يمثل قرار الأستاذ محمد مهدى عاكف، المرشد العام للإخوان المسلمين، بالتنحى عن منصبه فى نهاية ولايته الأولى فى يناير المقبل، منعطفاً مهماً فى مسار جماعة المعارضة الأكبر فى مصر، لما له من تأثيرات مهمة على مستقبل الإخوان. فالمرشد المقبل -وبقطع النظر عن هويته- لن يتمتع بالشرعية التاريخية التى يتمتع بها عاكف، الذى انضم للجماعة فى وقت مبكر، وصحب مؤسسها حسن البنا، ولا شك أن تلك الشرعية التاريخية قد أضفت على مواقف عاكف والمرشدين السابقين بعضاً من الثقل الذى ساعدهم على إنهاء بعض الخلافات التنظيمية (أو تأجيل) وكل الأسماء المرشحة لخلافته تنتمى لشريحة عمرية متقاربة، فلن يكون لأحدهم هذه الشرعية. وأما الجهة الأخرى للتأثير فهى أن عاكف -الذى شهد عهده انفتاحاً سياسياً كبيراً للجماعة، وظهرت فيه بوضوح التنوعات الفكرية الموجودة داخل التنظيم- يمتلك مهارة إدارة التنوع، وهو ما يظهر واضحاً من العلاقات الشخصية التى تربطه بقيادات التيارات الفكرية من الأجيال المختلفة، وقدرته على توظيف هذه العلاقات فى تقريب المسافات بينهم، وهذه القدرات الشخصية للمرشد لا تبدو متوافرة (بالقدر نفسه على الأقل) فى أغلب المرشحين للمنصب، ربما باستثناء نائبه الثانى خيرت الشاطر، وفرصه شبه منعدمة بسبب سجنه. وفى غياب القيادات التاريخية لا يبقى للجماعة من سبيل للبقاء إلا عن طريق المؤسسية، فتساوى الرؤوس فى المواقع القيادية يفرض وجود آلية محددة يلجأون إليها عند الخلاف حتى لا يتحول إلى صدام كان أصحاب الشرعية التاريخية قادرين على احتوائه. ومساحة العمل التنفيذى المؤسسى فى الجماعة أكبر بكثير من مساحة القرار المؤسسى والديمقراطى فيها، فالأعضاء مهتمون بإجراءات التنفيذ وضماناته أكثر من اهتمامهم بماهية القرار وكيفية اتخاذه، وذلك لأسباب منها الثقة فى القيادة، والشرعية التاريخية التى طالما تمتعت بها هذه القيادة، شعور الجماعة -بحكم ضغوط الواقع- بالحاجة إلى المؤسسية فى التنفيذ (من أجل استمرار البقاء) أكثر من شعورها بالحاجة إليها فى صنع القرار. وواضح أن مأسسة الإجراءات الداخلية وعملية اتخاذ القرار فى الجماعة شهدت بعض التطور خلال ولاية عاكف، فقد جرت خلال الأعوام القليلة الماضية انتخابات فى المستويات التنظيمية كافة فى الجماعة، ولعل الجدل الدائر حالياً فى الجماعة حول مشروعية تصعيد الدكتور عصام العريان إلى مكتب الإرشاد بعد وفاة أحد أعضائه يصب فى هذا الاتجاه، فبقطع النظر عن دوافع الأطراف المتنازعة دار الخلاف حول ما تمليه اللائحة الداخلية، وانصب الجدل حول تأويلاتها، وهو أمر غير مألوف فى الإخوان، إذ إن الغالبية العظمى لا تعرف شيئاً عن اللائحة ولا تكترث بها. المنافسة بين الاتجاهات من الأسئلة المهمة التى طرحتها أزمة تصعيد العريان، التى ستطرح بقوة فى المرحلة المقبلة السؤال عن مساحة التسامح الداخلى الذى ستسمح به الجماعة، فالمد السلفى فى مصر، والضغط الأمنى المكثف والممتد من عام 2006، يدفعان الجماعة فى اتجاه أقل اعتدالاً، واستمرار الظروف الحالية يغذى هذا الاتجاه. فالبنية التنظيمية للجماعة شهدت تحولات كبيرة فى العقد الأخير، لعل أهمها انتقال الثقل التنظيمى من الحضر إلى الريف المصرى الذى شهد صعوداً للتيار السلفى - الوهابى خلال العقدين الأخيرين، وهو ما يؤثر سلباً على مساحات التسامح فى المجتمع المصرى وفى الإخوان. وقد وافق هذا الغلو الفكرى غلو تنظيمى انتهجه من تأثروا بأفكار سيد قطب (زيادة الرقعة الفاصلة بين التنظيم والمجتمع، وتقديم التنظيم على ما يحمله من أفكار، وتأجيل كل أنواع الحوار والنقاش، وزيادة مساحة الصدام والاستقطاب مع الدولة)، وتحالف القطبية مع السلفية يدفع الجماعة فى اتجاه أقل اعتدالاً وأقل تسامحاً، الأمر الذى يغذيه أسلوب التجنيد والترقى فى الجماعة القائم على معايير دينية إجرائية، وعلى «الانضباط التنظيمى» بمفهومه الضيق (حضور اللقاءات، تنفيذ التكليفات بأقل مناقشة) على حساب الإبداع والنقد والتقويم للفكر والتنظيم، وتغذية المواجهة المستمرة مع النظام، التى تزيد من الهاجس التنظيمى لدى عموم الإخوان وتدفعهم لتأجيل كل النقد والتقويم، الأمر الذى يعنى أنه سيدفع بوجوه أقل اعتدالاً إلى القيادة على حساب وجوه إصلاحية أهمها الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح. وفى إطار التنافس بين التيارات المختلفة داخل الجماعة، فإن التحدى الرئيسى المطروح على الاتجاه المحافظ يتعلق بالتسامح مع التيارات الأخرى، وأنصار هذا الاتجاه مختلفون حول هذه القضية، فمنهم من يدرك أن الجماعة فى حاجة إلى التنوع، وأن غيابه يضر بصورتها فى المجتمع وبقدرتها على إدارة عجلة التغيير فيه، كما يؤدى لانقسامات داخلية حادة، ومنهم من ينطلق من قناعات بدور رسالى، وبدعوى الحفاظ على «ثوابت الجماعة»، ويرى فى هذا التنوع تعطيلاً للجماعة، ومسبباً للفتنة، فيحاول تقليص مساحته. ويبدو تيار الإقصاء هو الأقوى فى اللحظة الراهنة، ويمكن النظر إلى رفض تصعيد العريان لمكتب الإرشاد باعتباره مؤشراً على ذلك، فبالإضافة إلى البعد المؤسسى، لا يمكن تجاهل حقيقة أن هذا التيار (الذى تجاوز اللوائح فى مواقف سابقة) قد اجتهد فى استخراج تفسير لها -يخالف ما جرى عليه العمل فى حوادث مماثلة- يقول بأن هذا التصعيد غير جائز لائحياً، ثم عندما تم التصويت على تفسيرات اللائحة صوت مكتب الإرشاد (وهو ليس جهة اختصاص، فالجهة التشريعية هى مجلس الشورى) باستثناء المرشد لصالح التفسير الذى يمنع تصعيد صوت إصلاحى جديد للمكتب. هذا هو ما دفع الشيخ القرضاوى -الذى يمثل مرجعية علمية وفكرية للكثير من الإخوان- لاعتبار أن ما تقوم به القيادات خيانة للدعوة، وهو ما تسبب فى المزيد من التبادلات القاسية حول الإجراءات السليمة. انتخاب مرشد جديد وهذا الأمر سيطل بدوره على انتخابات المرشد الجديد، الذى سينتخب غالباً على أساس موقف الأغلبية من قضيتى المؤسسية فى صنع القرار، وإدارة العلاقات بين الاتجاهات المختلفة داخل الجماعة، وفى إطار الوضع الراهن فإن فرص التيار الإصلاحى تبدو منعدمة، والمرشد المقبل سينتخب بأحد أسلوبين: إما بتوافق الأطراف على شخص لا ينتمى فكرياً إلى أى من المدرستين الرئيسيتين فى الجماعة (كما حدث فى الانتخابات السابقة)، وإن حدث ذلك سيدل على وعى بأهمية التنوع وبخطورة محاولة إلغائه، أما الخيار الثانى فهو اختيار المرشد بالمغالبة، وسيعنى أن الاتجاه الإقصائى فى التيار المحافظ قد قرر «الحسم» دون مراعاة لمخاوف الجناح الإصلاحى، وقد يكون المرشد المقبل من أعضاء التيار السلفى - القطبى (وهو احتمال ضعيف، لكون أعضاء فى هذا الاتجاه يفضلون العمل داخل التنظيم بعيداً عن الواجبات السياسية والإعلامية التى يفرضها الوجود فى القيادة)، وإما عن طريق اختيار مرشد قريب من هذا الاتجاه بحيث يمكن إدارة الأمور من خلاله دون صدامات، وهو الاختيار الأكثر رجحاً، وأما الخيار الثالث فهو اختيار مرشد مؤقت يقود الجماعة إلى حين خروج قياداتها ذات الوزن الثقيل من السجن (خيرت الشاطر، محمد بشر، عبدالمنعم أبوالفتوح) وهدوء الساحة السياسية (الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب عام 2010 وانتخابات الرئاسة 2011) ثم يعاد النظر حينها فى أمر اختيار المرشد، فى ظل ظروف داخلية وخارجية أفضل. ■ إبراهيم الهضيبى كاتب وباحث مستقل ترتكز كتاباته حول الحركات الإسلامية والديمقراطية ■ ينشر هذا المقال باتفاق مع نشرة الإصلاح العربى الصادرة عن مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى www.carnegieendowment.org/arb