أستعين بالله وأتوكل عليه فى أول سطور هذا المقال الذى لا أعرف إلى أين يقودنى.. وقبل الدخول فى الموضوع أحيى أستاذتى فى مادة اللغة العربية فى المرحلة الإعدادية السيدة السورية نادرة شنن، فهى أول من علمنى وشجعنى على حب «التعريفات»، ولا أقصد نصف القرش الذى اندثر وتحول إلى أثر، وإنما تعريف الأشياء والكلمات والمصطلحات.. عملية ذهنية شاقة وشيقة جدًّا فى نفس الوقت، كانت المرة الأولى حينما طلبت منا تعريف «الشباب»، فما كان من زملائى إلا أن ذكروا كل العبارات المتداولة ك «بناة الغد»، و«فرسان المستقبل»، وقلت أنا مُعَرِّفًا الشباب بأنهم: «كل بالغ عاقل لم يضعفه كبر السن»، لأفاجأ بتصايح الأستاذة نادرة شنن إعجابًا بالتعريف الذى طرحته وتأكيدًا على أنه الوحيد الذى يدخل فى تصنيف التعريفات، بعد ذلك بسنوات أدركت وتعلمت أن التعريفات هى الأساس فى التعرف على الأشياء ووضع رؤية تقوم على حقائق مستقرة. أهنئ الشرطة فى عيدها الذى أسعد المصريين جميعًا بيوم إجازة إضافى يرشحنا لدخول موسوعة جينيس للأرقام القياسية فى باب عدد أيام الإجازات العامة السنوية.. أستجمع شجاعتى، وأسأل عن سر تغيير الشعار الذى نشأنا عليه «الشرطة فى خدمة الشعب» إلى «الشرطة والشعب فى خدمة الوطن»، وقبل أن أمضى فى هذا التساؤل أحاول تعريف «الوطن»: ما هو الوطن؟ الوطن الذى أعرفه هو قيمة ذات أبعاد عديدة، منها المكان ممثلاً فى أراضٍ ومسطحات مائية وسماوات، ومنها الزمان ممثلاً فى تاريخ ممتد إلى حيث تتوقف الذاكرة أو القدرة على التسجيل، وهو قبل الزمان والمكان إنسان.. شعب له هوية وملامح مشتركة، له هموم وطموحات، الوطن، إذن لا يمكن تعريفه إلا بشعب، حتى لو تحدثنا عن منطقة جرداء.. سنقول إنها وطن الزواحف والعقارب.. لا وطن إلا بمواطن، لا وطن إلا بشعب، فكيف بنا نقبل الشعار الجديد «الشرطة والشعب فى خدمة الوطن»؟! أزعم أنه خطأ لابد من تصحيحه حتى لا يفهم الخبثاء مثلى أنه يعبر عن محاولة التخلص من مسؤولية خدمة الشعب التى اختارتها الشرطة فى زمان غير بعيد. نسى صائغ هذا الشعار المعوج أن خادم القوم سيدهم، كما نسى أن العمل العام كله يقوم على خدمة الشعب. ومن باب حسن الظن أقول: لعل صائغ هذه العبارة لم يقصد أن تتخلى الشرطة عن خدمة الشعب بمشاكله الكثيرة، وتتفرغ لخدمة فئة أخرى لها تصنيف أرقى من الشعب يرمز لها فى هذه الحالة بالوطن.. أشعر فى كل مرة أقرأ فيها هذه العبارة أو أتذكرها أن فى نهايتها غمزة عين تعنى «والحدق يفهم» أو كلمة «فاهم» التى وردت فى أغنية: «اوعى تكلمنى بابا جاى ورايا.. ياخد باله منى يزعل ويّايا.. فاهم»، وفاهم هنا بمعنى عَكْسِىٍّ تمامًا كما يعلم خبراء الغرام والشرطة، شعار مشبوه بكل المقاييس، ومخالف تمامًا لما تعلنه الشرطة من حرص على مصالح المواطنين، وأمنهم، وحفظ الحقوق، وضمان السلامة والاطمئنان للجميع بغير تمييز أو تصنيف يحدد الأولويات. الحكمة التى ورطتنى فى هذا المثال هى أهمية الكلمة وقيمتها فى أى عبارة تُكَوِّنُهَا، وتأثير ذلك كله على الرؤية والتوجه، تغيير الكلمات فى صياغة شعار الشرطة أَدَّى إلى تغيير نظرة الشرطى والضابط إلى مسؤولياته، فكلنا سواء أمام هذا اللغز المجهول «الوطن الخالى من المواطنين بعد انتزاع الشعب منه». أتفق معهم أننا سواء فى الحقوق وأختلف على الواجبات، فالمؤكد أن لكل منا واجبات مختلفة، النتيجة التى نلمسها ونعانى منها هى ميل الشرطة إلى الإصلاح بين الناس بدلاً من تحميل المخطئ لتبعات خطئه: تقبض على اللص متلبسًا لتفاجأ بتباطؤ شديد فى تحرير المحاضر مع محاولات ظاهرها الطيبة والإصلاح وباطنها ترك المسؤولية، إذ يقولون لك: «حرام عليك.. ح تضَّيع مستقبله»، فهو إما طالب أو رب أسرة يعول صغارًا. تصاب بخيبة أمل شديدة، وتشعر أن القائمين على تطبيق القانون غير مقتنعين به أو مشغولون عنه بأمور أهم، ربما تكون خدمة الوطن!! فى المجتمعات التى نتطلع إليها ونحسدها على ما هى فيه.. يحب الأطفال والكبار رجل الشرطة، ويعتبرون قسم الشرطة صمام الأمان الذى يفصل بين الحق والباطل. فى ظل تزايد الحريات والدور الرقابى الذى يمارسه الشعب نزداد اقترابًا من الصورة التى نحلم بها والتى أعتبر العودة إلى الشعار القديم خطوة حقيقية على الطريق الصحيح لها. وكل عام وأنتم والشرطة والوطن بخير. [email protected]