في وداع جارنا الشهيد (31) غزة ،خانيونس ، القرارة 22/07/2014 بعد أن شاركنا اليوم في الصلاة على جنازة الشهيد مصعب سلامة الذي استشهد تحت ركام قصف منزلهم بطائرات ال اف 16 ،شاركنا في تشييع جنازة جارنا الشهيد محمد موسى فياض،شاب طيب بسيط يعمل في تكريم النخل وتربية الدواجن،يسعى حثيثا في طلب الرزق لعياله العشرة فيغدو صباحا ويروح مساءَ،محمد هو من يكرم ويلقح ويدني ويهز نخلتي الوحيدة كل سنة. في هذا العام ، محمد كرم ولقح ودنى نخلتي ولكن لم تمهله طلقات الغدر من أن يكمل معروفه ليهز نخلتي ويجمع رطبها. إن كتب لنا عمر جديد وبقي بيتي محفوظا من نيران دباباتهم وطائراتهم الحربية ، وبقيت نخلتي بعيدة عن القصف ، من سيكرمها ويهتم بها في العام القادم؟؟ ذهب محمد قبل الافطار بساعة رفقة أربعة من أصدقاءه لتحميل وبيع مزرعة من الدواجن بعد أن نضجت فراخها،بدأوا في تعبئة الأقفاص وتحميلها وبدأ الجيش الاسرائيلي بتصويب طلقات رشاشاته الألفية عليهم وعلى الدواجن،أصابت طلقات الجيش محمد وشابا آخر ومئات من الدواجن اصابات قاتلة ، فاختلط دم الشهداء مع دم الدواجن ، إنها انسانية الجيش الذي لا يقهر!!! نجا ثلاثة من الموت المحقق هربا. ترك الجيش الانساني محمد ورفيقه ينزفان طيلة الليل والى ضحى اليوم التالي ولم يسمحا لسيارات الاسعاف بإنقاذهما، رفعا سبابتهما بالشهادة وفارقا دنيانا،استشهدا صائمين دون أن يتناولان حتى جرعة ماء باردة ليرويا ظمأ صومهما،فالمياه الباردة في أكواب وأباريق وكأس من معين ، وفاكهة مما يتخيرون ، ولحم طير مما يشتهون هو عشاءهم وشرابهم ينتظرهم في الجنة مع الولدان المخلدين مكافأة لهم على يوم صيامهم الطويل. تدخل الصليب الأحمر في اليوم التالي لكي تتمكن سيارات اسعاف الهلال الأحمر من نقل جثث الشهداء،نقل محمد الى مستشفى ناصر بخانيونس قبل صلاة الظهر، عاينه الطبيب الشرعي وكتب له شهادة وفاة على عجل،تم تجهيز قبر لدفن الشهيد في مقبرة خانيونس الغربية،أخرج الشهيد من ثلاجة الموتى بالسرعة المطلوبة وصُلي عليه صلاة الجنازة. لا وقت لدينا للانتظار فنحن لانعرف من هو الشهيد القادم من بيننا ،وثلاجة الموتى تئن من زحمة جثث الشهداء ، وقطع الكهرباء المتواصل لا يساعد في حفظ جثثهم لوقت أطول،وُوريً محمد الثرى بالسرعة المطلوبة أيضا ورفعنا أكفنا بالدعاء لشهيدنا بالرحمة والغفران. حاولنا أن نقدم واجب العزاء لجيراننا على المقبرة ، الا أن تحليق طائرات ال اف 16 وصوت الزنانات وقصف مدفعية الدبابات حال بيننا وبين هذا الواجب البسيط، إنها الحرب التي قتلت حتى يومها السادس عشر ما يقرب من 600 شهيد وأصابت حوالي 4000 جريحا وهدمت آلاف المنازل وشردت آلاف العوائل من بيوتهم الى مراكز الايواء القليلة (100,000 نازح في مدارس وكالة الغوث) بالاضافة الى من نزح الى المساجدوالساحات العامة والشوارع،لا داعي أن نؤكد ونكرر بأننا رغم الحزن والألم والخوف سنبقى صابرين صامدين. وحتما شعبنا سينتصر. ملاحظات أولية حول المقاومة (32) غزة ، 23/07/2014 استطاعت مقاومة الشعب الفلسطيني أن تتصدى لقوات الاحتلال الاسرائيلي بمختلف الوسائل: أولا: القصف الصاروخي 1. كان هناك تنسيق بين مختلف أذرع المقاومة في عمليات وتوقيت القصف زمانيا ومكانيا ونوعيا. 2. استطاعت صواريخ المقاومة أن تقصف كثيرا من المدن والبلدات والمؤسسات الاسرائيلية حيث كانت كل المدن مهددة بالقصف بالصواريخ. 3. الصواريخ وصلت لمسافات بعيدة في شمال ووسط وشرق الكيان الاسرائيلي. 4. استطاعت المقاومة أن تطلق صواريخها في مختلف الأوقات والأزمنة، نهارا وليلا. 5. أُطلقت الصواريخ رغم التحليق المستمر لطائرات ال اف 16 وطائرات الاستطلاع الاسرائيلية. 6. استمرار المقاومة في القصف الصاروخي طوال أيام العملية العسكرية أكد على قدرة المقاومة الصاروخية ومخزونها الاستراتيجي من الصواريخ كما أظهر الفشل في استخبارات العدو وتقديراتها لقوة وامكانيات المقاومة وأماكن توزيعها. 7. استطاعت المقاومة أن تحمي وتموه منصات اطلاق الصواريخ رغم القصف الصاروخي المكثف والمستمر من طائرات ال اف 16 والطائرات بدون طيار على المواقع الفلسطينية. 8. استطاعت المقاومة أن تتغلب على القبة الحديدية بإطلاقها الصواريخ في مجموعات وبكثافة كبيرة . 9. أوقعت الصواريخ خسائر واضحة بين الأفراد والمنشئات، بالإضافة الى تأثيرها النفسي على السكان وزعزعت ثقتهم بقوة الردع الاسرائيلي. 10. أثر قصف مطار بن غوريون ومحيط مفاعل ديمونا تأثيرا كبيرا على معنويات السكان الإسرائيليين وثقتهم بقوة جيشه. ثانيا :العملية البرية 1. تصدت أذرع المقاومة لعملية الاجتياح البري في لحظاته الأولى واشتبكت مع قواته بمختلف الوسائل مباشرة. 2. استطاعت قوات المقاومة أن تقوم بعمليات عسكرية خلف القوات الغازية وأوقعت بين صفوفها خسائر كبيرة. 3. توغلت قوات المقاومة في داخل الأراضي المحتلة عام 1948 وقامت بعمليات عسكرية ضد قواته ومؤسساته العسكرية ومستوطناته. 4. قامت قوات المقاومة يوميا بالعديد من العمليات العسكرية ضد القوات الاسرائيلية وآلياتها في المناطق التي دخلتها على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع (عمليات القشرة). 5. كان للقناصة الفلسطينيين دورا هاما في التصدي وقنص عدد من الجنود والضباط والقادة الاسرائيليين. 6. العملية البحرية ضد قاعدة زكيم العسكرية كانت تطورا نوعيا في مسار المعركة. 7. أسر الجندي الاسرائيلي كان تطورا نوعيا آخر والاعلان عنه من قبل المقاومة وتأخر العدو بالاعتراف بعملية الأسر ضرب مصداقية العدو وعزز من مصداقية اعلام المقاومة. 8. غزو مناطق العدو باستخدام الطائرات بدون طيار هو ايضا تطور نوعي آخر. 9. اصابة طائرة اف 16 كان عملا نوعيا جديدا. 10. استمرار تحييد طائرات الهيلوكوبتر عن المشاركة في المعركة بالصفة العامة كان انجازا للمقاومة. 11. تردي معنويات أفراد الجيش الاسرائيلي الى الحضيض كان واضحا عندما رفض بعضهم المشاركة في المعارك وأطلق عدد منهم الرصاص على أقدامهم حتى لا يشاركوا في العملية البرية. 12. قلة الخسائر بين صفوف المقاومين وفشل الطائرات بدون طيار وطائرات ال اف 16 في النجاح في قتل كثيرا من المقاومين عندما استهدفتهم واستهدفت بيوتهم كان تطورا هاما في أساليب تخفي المقاومين عن العدو وعيونه واجادتهم لعمليات التخفي والتمويه، كما كان فشلا آخرا في استخبارات العدو وقدرته على جمع المعلومات الصحيحة عن المقاومين وأماكنهم وطرائق عملهم. باختصار المقاومة كانت رائعة تكتيكيا واستراتيجيا وأمنيا، أما على الصعيد السياسي والمدني فلابد لنا من وقفة خاصة. ذكريات عن الحروب (33) غزة ، 23/07/2014 ولدت بعد حرب عام 1948 وتصادف ميلادي في عام 1956 وهو العام الذي قامت به القوات الاسرائيلية والبريطانية والفرنسية بالعدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة،كان عمري أنداك 6 شهور عندما احتلت القوات الاسرائيلية قطاع غزةوسيناء ، داهمت القوات الاسرائيلية المدنيين في بيوتهم وأخرجتهم منها وكان لصراخي وأنا الرضيع الفضل في عودة والدتي بعد أن أخرجتها القوات الاسرائيلية من بيتنا في دير البلح وسط قطاع غزة مع المرحوم جدي عبدالله والمرحومة جدتي مريم ووالدي والمرحوم عمي محمد ذو السبع سنوات من العمر آنذاك، كبرت وعاصرت عدوان حزيران عام 1967 على مصر وسوريا والأردن ، وكان عمري آنذاك 11 سنة، في الصف الخامس الابتدائي، كنا على موعد مع النصر كما وعدنا أحمد سعيد من راديو صوت العرب ، وكنا نحصي عدد الطائرات التي أسقطتها طائرات العرب ومدفعيتهم ، كما كنا نغني لسمك البحر الذي سيأكل الإسرائيليين ، كما ذهبت خيالاتنا بعيدا لنرى الاسرائيليات الشقروات وقد أصبحن زوجات لشبابنا ورجوعنا مرفوعي الهامة لبلادنا وأرضنا التي هُجرنا منها عام 1948. كان يوم الاثنين عندما بدأت الحرب ودخلت الدبابات والجيبات الاسرائيلية مموهة باسم القوات المغربية والجزائرية وسط مدينة خانيونس حيث نسكن. استقبل الناس الطيبون هذه القوات اعتقادا منهم أنها قوات عربية. أطلقت الدبابات الاسرائيلية نيرانها فأصابت زميل والدي في سنترال خانيونس حيث كان يعمل والدي على الهاتف،قلقنا كثيرا على والدي ، فأرسلت المرحومة جدتي المرحوم عمي ليطمئن على الوالد ولكنه لم يتمكن من الوصول الى وسط البلد،وصل والدي الى مخيم خانيونس ليلا يحمل بندقيته الصينية. اجتمع الناس من أهل المخيم حول والدي "الخبير العسكري" فنصحهم بمغادرة المخيم غربا الى المواصي في خانيونس،بالفعل غادر كثيرا من أهل مخيم خانيونس لكننا لم نغادر. اجتمعنا في الصباح المبكر في منزل عمتنا حليمة أم حسن عواد وكنا على وشك تناول طعام الافطار ، بيضة مسلوقة وكوب من الشاي لكل فرد، فاذا بالقصف المدفعي يبدأ وقذيفة تسقط في بيت أبو غازي الجياوي،طرق غازي باب بيت عمتي أم حسن يصرخ ويستغيث، هربنا تاركين البيض المسلوق وأكواب الشاي من خلفنا. مثل يوم القيامة ، اللهم إني أسألك نفسي ، هرب والدي لوحده وعمي أيضا لوحده وجدتي أخذت معها أخي عبدالله ووالدتي أخذتني أنا وأختي مريم وأختي فاطمة وأخي الرضيع جواد. وصلنا بعيدا حوالي مائة متر عن بيت عمتي المرحومة أم حسن واختبأنا تحت سور منخفض لجارنا أبو علي أبو كاشف خوفا من قذائف المدفعية والدبابات التي كانت تقصف مخيم خانيونس، حاولت أن أحتمي بوضع قفص للكتاكيت من السلك المعدني على رأسي ،كنت خائفا وأعبر عن ذلك بالنداء والصراخ "يمه...يمه" ، فاذا بأمي التي أستغيث بها تضربني كفاَ على كتفي وتؤنبني لأنني كنت أغني بالأمس مع أولاد حارتنا متمنين أن تبدأ هذه الحرب،رجعنا الي بيت أم حسن بعد أن هدأ القصف من أجل أن نحضر حليبا لأخي الرضيع جواد. وجدنا البيت مقصوفا بقذيفة مدفعية نزلت على المخبئ (الاستيكام) الذي حفرناه بأيدينا وعرشناه بالزينكو لنحتمي به من قصف طائرات ودبابات العدو!!! كما أن برميلا من الحديد لتخزين المياه انفلق نصفين ونشفت المياه المسكوبة من شدة القصف،رجعنا هاربين دون أن نأخذ حليبا لأخي الرضيع. كان يوما من أيام الخوف ، الكل يجري متجها غربا الى سوافي الأحراش الرملية يحمل ما استطاع اليه أن يحمل ، أخيه او أخته الصغيرة أو فرشة صغيرة أو بعض الأكل. كان من بين الهاربين جارنا رياض صافي الذي كان يحمل أخيه الرضيع بين يديه ، فجأة صرخ رياض ، لقد مات أخي، أصابته شظية مدفعية وهو يحمله بين يديه فقتلته ، وضع الطفل القتيل/الشهيد جانبا وواصلنا الهرب غربا،وأيضا كان من بين الهاربين ولدا من أبناء أبوهلال أصيب بشظية في مؤخرته ، عقمها له أحد الرجال ب "عطبة" من النار. شاهدت وأنا في طريق الهرب بالقرب من بيتنا رجلا مقتولا بملابس عسكرية أو مدنية ممدا أرضا أعتقد أنه من جيراننا من عائلة أبو ستة ، واصلنا السير تارة والجري تارة أخرى ، رجالا ونساء ، صغارا وكبارا ، شيبا وشبابا ، أولادا وبناتا، الكل يجري في نزوح جديد في اتجاه الغرب. وصلنا الى مواصي خانيونس قبل الغروب بقليل خائفين وجزعين ، جوعى وعطشى ،أرسلتني والدتي لإحضار شيء من الخيار من المواصي ، ففكرت أن الخيار كلما كان كبيرا تكون كمية المياه فيه كبيرة ، فبدأت أملأ حجري بالخيار الأصفر الكبير في حين أن كل الناس تبحث عن الخيار الأخضر الصغير، فاندهشت والدتي وصرخت علي وووو.. ليلا ، هربنا من داخل المواصي متجهين لشاطئ البحر على أثر دعاية بتقدم القوات الاسرائيلية واعتقالها للرجال والشباب،خرج الأولاد والشياب وكنت من بينهم ننادي ونصرخ محذرين الرجال والشباب من قدوم القوات الاسرائيلية. في نفس الليلة اجتمعنا بوالدي وجدتي وأخي عبدالله ، وعثرنا على عمي محمد في اليوم التالي. فجرا شاهدت حسن عواد أبو منيف وهو عائد من الجنوب على شاطئ البحر بعد أن حاول هو ومعظم الشباب الهروب الى سيناء ، ولكن لحسن الحظ كانت دبابة اسرائيلية تقف على الحدود وتطلق النار على كل من يحاول اجتياز الحدود. واصلنا العيش في مواصي خانيونس نعتاش على الخيار والتفاح الأخضر الصغير وما يتيسر من بعض الخبز يعطينا اياه السكان القاطنين في المواصي، ما زلت أتذكر طعم رغيف الخبز الساخن الذي أعطتني اياه احدى النساء ولا اعرف مع من اقتسمته وأكلته. في يوم الأربعاء ، رجع العديد من الرجال وبعض النساء الى المخيم وأحضروا معهم ما تيسر من الدقيق وما وجدوه من طعام في بيوتهم، سمحت لنا قوات الاحتلال بالرجوع الي المخيم في يوم الجمعة بعد أن دمرت يوم الخميس المدفع الوحيد المضاد للطائرات الذي مازال يطلق النيران على طائرات العدو في كل بلاد العرب الشاسعة ، رجعنا نرفع الرايات البيضاء كما أمرتنا قوات الاحتلال الاسرائيلي،كان يعمل على هذا المدفع ضابط مصري ، هو الحاكم العسكري لخانيونس ، وهو من الضباط القلائل الذين لم يهربوا من المعركة، وكان أهل المخيم الغربي هم من يحملون له الذخيرة من موقع "جورة" الفدائية بالقرب من مخيمهم. أصبح هذا الضابط قائدا لمنطقة بور توفيق العسكرية وأرسل تحياته وشكره لأهل خانيونس وحياهم على صمودهم ومساعدتهم له على الصمود ومن الوصول سالما الى مصر. وهكذا هزمت القوات الاسرائيلية في الخامس من حزيران يونيو واحتلت أراضي ثلاث دول عربية في حرب سميت بحرب الأيام الستة ولكنها في الحقيقة هي حرب الساعات الستة. هذه واحدة من ذكريات الحروب التي خطرت على بالي وأنا في هذه الأيام أعيش النزوح الجديد في اليوم السابع عشر لهذه الحرب الجديدة، حرب الجرف الصامد /العصف المأكول/ البنيان المرصوص. ولكنني لن أنسى معركة الكرامة الخالدة،وأيلول الأسود بسواد ليل العرب الدائم،وحروب الاستنزاف التي كانت مقدمة الى العبور العظيم في رمضان 1973،واجتياحات الجنوب في عام 1976 و1978 والصمود الفلسطيني الأسطوري،وحرب حركة أمل على المخيمات الفلسطينية،وحروب العرب على مخيمات البداوي ونهر البارد،واجتياح اسرائيل عام 1982 وصمود بيروت العظيم وملحمة قلعة الشقيف والقتال والصمود ع مثلث خلدة،وصبرا وشتيلا الليل الطويل،والمقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية،وحزب الله و 2006 ، وما له وما عليه . وحروب العرب ضد الفرس ،وحرب العرب مع الأفغان وضدهم،وحروبنا الداخلية،وحروب الأمريكان ضد العرب،وحروب العرب ضد العرب ،وحروب الربيع العربي الجديد،وحروب وحروب وحروب . نوثق تواريخنا ومواعيدنا وذكرياتنا بالحروب!!! يالها من أمة! ##