, والتطرف في منظور ثالث يمثل مخرجا انفعاليا لمشاعر قاسية, تتعلق بالقهر, وعدم الأمان, وامتهان الكرامة, والضياع. والأفراد الذين يشعرون بهذه المشاعر غالبا مايجنحون للتطرف والإرهاب. غير أن بعض النظريات الأخري تري في التطرف استراتيجية عقلانية في صراع القوي بين أنصار السلطة ومعارضيها. ومن ناحية أخري فالتطرف قد ينبع من تبني إيديولوجيات أخروية( تتعلق بنهاية العالم كما تحدده مجموعة متكاملة من الأساطير والأفكار الخرافية), وقد يتأثر الشباب بهذه الأساطير, من خلال المدارس أو برامج الميديا المختلفة أو الزملاء أو الأسر ذاتها. وأخيرا هناك نظريات تري في التطرف ظاهرة مرضية تدفع لطريقة في الحياة تحبذ العنف لكي تعطي الشخص أو الجماعة إحساسا بالحياة, ويتم ذلك أحيانا من خلال تدمير الحياة نفسها, كما يحدث في التفجيرات الانتحارية. وأيا ما كان الأمر فهناك حاجة لمواصلة البحث لتحليل نتائج التطرف.