مدير تعليم الفيوم يُعلن نتيجة مسابقة 100معلم مُتمكن مُبدع 2 على مستوى المحافظة    البيت الفني للمسرح ينعى الفنان لطفي لبيب    "مدبولي": مصر تكبدت خسائر كثيرة منذ بدء الأزمة في قطاع غزة    الكونغ فو يحصد 12 ميدالية ويتوج بالكأس العام بدورة الألعاب الأفريقية للمدارس    بنتايج يعود للتدريبات الجماعية مع الزمالك    المتهم بارتكاب أفعال فاضحه لجارته بالبساتين ينفي الواقعة    تأجيل دعوى عفاف شعيب ضد المخرج محمد سامي بتهمة السب والقذف    "التعليم" تنفي شائعة تغيير إجابات البابل شيت: تصحيح الثانوية العامة إلكتروني صارم    ضربتها لتقويمها..إنتحار طفلة بالفيوم بالحبة السوداء.. والأم تتهم الجدة بتعذيبها    "أنا الذي".. طرح ثالث أغاني الكينج محمد منير مع "روتانا" على "يوتيوب" (فيديو)    في شهرين فقط.. تامر حسني يجني 99 مليون مشاهدة بكليب "ملكة جمال الكون"    إلغاء ندوتي تكريم محيي إسماعيل وأشرف عبد الباقي بالمهرجان القومي المسرح    "الصحة" تنفي زيادة مساهمة المريض في تكلفة الأدوية بالتأمين الصحي    مستوطنون يقاطعون كلمة سموتريتش ويطالبون بإقالته    وزير الخارجية: مفاوضات غزة جارية.. وبعض المسائل تتطلب جدية وإرادة سياسية من إسرائيل    مقتل 3 جنود جراء إصابة صاروخ روسي موقع تدريب للجيش الأوكراني    محافظ المنيا يتابع نوادي تحسين القراءة والكتابة ويدعم مبادرات التعليم الآمن    اجتماع موسع بشركة الصرف الصحي بالإسكندرية استعدادا لموسم الأمطار    مصر تفتح أبوابها للاستثمار الخليجي: تفاوض نشط وحوافز غير مسبوقة لتعزيز الشراكة الاقتصادية    عاجل.. تشكيل النصر الرسمي لمواجهة تولوز وديا    ناجلسمان: تير شتيجن سيظل الحارس الأول للمنتخب الألماني    وزارة الثقافة تعلن تسجيل مصر مبنى متحف الخزف الإسلامي في سجل التراث المعماري والعمراني العربي    مصر تواجه تونس في ختام الاستعدادات لبطولة العالم لكرة اليد تحت 19 عامًا    رئيس جامعة المنيا يحفّز الأطقم الطبية قبيل زيارة لجان اعتماد مستشفيي الكبد والرمد الجامعيين    ركود السوق يهبط بأسعار الأجهزة الكهربائية 35%.. والشعبة: لا تشترِ إلا عند الحاجة    أهمية دور الشباب بالعمل التطوعي في ندوة بالعريش    برواتب تصل ل50 ألف جنيه.. فرص عمل في البوسنة والهرسك ومقدونيا الشمالية    توقعات الأبراج في شهر أغسطس 2025.. على برج الثور الاهتمام بالعائلة وللسرطان التعبير عن المشاعر    محافظ المنوفية تنهي استعداداتها لانتخابات مجلس الشيوخ 2025 ب 469 لجنه انتخابية    ترامب: الهند ستدفع تعريفة جمركية بنسبة 25% اعتبارًا من أول أغسطس    التحقيق مع صانعة محتوى شهرت بفنانة واتهمتها بالإتجار بالبشر    سباحة - الجوادي يحقق ذهبية سباق 800 متر حرة ببطولة العالم    حركة فتح: إعلان نيويورك إنجاز دبلوماسى كبير وانتصار للحق الفلسطينى    زياد الرحباني... الابن السري لسيد درويش    أحمد درويش: الفوز بجائزة النيل هو تتويج لجهود 60 عاما من العمل والعطاء    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بمجلس الشيوخ    تغطية الطرح العام ل "الوطنية للطباعة" 8.92 مرة في ثالث أيام الاكتتاب    جامعة بنها الأهلية تختتم المدرسة الصيفية لجامعة نانجينج للطب الصيني    مصنعو الشوكولاتة الأمريكيون في "ورطة" بسبب رسوم ترامب الجمركية    ختام موسم توريد القمح في محافظة البحيرة بزيادة 29.5% عن العام الماضي    "زراعة الشيوخ": تعديل قانون التعاونيات الزراعية يساعد المزارعين على مواجهة التحديات    ضبط 30 كجم مخدرات وتنفيذ 609 أحكام في دمياط وأسوان    النيابة العامة: الإتجار بالبشر جريمة تتعارض مع المبادئ الإنسانية والقيم الدينية    الرعاية الصحية تعلن تقديم أكثر من 2000 زيارة منزلية ناجحة    محافظ أسوان يوجه بالانتهاء من تجهيز مبني الغسيل الكلوي الجديد بمستشفى كوم أمبو    انكسار الموجة الحارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة    ما حكم كشف وجه الميت لتقبيله وتوديعه.. وهل يصح ذلك بعد التكفين؟.. الإفتاء تجيب    أبو مسلم: جراديشار "مش نافع" ولن يعوض رحيل وسام ابو علي.. وديانج يمتلك عرضين    علي جمعة يكشف عن حقيقة إيمانية مهمة وكيف نحولها إلى منهج حياة    هل التفاوت بين المساجد في وقت ما بين الأذان والإقامة فيه مخالفة شرعية؟.. أمين الفتوى يجيب    ما معنى (ورابطوا) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)؟.. عالم أزهري يوضح    ملك المغرب يؤكد استعداد بلاده لحوار صريح وأخوي مع الجزائر حول القضايا العالقة بين البلدين    ترامب يكشف عن تأثير صور مجاعة قطاع غزة على ميلانيا    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    رسميًا.. جدول صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 بعد تصريحات وزارة المالية (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. سمير غطاس يكتب: لفات القدس المحتلة (3) .. القدس من زوايا الرؤية الإسرائيلية

قد لايمكن استعادة ما اغتصب منك عنوة من دون أن تحدق بكل قوة فى بؤبؤ عين المغتصب لأنه من الضرورى أن نرى ما يراه هو وليس فقط ما نراه نحن بعيوننا، وينطبق هذا الأمر أيضا على القدس المحتلة التى ينبغى لنا أن نعرف كيف يراها الجانب الإسرائيلى، لأن حالة القدس لا تتوقف عند حدود احتلالها كما احتلت بريطانيا القاهرة أو فرنسا دمشق أو أمريكا بغداد،
وإنما تتجاوزها إلى خطر طمس هويتها وتهويدها بالكامل وابتلاعها فى جوف قدس أخرى كبرى تحيل القدس التى كنا نعرفها إلى مجرد أثر أو أحفورة أو ربما حائط مبكى نتبادل واليهود أدوار النواح ولطم الخدود وذرف الدموع على تاريخها وما تبقى من أطلالها. القدس التى بالكاد نعرفها لا تتجاوز مساحتها كيلو متراً مربعاً واحداً داخل الأسوار العتيقة والتى تحوى داخلها كنيسة القيامة والمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة،
فيما القدس التى يعملون لأجلها هى القدس الكبرى على مساحة تمتد لأكثر من 2800 كم مربع، وهذه القدس التى لا نعرفها هى أكبر كتلة استيطان فى العالم والتى تعود معها القدس القديمة مجرد نقطة أو واحد على3000 تقريبا من مساحتها وهذه القدس الكبرى سوف تقضم 33%من مساحة الضفة الغربية وتترك لمشروع الدولة الفلسطينية المؤجل ثلاثة معازل يحشر داخلها90% من السكان ولا يوجد لا تواصل جغرافى بينها، ولا بينها وبين الأردن أقرب البلاد العربية ومنفذها البرى الوحيد للعالم.
 لكن عندما ندقق النظر أكثر إلى وضع القدس قد يدهشنا القول بأنه رغم كل ما يقال فى إسرائيل عن مكانة القدس وأهميتها فإنها مع ذلك بقيت حتى الآن فى موقع متخلف كثيرا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية عن كثير من المدن الأخرى خاصة عن مدينة تل أبيب حتى إن النكتة الأشهر فى إسرائيل تقول: إن أجمل شىء فى القدس.. هو الطريق إلى تل أبيب،
ويعترف نير بركات رئيس بلدية القدس الحالى بأن «مكانة القدس ساءت كثيرا فى السنوات الخمسة عشرة الأخيرة لأن نوعية حياة الطبقة الوسطى تضررت مما دفع الكثيرين للهجرة من القدس إلى الضواحى وإلى مركز البلاد»، والحديث يدور هناك عن هجرة حوالى 17 ألفاً من السكان اليهود الذين يتركون القدس كل سنة،
وهذا يعنى أن معطيات الهجرة السلبية من القدس تصل إلى حوالى 6 آلاف نسمة كل عام، وقد أفزعت هذه الأرقام الحكومة الإسرائيلية لذا قررت فى يونيو 1998 العمل بكل الطرق للحفاظ على نسبة لا تقل عن 70% من السكان اليهود فى المدينة، ورفع هذه النسبة حتى لا تتجاوز نسبة الفلسطينيين من سكان المدينة عتبة ال20%من إجمالى سكان القدس.
وقد يكون من المفيد أن نتعرف أكثر على خريطة توزيع السكان فى القدس، حيث تسكن الشرائح الاجتماعية المتوسطة من اليهود فى الجزء الغربى من المدينة، فى حين يحتل اليهود الحريديون أى المتدينون المتزمتون شمال المنطقة اليهودية من المدينة وهؤلاء يمثلون الشرائح الاجتماعية المتوسطة– المنخفضة فى القدس، أما السكان الفلسطينيون فيستقرون فى شرقى القدس وهؤلاء ينتمون اقتصاديا إلى الشرائح المتوسطة والمنخفضة اجتماعيا.
ورغم كل ما تبذله إسرائيل من سياسات وإجراءات لتغيير الوضع الديموغرافى فى القدس، فإن هذه المحاولات لا تزال تعانى من إخفاقات غير قليلة، فبعد أكثر من أربعة عقود على احتلال مدينة القدس وضمها إلى إسرائيل ارتفعت نسبة السكان الفلسطينيين فى القدس من 26% عام 67 إلى حوالى 34% عام 2009 فى مقابل انخفاض نسبة اليهود من 74% عام 67 إلى 66% فى العام الماضى،
ومن المؤشرات الأخرى المقلقة لإسرائيل أن نسبة الأطفال الفلسطينيين حتى 14 سنة تصل إلى 43% من الأطفال فى القدس فى هذه المرحلة السنية، ومع ذلك يجب أن نعرف أن نسبة المواليد بين الفلسطينيين سجلت انخفاضا فى السنوات الأخيرة، ووصلت إلى 30 ولادة فقط لكل ألف نسمة بعد أن كانت تصل فى السبعينيات إلى 43 ولادة لكل ألف نسمة من الفلسطينيين فى القدس، كما يجب أن نعرف أن نسبة المواليد باتت متقاربة للغاية بين الفلسطينيين واليهود المتدينين.
ونتيجة زحف اليهود المتزمتين على القدس مقابل فرار وهجرة اليهود المعتدلين والعلمانيين منها تحولت القدس من الناحية السياسية إلى واحدة من أكثر المدن المحافظة واليمينية، وهذا الأمر يبدو واضحا تماما فى إنماط التصويت فى الانتخابات الإسرائيلية للبرلمان– الكنيست- حيث يصوت ثلث سكان القدس تقريبا للأحزاب الدينية المتزمتة مثل يهوديت هتوراة وحركة شاس، ويصوت نصف سكان القدس لأحزاب دينية أو يمينية أخرى، وللمقارنة فإن نسبة المتدينين المتزمتين أى الحريديين لا تتجاوز فى إسرائيل كلها نسبة 7% من السكان يتمركز 30 منهم فى القدس مقارنة بتل أبيب التى لا يعيش فيها سوى 1% فقط من هؤلاء المتدينين،
وتصل نسبة العلمانيين فى إسرائيل كلها إلى44% من السكان، وتوجد أعلى نسبة منهم فى حيفا ثم فى تل أبيب، ورغم الطابع الخشن للغة الأرقام فإنها قد تكون مفيدة للاطلاع على الوضع العام فى إسرائيل والقدس، ولهؤلاء الذين يتعاملون بالموازين الحساسة للسياسة التى لا ترى أن كل اليهود يهود كما كل القطط سوداء فى حلكة الظلام.
كان ديفيد بن جوريون أعلن فى 10/12/1949 القدس عاصمة لدولة إسرائيل، وربما لا يعرف الكثيرون أن ذلك لم يكن موضع إجماع حتى إن موشيه شاريت أول وزير خارجية لإسرائيل قدم استقالته للاحتجاج على هذا القرار قبل أن يعود فيها، ولم يكن ذلك مجرد تمثيلية أو توزيع أدوار، لأنه من يومها وحتى الآن لا يزال هناك العديد من الاصوات ذات الوزن الاعتبارى، التى لا تقيم وزنا كبيرا للقدس كعاصمة لدولة إسرائيل، ففى عام 1986 كان البروفيسور دان ميرون الحائز على جائزة إسرائيل، كتب ما يلى فى صحيفة «دافار»: «إن القدس هى الورم المفتوح الذى ينتشر فى الجسم كله، هى مكان سكن قاسٍ ومتبجح، وستخرج من القدس نار الحرب الأهلية، التى نتقدم نحوها خطوة بعد خطوة،
 ومن هنا من مدينة البرلمان والحكومة ستخرج القوى، التى ستحاول قمع أو إلغاء الديمقراطية، ومن هنا من مدينة المحكمة العليا ستصدر الدعوة إلى تعليق سلطة القانون فى الدولة» وهذه النبوءة تكاد تتحقق بعد سيطرة المتدينين المتزمتين على القدس، التى تشهد المزيد من الصدامات مع الشرطة، بسبب مطالبتهم بفرض الشريعة على كل مناحى الحياة فى القدس، ويبدو واضحا أن هناك خطاً واحداً يجمع ما بين كل المتدينين المتزمتين على اختلاف دياناتهم وجنسياتهم ودولهم، من جهته كان الأديب الشهير عاموس عوز، الحائز هو الآخر على جائزة إسرائيل،
كتب ما يلى: «ستكون القدس مدينة يسافر الناس من إسرائيل إليها كما يسافرون إلى خارج البلاد، وكأنهم يريدون رؤية الماضى، وفى الحرب بين القدس وتل أبيب أؤيد بالطبع تل أبيب لأنها تمثل السلامة العقلية والعلمانية والحاضر أما القدس فهى تمثل الماض، ومن الخطورة أن يعيش المجتمع فى الماضى، لأن هذا مرض يقتل الإنسان»،
وكتب يوسى ميلمان فى «هآرتس» مؤخرا فى 6/12/2009 «إن 42 سنة من الحكم الإسرائيلى فى القدس الموحدة لم تحسن الوضع فيها، فقد أصبحت بعد كل هذا إحدى المدن الفقيرة القذرة والضعيفة فى إسرائيل، مدينة يهجرها العلمانيون والشباب»، ويشعرون فى إسرائيل بالمرارة من اضمحلال الصلة بين الشباب والقدس، وكان استطلاع أجرى فى الجيش العام الماضى أظهر أن نصف الجنود لم يزوروا القدس أبدا، ومن أجل ذلك أقيم مشروع حديث يدعى «تجليت» يختص بجلب أكبر عدد من الشباب من مختلف أرجاء إسرائيل، لزيارة القدس ومحاولة ربطهم بتراثها اليهودى.
لكن هذه الحالة يجب ألا تخلق لدينا أى أوهام حول وجود تغيير كبير فى الموقف السياسى لدى الرأى العام الإسرائيلى من موضوع القدس، إذ لا تزال هناك أغلبية كبيرة فى الرأى العام الإسرائيلى تؤيد الاحتفاظ بما يسمى القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، صحيح أنه سجل انخفاضاً فى نسبة هذا الموقف بمقدار 10-15 فى المائة، لكن الرأى العام الإسرائيلى سجل فى اغلب استطلاعات الرأى نسبة تصل إلى 65-70% من التأييد لما يسمى القدس الموحدة،
وفى رأى المحللين هناك أن هذا الموقف لا يعود إلى المعتقدات الدينية أو الصهيونية بقدر ما يعود إلى الاعتقاد الغالب بأن تقسيم القدس إلى عاصمتين واحدة إسرائيلية والأخرى فلسطينية لن يؤدى إلى نهاية الصراع بل على العكس سيشجع الفلسطينين على مواصلة هذا الصراع لا نتزاع تنازلات أخرى بعد الحصول على القدس الشرقية، وكان هذا الاعتقاد قد تعزز بقوة لدى الرأى العام الإسرائيلى بعدما نجح الليكود فى إثارة المخاوف الإسرائيلية من تجربة الانسحاب الأحادى من قطاع غزة،
وتفكيك كل المستوطنات هناك واستمرار إطلاق الصواريخ مع ذلك من غزة على البلدات والمدن الإسرائيلية، ولهذا كله تتضح صعوبة المفاوضات بشأن القدس، خاصة فى ظل الائتلاف الحكومى اليمينى فى إسرائيل، الذى أعلن على لسان نتنياهو فى بيان الحكومة فى 31/3/2009، وفى خطاب جامعة بار إيلان فى 16/6/2009، ومن على منصة الأمم المتحدة فى23/9/2009 أن القدس الموحدة ستبقى عاصمة أبدية لإسرائيل.
من جهة أخرى يولى العسكريون فى إسرائيل أهمية كبرى للاحتفاظ بالقدس من منظور أمنى باعتبارها ركنا أساسيا فى استرتيجية الدفاع عن إسرائيل، ومن دون أدنى علاقة أو صلة بالبعد التاريخى أو الدينى اليهودى أو الأيديولوجى الصهيونى لمدينة القدس، لأن القدس بطبيعتها الطوبوغرافية والجغرافية تتحكم فى القلب الحيوى لإسرائيل، الذى تتركز فيه معظم الصناعات الكبرى والتكنولوجية المتقدمة وأغلبية السكان أيضا،
وكان إسحق رابين قال فى الكنيست قبل شهر واحد من اغتياله إن الاحتفاظ بالسيطرة على منطقة القدس أمر ضرورى للسيطرة على غور الأردن، بدعوى أن إسرائيل يمكن أن تواجه خطر عدو يتقدم على الجبهة الشرقية أى من محور العراق– الأردن، ونظرا لأهمية هذا الاعتبار يجرى تسريع عملية توسيع حدود القدس لتستند هذه الحدود على خط التماس مع نهر الأردن، وتقطع الطريق أيضا على أى تواصل بين الأردن والدولة الفلسطينية، التى إذا أنشئت ستبقى حينها كمجرد جيب معزول فى حاضنة دولة إسرائيل.
وفضلا عن كل ذلك فإنه تبقى للقدس بالطبع أهمية اقتصادية كبرى من وجهة النظر الإسرائيلية، لأن الجهة التى ستحتفظ بالسيادة على القدس بما فيها البلدة القديمة داخل الأسوار حيث المقدسات المسيحية والإسلامية هى التى ستسقط فى خزانتها العوائد الكبرى المنتظرة من عشرات ملايين السائحين والحجاج وزوار المدينة المقدسة، ورغم التوتر وعدم الاستقرار الذى يسود المنطقة فقد سجل العام الماضى زيارة مليون ونصف المليون سائح للقدس،
وإذا تحسنت الظروف واستقرت فإنه يتوقع حدوث طفرة كبيرة فى هذه الأرقام بما يؤدى إلى إنعاش الاقتصاد الإسرائيلى بمليارات الدولارات وتوفير 150 ألف فرصة عمل جديدة للشباب الذى يهرب من القدس، وبالنتيجة أيضا تتمكن إسرائيل من تعديل الميزان الديموغرافى لصالح الأغلبية اليهودية وعلى حساب الفلسطينين المقدسيين،
وقد يكون من الضرورى هنا الحديث بتفصيل أكثر عن أوضاع هؤلاء الفلسطينيين المقدسيين، الذين يضيع الحديث عن أوضاعهم المأساوية فى غمرة التركيز أحادى الجانب على المخاطر، التى يتعرض لها المسجد الأقصى والمقدسات المسيحية والإسلامية فى القدس. كان الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية حازوا الجنسية الأردنية بعد قيام الأردن بضم الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى إمارة شرق الأردن وتكوين المملكة الأردنية الهاشمية عام 1950،
واستمر هذا الوضع حتى هزيمة 67 عندما أعلنت إسرائيل ضم القدس الشرقية فاحتفظ المقدسيون بالجنسية الأردنية وبوضع مقيم دائم فى دولة إسرائيل، ولكن عندما أعلن الملك حسين فى عام 1988 فك ارتباط الأردن عن الضفة الغربية بما فيها القدس فقد المقدسيون الجنسية الأردنية، وصاروا بدون مواطنة ولا يحق لهم حمل جواز سفر إسرائيلى وبدون حقوق سياسية،
وتفاقمت أوضاعهم السلبية بعد بناء جدار الفصل العنصرى حول القدس الذى عزلها كلها عن الضفة الغربية، وأخرج هذا الجدار العنصرى أكثر من عشر بلدات فلسطينية إلى خارج حدود القدس تماما، فيما قسم هذا الجدار بعض البلدات إلى قسمين مجموعة بقيت داخل القدس والأخرى خارجها، مثلما حدث فى بيت حنينا وأبوديس. ويرفض المقدسيون المشاركة فى انتخابات بلدية القدس لأنها تعنى قبولهم وموافقتهم على الوضع غير الشرعى للقدس الموحدة، ويدفع المقدسيون الضرائب،
ولذا يشملهم التأمين الوطنى لكنهم مهددون دائما بسحب هوياتهم الزرقاء وإبعادهم عن القدس، وكان مركز الدفاع عن الفرد كشف من واقع سجلات وزارة الداخلية فى إسرائيل أرقاماً مفزعة عن سحب إقامة 4577 مواطناً فلسطينياً مقدسياً فى عام 2008، وهو رقم قياسى يعادل 20 ضعفا لسحب المواطنة الذى جرى خلال الأربعين سنة الماضية ما يؤشر إلى تصاعد حجم الهجمة الإسرائيلية للتطهير العرقى والعنصرى،
ورغم كل هذه المعاناة فإن المقدسيين يطورون أساليب حياة تعينهم على البقاء والصمود، ولا يكتمل الحديث عن القدس والمقدسيين دون الإشارة إلى الدور التاريخى الذى لعبه فيصل الحسينى ابن الشهيد عبدالقادر الحسينى فى صمود القدس بل تحويلها إلى عاصمة سياسية بكل معنى الكلمة لفلسطين. كان فيصل قد حول بيت الشرق فى القدس إلى ما يشبه وزارة الخارجية التى لم تنقطع عنها زيارة القناصل الأجانب،
وكان الحسينى فى نفس الوقت يعايش المقدسيين فى الشارع ويتقدم صفوفهم فى المظاهرات وأشكال الاحتجاج على مصادرة الأراضى ويتصدى بصدره العارى للجماعات الدينية المتطرفة ولقوات الأمن الإسرائيلية، لكن فارس القدس ترجل أخيرا عندما توفى أثناء زيارته للكويت فى 31/5/2001، ونقل جثمانه إلى رام الله ومن ثم حملته الجماهير واقتحمت معه كل الحواجز إلى القدس حيث رقد فى مثواه الأخير فى المسجد الأقصى، وقد أدرك شارون وقتها خطورة هذا المشهد الذى استعادت فيه الجماهير، ولو مؤقتا، السيادة الفلسطينية على القدس،
فأمر شارون بإغلاق بيت الشرق وكل المؤسسات التى كانت السلطة الفلسطينية قد أقامتها فى القدس الشرقية، ما ضاعف من خطورة أوضاع المقدسيين الذين يمنحون القدس ومقدساتها عنوانها وهويتها. بقى أن نشير إلى الجماعات اليهودية الدينية المتطرفة التى تسعى لهدم المسجد الأقصى بدعوى إقامة الهيكل على أنقاضه، كان كبار الحاخامات أصدروا فتوى شرعية بعد 67 بعدم جواز دخول اليهود باحة المسجد الأقصى وإقامة الشعائر الدينية هناك باعتباره موقعا مقدسا لا يجوز تدنيسه، لكن هذه الفتوى لم تصمد أمام فتاوى حاخامات التطرف الدينى، والتى تشكلت على أساسها الجماعات المتطرفة التى تنشط الآن فى القدس،
ويمكن إحصاء ما لا يقل عن 12 من هذه الجماعات المتطرفة التى يقودها فى الغالب واحد أو أكثر من الحاخامات ومن أبرزها جماعة أحباء الهيكل ويتزعمها الحاخام هليلوايز، وجماعة رأس الهيكل ويتزعمها الحاخام مايكل بن حورين، والحركة مناجل الهيكل ويتزعمها الحاخام يوسف البويم، ومدرسة الفكرة اليهودية، وجماعة أمناء الهيكل، وحركة حراس الكهنة، وجماعة كاخ، ومنظمة التاج الكهنوتى، وحركة إعادة التاج، وهذه الجماعات تقتحم باحة المسجد الأقصى فى حماية الشرطة الإسرائيلية، وكانت زيارة شارون الشهيرة لباحة المسجد الأقصى عام 2000 قد أسهمت فى تقويض حكومة باراك، واندلاع انتفاضة الأقصى.
فى إطار الحرص على عرض صورة القدس من زوايا الرؤية الإسرائيلية بأبعادها المختلفة يبقى مصير القدس معلقا بين خيارات عدة: انتظار صلاح الدين، أو المطالبة بالعودة لصيغة التدويل حسب قرار التقسيم رقم 181 الصادر فى 29/11/1947 أو الصيغة الأولى التى اقترحها الوسيط الدولى برنادوت بإعادة القدس الشرقية للدولة الفلسطينية قبل أن يعود لاحقا عن اقتراحه هذا ويتمسك بتدويل القدس وتغتاله جماعة شتيرن الصهيونية المتطرفة،
أو قبول صيغة كلينتون للسيادة متعددة الطبقات التى اقترحها فى قمة كامب ديفيد سنة 2000، أو صيغة وثيقة جنيف غير الرسمية التى صدرت فى 1/12/3003، واقترحت تبادل الطرفين الاعتراف بالقدس عاصمة لكل منهما مع سيادة فلسطينية على الحرم القدسى الشريف وسيادة إسرائيلية على حائط البراق المبكى،
أو صيغة أولمرت التى يقول إنه اقترحها على أبومازن فى 16/9/2008 لوضع الحوض المقدس تحت إدارة دولية بدون سيادة لأى طرف، وتتشارك فى إدارته الأردن والسعودية وإسرائيل والفلسطينيون وأمريكا، أو مشروع القرار الأوروبى الذى تبنته السويد– وأجهض بالتصويت-
ويقترح الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية قبل أن تقام، أو نقبل العودة لطاولة المفاوضات أو نرفضها.. وإلى أن نحسم خياراتنا تكون الجرافات حفرت أساسات مستوطنة جديدة وهديرها يطغى على صوت فيروز وهى تغنى: «القدس لنا وللقدس سلام آت، آت.. آت؟؟!!».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.