يتقدم لنا الخطاب السلفى الدينى بمصطلح الشريعة كمنتج دعائى يستخدم فى الدعاية السياسية كبرنامج إلهى مقدس نهائى يتم تقديمه للعامة كخطاب لايصد ولايرد ويتم استغلال جهل العامة بالتاريخ الإسلامى والفقه لتمرير مفهوم دينى ملتبس وتاريخى كخطاب تام الصنع وجاهز للتداول والاستهلاك البشرى فى كل زمان ومكان فلا يملك الناس له ردا ولا يطيقون له دفعا . والحقيقة التاريخية ليست هكذا بالضبط وتحتاج لمعرفة عميقة من باب الأمانة العلمية ولكى لانقدم للناس بضاعة إلهية فيعترى الناس الشك بعد تطبيقها فى صلاحيتها للاستهلاك فيشكون فى الله العلى القدير بعدها. اليهود لهم شريعة فى التوراة وشروح لها فى التلمود والمسيحيون لهم شريعة فى الانجيل والتوراة -العهد القديم - ومتون الشرائع كلها تعنى أساسا بمفاهيم العقيدة والعبادات وهى مناط الأديان ورسالة السماء للأقوام التى تتنزل عليهم الشرائع وهى تحدد علاقة أهل الديانات بالسماء وليست هنا تقع المشكلة ولا التعارض الذى يقع بمجرد أن تنفتح هذه الشرائع على الواقع الأرضى المتغير بحكم الزمان والمكان وهو جانب يسير من الشرائع السماوية وهو جانب المعاملات والأقضية والشهادات وجزاء الجنايات ونظم المواريث وهى منطقة تماس الأرضى مع السماوى وممكن أن يهم معتنقى الأديان ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ولكن فتح قضية الدين على قضية الدولة جعل قضية فرض الشريعة على المجتمع الإسلامى الذى لم يتخط الالتباس الأروسطى الذى تخطاه الغرب عبر حروب ونزاعات حتى استقر على الحل العلمانى وهو فصل الدين عن الدولة . أما المجتمعات الإسلامية فهى مضطرة لخوض التجربة الدامية من جديد . الشريعه لغة هى الموضع الذى ينحدر إلى الماء منه وشرعة الماء هى طريق أو سبيل الماء وهى تعنى مجمل التعاليم الدينية التى تقود اتباعها إلى الخير الدينى الأخروى ولكن وعلى الرغم من أن القرآن حدد فى الكتاب (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا) بوصف ماجاء فى الكتاب هو كل التشريع الإلهى وشهد صدر الخلافة الراشدة بوفاة صاحب الوحى الذى يتنزل عليه التشريع التباسات عديدة مازالت المجتمعات الإسلامية تعانى من آثارها حتى اليوم . فشرح وبيان التشريع كان يعتمد على السنة النبوية ولكن أبو بكر وعمر وهما أول خليفتين للرسول على المجتمع الإسلامى منعا بل وأحرقا جمع شروح السنن النبوية فى الأحاديث وعاقبا على جمعهما بل وقال عمر حسبنا كتاب الله.. وكان لكل من الحاكمين أبوبكر وعمر فهم للتطبيق ربما دعى أبا بكر لأفعال لاتنطبق على صرامة نص التشريع الأول وهو القرآن كدخوله حروب الردة وتاريخ حروب الردة التى لم تكن محل اتفاق عام بين كبار الصحابة فى ذلك العهد وكذلك اعتمد عمر على فهمه الخاص كرجل دولة فى تطبيق الشريعة حتى فى أمور الحدود وهى جزاء الجنايات وأوقف تطبيق الحدود فى أعوام الرمادة وكذلك أوقف سهم الطلقاء المؤلفة قلوبهم فى الغنائم وهما من الوحى والشريعة غير المنسوخة.. اعتمادا على فهم خاص للسياق التاريخى والزمنى وما يصلح وما لايصلح وليس بمقدور أحد ما أن يدعى أن أبو بكر أو عمر لهما على الخصوص أن يأتيا بتشريع من خارج الوحى المتكامل والتام بنص القرآن رغم ادعاء مذاهب السلفية بدعوى (سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى) وهو ادعاء لايثبت فى ميدان العقيدة لأن فيه إخلالا بكمال الوحى .. هذه عجالة سريعة لظروف النشأة الأولى لشروح الشريعة الالهية فى صدر التاريخ الإسلامى نشير فيها إلى أن الشارح الأول للشريعة وهى سنة النبى لاقت من التصرف والاجتهاد ومنذ اللحظة الأولى مايجعل الاجتهاد قاعدة أصيلة فى الدين الإسلامى إذ تم التعامل مع الشريعة وخاصة فى المعاملات بمرونة كبيرة تتناسب مع السياق التاريخى وربما تضع معالجات مستقلة عنه نسبيا وأحيانا كليا تساوقا مع الفورم -النموذج الاجتماعى والسياسى والاقتصادى - المتغير بطبعه وهذا حدث منذ اللحظة الأولى لغياب حامل الوحى بلا غضاضة ولكن الحاضنة الثقافية للمجتمع الإسلامى احتاجت مع الوقت إلى معالجات للقاعدة التى انتمت فيها الجماعة البشرية المسلمة ومنها حفظ الحديث الشارح للشريعة واستنباط الأحكام وتم حتى القرن الرابع الهجرى تقعيد القواعد وبناء المصطلح المتداول بين أيدينا الآن ككتاب مغلق منتج نهائى وهو مصطلح الشريعة على يد فقهاء -وهم بالمصطلح العصرى يعنى مفكرون أوائل للجماعة المسلمة قاموا بمهمة ضبط النص على الواقع وإنتاج نظام قانونى يقبل التعامل مع الزمان والمكان المتغيرين. ومن هنا نشأت المصادر الكبرى للشريعة التى صاغها العلماء حتى القرن الرابع الهجرى مثل الاجتهاد وهو الفهم العقلى للنص استخلاصا ثم المصدر الأصيل المسمى بالقياس وهو قياس فرع على أصل ومعرفة النسبة بين الشيئين وهنا يختلف التقدير ثم مصدر الاستحسان وهو ترجيح قياس خفى على قياس جلى بناء على دليل أو استثناء مسألة جزئية من أصل كلى أو قاعدة عامة بناء على دليل خاص ثم المصالح المرسلة وهى الأوصاف التى تلائم تصرفات المشرع ومقاصده وان لم يشهد لها دليل معين من الشرع ويحصل من ربط الحكم بها دفع مفسده أو جلب مصلحة تتفق مع الضرورات الشرعية الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)..ثم باقى المصادر وهى العرف وشرائع من كان قبلنا والاستصحاب (بمعنى عام الأصل فى الأشياء الإباحة) ثم الذرائع ومنها سد أو فتح الذرائع.. والقصد من العرض هنا هو تبيان أن هذا الجهد الفكرى لفقهاء مجتهدين شكل الفهم البشرى للجماعة المسلة فى القرون الأولى للشريعة وطرائق معالجتها للواقع البشرى المتغير ولولاه ماكان هناك خصوص لفهم الشريعة إلا بوصف عام وربما تنطبق على العقائد والعبادات وأشكال خاصة من المعاملات والسلوك ولكن الاجتهاد تم من داخل النص ومن داخل البيئة ومن داخل الثقافة وهذا شكل حالة الاستعصاء العنيد بعدها على التجديد ولكن القرآن والسنة تقوم داخل إطار سياق تاريخى محدد يمكن فهمه وتفسيره والتعامل معه داخل السياق كما يمكن إطلاقه والسياق يحتمل ذلك ولكن المجتمع الإسلامى عانى من رهاب التفكيك الاجتماعى -ضياع الهوية- أو رهاب العامل الغيبى, ما حال دون الوصول إلى إطلاق طاقة الاجتهاد البشرى والتجديد الدينى حتى وصلنا إلى هذه الحالة التى يتم التلاعب فيها بالمصطلح التاريخى جهلا أو تعمدا على سبيل الحصول على مكاسب سياسية.