جاءت أحداث مباراة مصر والجزائر المؤسفة، وما ترتب عليها من أعمال شغب فى القاهرة والخرطوم والجزائر، وما صحبها من تصريحات متبادلة، لتلقى ضوءاً على ما وصلت إليه أحوالنا من ترد، خرجت مصر من تصفيات الترشيح للمونديال بعد نضال مشرف لكل من الفريقين، وإذا كان الفوز النهائى قد تحقق للفريق الجزائرى، فقد أبلى الفريق المصرى بلاء حسناً، وإن لم يحالفه الحظ، وبطبيعة الأحوال، فقط كانت النتيجة محبطة لمشجعى الفريق المصرى بقدر ما كانت مفرحة لمشجعى الفريق الجزائرى، ولم يكن غريباً أن يعبر الأولون عن خيبة أملهم، فى حين يحتفل الآخرون بانتصارهم، هذا كله معقول ومفهوم، ولكن أن تخرج الجماهير وترتفع الأصوات منددة بمصر أو مسيئة للجزائر، فهذا ما لا يقبله عقل، ألا يوجد صوت رشيد للقول بأن هذا عيب والله عيب كبير لقد قامت المسابقات الرياضية للسمو بالنزعات العدائية للبشر وتحويلها إلى منافسات صحية. ولدت المدن الإغريقية متفرقة ومشتتة ومتنازعة على أرض اليونان، ولم يكن يجمعها غير اللغة، وباستثناء ذلك فقد كانت فى عداء دائم وحروب متصلة، وتكاد تكون مباريات الأوليمبياد- على جبل أوليمب- هى المناسبة الوحيدة التى تجتمع فيها هذه المدن سلمياً وبعيداً عن ساحات الاقتتال والحرب، فتاريخ المدن الإغريقية- وباستثناء مباريات الأوليمبياد- كان تاريخ الحروب والاقتتال والنزاع، ومع ذلك فقد نجحت هذه المسابقات الرياضية فى خلق وعى الشعب الإغريقى بذاته، مما وحده- رغم نزاعاته المستمرة- فى حضارة واحدة، حتى جاء الإسكندر الأكبر ولم يقتصر على توحيد الأمة الإغريقية بل أقام إمبراطورية تسود العالم المعروف آنذاك، وهكذا كانت الرياضة رغم ما تنطوى عليه من منافسة، ومن فوز وهزيمة، هى الرباط المقدس لنشأة الحضارة الإغريقية. ولست هنا فى صدد توزيع الاتهامات، أو تحديد أى من الطرفين مسؤول عن هذا التدهور والتردى، ولكنى- كمصرى- أتحدث إلى المصريين من أبناء وطنى وأهيب بهم العودة إلى العقل، مصر هى أكبر الدول العربية، ولا يليق بها- تحت أى عذر- أن تنجرف إلى هذا المستوى، ولا يقبل منها- مهما كانت الأسباب- الإساءة إلى الشعب الجزائرى حتى وإن ظهرت بعض التجاوزات من بعض الجزائريين، فمصر تفخر- دائماً- بأنها تلعب دوراً قيادياً فى عالمها العربى، ولا يليق بأى قائد مهما كانت المبررات أن ينزلق إلى أى شكل من أشكال الإساءة إلى الجزائر والشعب الجزائرى أو أى شعب عربى آخر، فالكبير لا تجره الصغائر مهما تعددت. هذه مسؤولية القيادة والريادة. يذكر جيلنا كفاح الجزائر البطولى حتى نال استقلاله من نير استعمار ظالم استمر لأكثر من مائة وثلاثين عاماً، وكانت حصيلته فى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية أكثر من مليون شهيد، وأصبحت الجزائر من وقتها سنداً قوياً لكل حركات التحرير العربية، وكما وقفت مصر مع الجزائر فى كفاحها للاستقلال، فإن الجزائر لم تتردد خلال حرب 73 فى إرسال أبنائها من قواتها المسلحة للوقوف إلى جانب الجيش المصرى فى معركته للتحرير. لقد سطرت الجزائر خلال تاريخها فى مقاومة الاستعمار الفرنسى ملحمة يفخر بها كل عربى، ويكفى أن نتذكر الموقف البطولى للقائد العربى الأمير عبدالقادر فى حربه ضد الجيوش الفرنسية عند احتلال الجزائر فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، واستولت على مدينة الجزائر فى يوليو 1830 ثم وهران بعدها بسنة، مما وفر لها وجوداً على الساحل الشمالى للجزائر، وبدأت بعملية توطين للمستوطنين الأجانب على أرض الجزائر تماماً كما تفعل إسرائيل حالياً، وتنبهت القبائل العربية والبربرية فى الداخل، والتى لم تخضع كلياً للسيطرة العثمانية لهذا العنصر الأجنبى الدخيل الذى بدأ يتوسع فى الأراضى الجزائرية، وكان من أهم الجماعات الدينية والصوفية الموجودة فى غرب الجزائر جماعة «القادرية» وعلى رأسها الشريف محيى الدين القادرى، فأهاب به الأهالى قيادة المقاومة لهذا الغزو الأجنبى، ولكنه اعتذر لكبر سنه، ورشح ابنه «عبدالقادر» الذى اختير أميراً، ولم يكن عمره يجاوز الحادية والعشرين، حيث قبل تولى مهمة التصدى لهؤلاء الغزاة. ورغم ضألة أعداد جيشه، فقد استطاع الابن عبدالقادر أن يهزم الجيوش الفرنسية فى 1834 بقيادة الجنرال لويس دى ميشل Desmichcls، وأن يفرض عليه توقيع اتفاق باحترام الأقاليم الجزائرية الداخلية، ثم هزم الفرنسيين مرة أخرى فى عام 1837 بقيادة الجنرال بوجو Bugeau. وبعدها لجأت فرنسا إلى حرب إبادة للمدنيين العزل والاتفاق مع السلطان المغربى على حرمان قوات الأمير عبدالقادر من الالتجاء إلى الأراضى المغربية، وهكذا لم يستطع الأمير عبدالقادر الاستمرار فى مقاومته بعد سبع عشرة سنة من الكفاح، فاستسلم فى عام 1847 للقوات الفرنسية التى نقلته إلى باريس. وهكذا سقطت الجزائر بعد كفاح بطولى أمام الاستعمار الفرنسى، حيث كانت فرنسا وقتها ثانى أقوى الدول، وبدأت عمليات الاستيطان الأجنبى فى الجزائر تماماً كما يحدث فى فلسطين حيث ذهب إليها أكثر من مائة ألف مستوطن أوروبى فى العام الأول، بعد استسلام عبدالقادر ارتفع عددهم إلى أكثر من ربع مليون بعد حوالى عشر سنوات، وبعد مائة وثلاثين عاماً، استعاد الشعب الجزائرى استقلاله، ورحل المستعمر الفرنسى كما زالت المستوطنات الفرنسية على أرض الجزائر، أليست الجزائر بكفاحها فى الماضى البعيد والقريب مصدراً لإلهام الوعى العربى؟ أليست الجزائر نموذجاً عربياً لطرد المستعمرات والمستوطنات الأجنبية بعد أكثر من مائة عام؟ هل نتخلى عن هذه الصورة المشرقة ببساطة نتيجة مباراة كرة قدم! إذا كان لنا أن نتذكر الجزائر، فإن أمثلة عبدالقادر فى القرن التاسع عشر وجميلة بوحريد فى القرن العشرين هى الأولى بالذكرى، ولا يجدر بمصر الآن أن تتذكر هذه القلة المشاغبة وتنسى أن الجزائر هى الأمير عبدالقادر، كما هى جميلة بوحريد، ما يجمع العرب أكبر بكثير من أن تفرقهم مباراة كرة قدم أو هكذا ينبغى أن يكون والله أعلم.