وأخيراً يبتدع نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل دعوي باطلة يرددها علي مسامعنا، ومعه وزير خارجيته ليبرمان، ويعلنها في الكونجرس الأمريكي الذي استقبلها بالتصفيق والاقتناع، كما تمسك بها في لقائه بالرئيس الأمريكي أثناء خلوتهما في البيت الأبيض ومفادها انه لا مجال للضغط علي إسرائيل لإيقاف مشروعها في بناء 1400 مستعمرة علي أرض القدس، وحجته الصهيونية في ذلك أن القدس ليس مستعمرة، وإنما هي عاصمة إسرائيل الأبدية، ولإسرائيل حرية التصرف فيها. وهو بذلك يستند إلي دعاوي مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل القديمة بالاغتصاب والتدمير لكل شيء ليس مقدساً عند اليهود، إذا ما حصل يوماً علي مدينة القدس. ويقول بن جوريون في هذا الصدد إنه (لا معني لإسرائيل بدون القدس، ولا معني للقدس بدون الهيكل "هيكل سليمان". وعندما نبني الهيكل مكان المسجد الأقصي في القدس سوف نتوقف عن البكاء والحداد عند حائط المبكي). وظلت سياسة تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها مسعي رئيسياً في الشريعة الصهيونية منذ بداية حرب 1948 بتخويف المقيمين من البقاء في مساكنهم، مما اضطر آلاف الفلسطينيين إلي النزوح إلي الأقطار العربية المجاورة. ومع مرور الزمن ونشوة الاحتلال الإسرائيلي يشتط سعار الصهاينة في الاستيلاء علي التراب الوطني الفلسطيني. ويذهب فريق منهم إلي الدعوة بنقل جميع الفلسطينيين من الأرض المحتلة إلي حيث يشاءون من بقاع أخري علي ظهر هذا الكوكب، فيما عرف بسياسة (الانتقال) Transfer. وتستمر في الوقت ذاته سياسة التهجير والاستيطان وبناء المستعمرات التي تحول كثير منها إلي مواقع عسكرية. وبتواصل بناء المستعمرات حتي اليوم ممارسة عميقة الجذور في الايديولوجية الصهيونية، وحيث يتفرد الاحتلال الإسرائيلي من بين نظم الاستعمار عبر التاريخ البشري باغتصاب الأرض والاستيلاء عليها بالعنف وبالسلاح من مالكيها بدعوي تحرير أرض الأجداد والعودة إلي أرض التوراة الموعودة (ايرتس إسرائيل) وأرض إبراهيم واسحق ويعقوب. وارتبطت سياسات قضم الأرض المحتلة بمحاولات تهويد القدس والاعتداء علي المقدسات الإسلامية والمسيحية بها ومن أفظعها إشعال النيران في المسجد الأقصي وقبة الصخرة صبيحة يوم 21/8/1996، ومواصلة الحفريات حول المسجد لهدمه بدعوي الوصول إلي "معبد الهيكل". كذلك لن ننسي فاجعة الحرم الإبراهيمي حين أطلق إسرائيلي مجرم الرصاص علي أولئك الركع والسجد في صلاتهم ، وفي فجر يوم تستقبلون فيه صيام شهره الكريم. وقد تضمنت بدعة نتنياهو ضم هذا الحرم الإبراهيمي مع الأقصي ضمن صيحته بأن القدس ليست مستعمرة وإنما هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وأن كل ما استولوا عليه وأقاموا عليه من المستعمرات في الضفة والقطاع هي (أرض محررة وليست أرضاً محتلة). الايديولوجية الصهيونية تلك هي عقيدة الايديولوجية الصهيونية التي انغمس فيها عقل نتنياهو وقلبه وكل كيانه مع حزبه من غلاة الليكود. وحسبنا هنا باختصار أن نُذكِّره ونذكر أنفسنا بالحقائق والقرارات المتعددة التي صدرت حول هوية القدس العربية والتي لم تعترف بأنها من أرض إسرائيل، بل عاصمتها الأبدية. ومن أهمها: 1- لقد اعتبر مجلس الأمن في قراره عام 1947 في خطة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود بأن للقدس (وضعاً خاصاً). وقد أدرك مجلس الأمن ما لإسرائيل من أطماع في تلك المدينة، فقرر أنه لن يقبل عضوية إسرائيل في الأممالمتحدة، إلا بعد أن تتعهد بقبول وضع المدينة الخاص (مايو 1949). ولم تمض سبعة أشهر علي قبول إسرائيل لذلك الوضع للمدينة المقدسة، حتي علت صيحات بن جوريون معلناًِ (القدس هي قلب إسرائيل). 2- وتأتي حرب 1967 وما ترتب علي نهايتها من إصدار القرار 242 الذي أكد فيه مجلس الأمن عدم السماح للاستيلاء علي الأرض عن طريق الحرب، مطالباً إسرائيل بالانسحاب دون شرط من الأراضي التي احتلتها في ذلك الوقت. ولعل نتنياهو يتذكر ما جري من صخب ومماطلة وقرارات في تنفيذ ذلك الإجراء، بحجة الاختلاف في تفسير نص القرار بين اللغتين الانجليزية والفرنسية، وهل المقصود الانسحاب من (الأراضي المحتلة) أم (من أراض محتلة). وجاءت تفسيرات الدول الكبري تحديداً بأن الأراضي المحتلة هي الضفة بما فيها القدسالشرقية وقطاع غزة وسيناء والجولان. وعقب الاحتلال مباشرة تصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارات تدين فيها إجراءات إسرائيل لتغيير وضع القدس، وطالبتها بالرجوع عنها. كذلك أصدر مجلس الأمن قرارات عدة منذ إبريل 1968، 1969، 1970، 1971 معلنة أن إجراءات إسرائيل لتهويد القدس كعاصمة يهودية غير صحيحة، وتشجب محاولات إسرائيل لتغيير وضع القدس. بيد أن إسرائيل تحدت كل تلك القرارات، وانتهي ذلك التحدي للمجتمع الدولي في 30 يوليو 1980 بإصدار الكنيست ما عرف باسم القانون الأساسي معلنا ضم القدس بشطريها، واعتبار (القدس الموحدة بكليتها هي عاصمة إسرائيل). وعند هذا الحدث تتوقف أحداث التاريخ عند نتنياهو لدعم أيديولوجيته الصهيونية في اعتبار القدس عاصمة إسرائيل وليست مستعمرة من المستعمرات. 3- وفي خطابه أمام الكونجرس في الشهر الماضي يختلط عليه التاريخ الذي يعنيه حين يؤكد تلك العلاقة التي لا جدال فيها بين الشعب الإسرائيلي والقدس منذ ثلاثة آلاف عام أي حوالي ألف سنة قبل الميلاد حين شيد اليهود القدس إذ ذاك، كما يقومون ببنائها اليوم. ولم تثبت الحفريات الأثرية أو سجلات التاريخ الآشورية أوالبابلية أو الفرعونية أي إشارة لوجود إسرائيلي في الأرض المزعومة في تلك الأيام الموغلة في القدم، بل لم يكن للقدس أصلاً وجود في ذلك التاريخ. 4- لا يتسع المقال لما خضعت له فلسطينوالقدس لمختلف الحكومات منذ الآشوريين والبابليين والرومان والخلافة الإسلامية والدول المصرية الإسلامية والحكم العثماني والبريطاني. وظل اليهود في حالة الشتات (الدياسبورا) قروناً عديدة، (وبقيت جماعة من أتقيائهم في القدس وصفد ومدن قليلة أخري متفرغة في المقام الأول إلي العبادة والدراسات المقدسة. إن اليهود القدامي لم يطمحوا إلي سيطرة سياسية علي البقعة المقدسة، وظلوا متمسكين بعقيدتهم الصحيحة التي كانت تحرم عليهم ذلك الطموح. وظلت علاقات السلام سائدة بين العرب واليهود حتي هبطت علي الأرض موجة وراء موجة من المهاجرين من اليهود غير المتدينين، وقد ترسخت في تفكيرهم النزعة إلي السيطرة والهيمنة السياسية والرأسمالية.. وهنا بدأ السكان الفلسطينيون في اتخاذ مواقف المواجهة. وفي الموقف الحاضر، وفي هدي الأخلاقيات البسيطة فإن السيادة السياسية من حق أولئك الذين عاشوا هناك خلال القرون الماضية، ألا وهم الفلسطينيون). اليهود الارثوذكس ذلكم هو موقف الطائفة اليهودية المعروفة باسم « اليهود الأرثوذكس ضد الصهيونيةAnti - Zionist Orthodox Jews » وما سبق هو اقتباس من أحد بيانات رئيس كهنتها الحاخام (دوفيد وايس) عام 2006. وهي طائفة منتشرة في أمريكا وأوروبا وكندا، ولها كيانات شرعية مؤسسية في كثير من مدن تلك الدول. ومن أهم عقائدها أنه (دون النور الإلهي المنبثق من التوراة، يتغلب نقيضه من العوامل المادية، وتشيع المآسي التي أحاطت باليهود خلال القرنين الماضيين. أن هذا النقيض قد خالف رؤية الخالق لهذا العالم: عالم يتسم بالتنوع، وفي صورته المثالية يتسم بالتناغم) ومن ثم فإن هذه الطائفة في عداء سافر للصهيونية ولدولة إسرائيل. ولها احتجاجات وبيانات جماعية في مناسبات مختلفة تدين الجرائم الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل، وتعلنها في مظاهرات أمام الأممالمتحدة في نيويورك، وفي واشنطن، ومونتريال، وفي جينيف وفي لندن وفي القدس. وهكذا لا نجد لدي هذه الطائفة اليهودية مبرراً أو سنداً من تاريخ اليهود أو في التوراة مما يبرر اغتصاب القدس وتهويدها، بل وحتي في احتلال أي موقع من أرض فلسطين كلها. لكنها الشريعة الصهيونية العنصرية الوحشية التي تساندها طموحات الدول الكبري في الهيمنة علي مصائر الشرق الأوسط. 5- ومما تنساه أو تتناساه أو تتحداه إسرائيل وغلاة الصهاينة من حكامها من أمثال نتنياهو عقب احتلالها للأرض العربية بعد حرب عام 1967، قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة إذ ذاك. ومفادها بأنه علي إسرائيل كدولة محتلة لأرض عربية ومنها القدسالشرقية أن تراعي وتلتزم بالقوانين الدولية المتمثلة في اتفاقية جنيف الرابعة عام 1949، ونظم لاهاي عام 1907 التي تحرم القوي المحتلة من السعي إلي تغيير أساليب الحياة لمواطني الأرض التي تحتلها، كذلك تحرم توطين أي أشخاص من مواطنيها في الأرض المحتلة. وبذلك يصبح ما جري من طرد الفلسطينيين من أرضهم ومساكنهم وتوطين إسرائيليين فيها انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. ومما يثير السخرية مزاعم إسرائيل إذ ذاك بأنها لا تحتل أرضاً للفلسطينيين لأنه لا دولة لفلسطين، وأن الإسرائيليين يبنون مستعمراتهم علي أرض فضاء لا سكان فيها، رغم ما يقومون به حتي اليوم من إجبار السكان الأصليين علي مغادرة مساكنهم بكل وسائل العنف والإرهاب وإحلال إسرائيليين أو مهاجرين مكانهم. 6- من أباطيل نتنياهو التي أعلنها في زيارته لواشنطون أخيراً أن موقفه بالنسبة للقدس إنما هو استمرار لسياسة الحكومات الإٍسرائيلية السابقة منذ عام 1967، والواقع أن الحكومات الإسرائيلية لم تكن علي اتفاق تام أو موقف متسق فيما يمكن أن يتم التعامل معه في قضية القدس والضفة الغربية، وهذا في مخالفة لما يقرره نتنياهو في زيارته الأخيرة لواشنطن. ففي أعقاب مؤتمر أوسلو للسلام كان من بين تصريحات رئيس الوزراء إسحق رابين أن إسرائيل علي استعداد للانسحاب من أراضٍ للفلسطينيين، مع السماح لهم بإقامة دولتهم. وهو وعد أدي إلي اغتياله من أنصار اليمين المتطرف الذي يعتبر نتنياهو من قادته. كذلك نجد أنه في عام 2000 قام رئيس الوزراء إيهود باراك بتقديم تأكيدات شفهية بأنه يمكن أن يستعيد الفلسطينيون الضفة الغربية، وان تتم بعض الإجراءات التي يمكن من خلالها أن تصبح القدسالشرقية عاصمة لهم. لكن نتنياهو أراد أن يخدع الجمهور والكونجرس الأمريكي بأن سياسته بالنسبة للضفة الغربيةوالقدسالشرقية هي سياسة جميع الحكومات السابقة، وليست سياسة الجناح اليميني المتطرف من حزب الليكود، ومن لف لفه من الأحزاب المتطرفة. وعد بلفور 7- نأتي أخيراً إلي الصراع بين العرب وإسرائيل حيث اعتمد اليهود في شرعية احتلال الأرض علي وعد بلفور عام 1917 وفي هذا الصدد نشير إلي تلك المناظرة التي دارت بين المؤرخ البريطاني الشهير (ارنولد توينبي) وبين سفير إسرائيل في كندا (باكوف هرتزوج) ورئيس دولة إسرائيل السابق، وكان ذلك في مدينة مونتريال كندا بتاريخ 31 يناير 1961. وهي مناظرة طويلة يقرر فيها ذلك المؤرخ المنصف حق الفلسطينيين في أرضهم المغتصبة وعودة اللاجئين إليها. كذلك يؤكد توينبي (أن وعد بلفور في فقرته الأولي ينص علي أن بريطانيا تتعهد بتأييد أو إقامة - أو شيء من هذا القبيل - وطن قومي لليهود في فلسطين. أما الفقرة الثانية فتنص علي ألا يتخذ أي إجراء من شأنه المساس بمصالح سكان البلد الذين كان العرب يؤلفون منهم إذ ذاك - أي عام 1917، حوالي 90%). ويتابع تويبني في مناظرته (وأنا أوجه اللوم إلي تصريح بلفور، لأن كلمته "وطن" قد أتت علي نحو غامض. لكن الوثائق البريطانية توضح الأمر غاية الوضوح، وبصورة قبلها الدكتور وايزمان إذ ذاك، من أن كلمته "وطن" لا تعني "دولة". ولو كان الأمر كذلك لكانت الفقرة الأولي تناقض الفقرة الثانية. وفي الفقرة الثانية التزام لا يقل إيجاباً أو حجية بالنسبة للحكومة البريطانية، والتي يفرض عليها أن لا يقع أي حيف بحقوق السكان الأصليين الحاليين في البلاد). المناظرة حاسمة في تحديد موقف توينبي من الاحتلال الإسرائيلي وسعيه لاغتصاب الأرض وعودة اليهود إلي أرض الميعاد. وحتي حق عودة اليهود إلي أرض الميعاد فإن توينبي يدخضها في حجته بأن (كل أشكال القانون تقول بسقوط الحق نتيجة التقادم، إذا أخذنا مثلاً عام 135م باعتباره التاريخ الذي قام فيه الرومان بطرد الجانب الأكبر من سكان فلسطين اليهود). فإن الطريق الوحيد هو استعادة الأرض المغتصبة والتمسك بإقامة دولة فلسطينية علي تراب وطنها وعاصمتها القدس. بهذا تحددت المطالب القومية في هذا الصراع العنيف ومعها وحدة الدول العربية وصلابة موقفها وقناعتها باعتبارها المدخل الوحيد لتحقيق تلك المطالب. ومما يحزن أن تقتصر مواقف العرب منذ ثلاثة عقود علي مواجهات حائلة، وإرادات قاصرة، وإذعان لخدع أجنبية، واجتماعات قمم عربية مظهرية مفككة، في الوقت الذي احتل فيه الإسرائيليون الأرض، ورسخوا دعائم دولة يهودية. وتتواصل دون انقطاع عملية التهويد انتهاء باعتبار القدس بشطريها عاصمة أبدية لدولتهم. والفلسطينيون فريقان لا يلتقيان في جهود مصر للمصالحة، وطريق المفاوضات المباشرة وغير المباشرة مليء بالعقارب والأفاعي الداخلية والخارجية وبالانقسامات في استجاباتها دون موقف جماعي صلب حاسم. وهذا بينما نتنياهو يسارع في عمليات التهويد، تهويد أسماء الشوارع، وتدشين بناء (الكنيس الخراب) في مواجهة الأقصي، واعتبار المقدسات الإسلامية ضمن ممتلكات إسرائيل، ويسمي المسجد الأقصي ب(جبل الهيكل)، كما يسارع بجمع التبرعات لبناء الهيكل من خلال شعار (ادفع شيكل لبناء الهيكل). وهكذا تكثفت مختلف الإجراءات والمصادرات الإسرائيلية لاستكمال تهويد القدس بإضفاء الصيغة اليهودية علي معالمها ومقدساتها، وطمس أي طابع عربي للأراضي المحتلة!! نحن العرب نواجه أزمة عاتية ومسئولية تاريخية داهمة في هذه الأيام لم يسبق لها مثيل في تعقدها وفي خيبتنا وهواننا خلال المراحل السابقة للصراع العربي الإسرائيلي. وأتساءل هل سنواصل هذا الشلل الكامل في كياننا؟! (أمجاد يا عرب أمجاد!!) أم مع نزار قباني: وهو يتساءل: هل نامت خيول بني أمية كلها خجلاً ولم يبق لها سوي النحو والإعراب؟!!