(1) أثرت في مقالى السابق هذا السؤال: " هل الصدام حتمي بين الإسلاميين والعلمانيين...؟!".. وقلت فيه أن أستاذنا الشيخ يوسف القرضاوى (و هو أبرز دُعاة الوسطية الإسلامية وأكثرهم شهرة) يرجّح أنه بالإمكان -إذا خلصت النوايا- أن يتم الاتفاق مع العلمانيين المعتدلين فى أمور كثيرة حّدد منها ثمانية مجالات أساسية يستحيل.. الخلاف عليها بين الوطنيين الحقيقيين.. بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية أو الأيديولوجية.. وقد ذكر من بينها: "رفض الدولة الدينية" كما عرفها الغرب فى العصور الوسطى.. ومعنى هذا أن هناك مبادئ مشتركة يمكن أن تجتمع حولها كل القوي الوطنية والقومية للنهوض بالأوطان وبالأمة كلها فى نهاية الأمر.. وحتى هذه اللحظة أستطيع (من خلال تحليل كلام الإسلاميين ومواقفهم) أن أؤكد أنهم على استعداد للعمل فى هذا الإطار الوحدويّ الجامع.. ولكن هل يقبل العلمانيون بالمشاركة ويتنازلون عن رغبتهم فى الهيمنة الاستعلائية التى عاشوا بها عقودا، تحت مظلة الأنظمة الدكتاتورية، التى تتهاوى الآن واحدا بعد الآخر...؟! ومرة أخرى أقول: -حتى هذه اللحظة لا أجد بصيص أمل لتراجع العلمانيين -وهم الأقلية- عن رغبتهم المَرَضِيّة فى إقصاء الإسلاميين (وهم الأغلبية)، بهدف الانفراد بالساحة السياسية، والاحتفاظ بالسلطة والتوجيه.. بأي وسيلة.. حتى لو كانت على حساب الديمقراطية.. وضد مصالح وآمال الجماهير العريضة لهذه الأمة الثائرة.. (2) أعلم أن "الشريعة الإسلامية" ليست قضية مطروحة الآن للنقاش..على الأقل من جانب الإسلاميين، ولكن العلمانيين لا يفتأون يقحمون القضية إقحاما فى ساحة النقاش السياسي .. كنوع من "جرِّ الشّكَلْ..." وترويج بضاعة قديمة كسدت فى الأسواق .. بهدف التشويش على القضايا الأخرى الساخنة والحيوية بالنسبة للمسيرة الثورية والديمقراطية.. يثير العلمانيون شبهات حول قضية الشريعة الإسلامية فى محاولة لتقويض الأساس الفكري لهذه القضية: فهم يرون أن ادعاء الإسلاميين بأن الشريعة من عند الله بينما القوانين الوضعية من صنع البشر.. مقارنة غير صحيحة .. ويسْألون باستخفاف: هل نحن حقا بإزاء اختيار بين شرع الله وقانون الإنسان..؟! بين حكم إلهي وحكم بشري..؟! وإجابتهم: لا... فالاختيار الحقيقى ليس بين حكم إلهى وحكم بشريّ.. وتفسيرهم لذلك هو أن النص الإلهي لا يفسر نفسه بنفسه.. وإنما يفسره البشر ويطبقونه.. وفى عملية التفسير و التطبيق البشري تتدخل كل أهواء البشر ومصالحهم وتحيّزاتهم.. والنتيجة عندهم هي: أن الهدف الأصلي الذى تسعى لتحقيقه "دعوة تطبيق الشريعة" هو هدف يستحيل بلوغه.. لماذا..؟ يجيبون: بأن عملية التفسير أو التأويل من شأنها أن تحوّل النص الإلهي المقدس إلى كلام بشري يسرى عليه ما يسرى على أي كلام بشريّ آخر.. لأنه فى نظرهم لم يعد إلهيا ولا مقدّسا..[أنظرفى كتابات د. فؤاد زكريا، ود. نصر حامد أبو زيد].. جهل العلمانيين بطبيعة الشريعة الإسلامية وبالمصطلحات الإسلامية الشرعية.. وجرأتهم على الخوض فيما يجهلون يفضحهم ، ويثير السخرية من كلامهم...! فهم لا يفهمون أن الشريعة تنقسم إلى منطقتين متمايزتين كما يقول الشيخ القرضاوي: "منطقة المقاصد الكلية والقواعد الشرعية والأحكام القطعية، وهى التى أجمعت عليها الأمة ، وتوارثتها الأجيال .. والثانية: هى منطقة الظنيات من الأحكام، "مما ثبت بنص لم تتوافر له قطعية الثبوت والدلالة، بأن كان ظنيا فى ثبوته أو فى دلالته أو فيهما معا، وقبل ذلك ما لم يكن فيه نص أصلا، بأن تُرك للبشرقصدًا.. وهذه هى " منطقة العفو.." ويتابع الشيخ شرحه فيقول: " لقد كان من مفاخر التراث الإسلامي علمٌ انفرد بوضعه المسلمون وقعّدوا له قوعده العقلية والدينية واللغوية.. ليضبطوا به كيفية الاستدلال بالنصوص الشرعية، والاستنباط فيما لا نص فيه، ذلكم هو " أصول الفقه" الذى لم تضع أمة من أمم الحضارة مثله..." ومعنى هذا أن هناك طائفة من الأحكام الشرعية القطعية الواضحة بذاتها لا جدال فيها ولا اجتهاد، وهناك طائفة أخرى من الفروع .. وما ليس فيه نص صريح، هى محل اجتهاد من العلماء المؤهلين للاجتهاد فى كل عصر.. وليست المسألة هنا كلأً مباحا لكل من هبّ ودبّ... (3) التلاعب بالمصطلحات: يتلاعب العلمانيون بالمصطلحات عندما يزعمون أن ما يدعو إليه الإسلاميون هو": الحكم الإلهي مقابل حكم البشر، والحقيقة أن الإسلاميين.. يفهمون أن [الحكم الإسلامي] هو حكم يقوم به البشر مستندين إلى الشرع الإلهي ، فالحكم للبشر والشريعة من عند الله.. ومصدر التضليل فى استخدام مصطلح "الحكم الإلهي" أنه تحريف يهدف به العلمانيون إلى خلق خصم وهمي حتى يسهل توجيه النقد إليه.. ويضرب العلمانيون المثل بالدستور والمبادئ الدستورية، وأنه يمكن التلاعب بالشريعة كما يتلاعب الحُكّامُ بالدستور، من خلال تفسيره بطرق مختلفة تخرجه عن معانيه الأصلية.. وهم بهذا المثل إنما يناقضون أنفسهم بأنفسهم.. فالواقع المشهود يقول أنه حتى مع وجود التلاعب بالدستور لا يقول أحد: لا فائدة من الدستور إقذفوا به عرض الحائط...! بل تتمسك به الشعوب.. وتقاتل من أجله.. وتناضل لإعادته إذا اعتدى عليه طاغية وألغاه.. وتناضل لحمايته إذا عاد .. حمايته من سوء التفسير وسوء التطبيق وسوء الاستغلال.. ولكن العلمانيين يقولون ببساطة: إقذفوا بالشريعة عرض الحائط إذا أساء بعض الناس تفسيرها أو أساء فى تطبيقها أو أساء فى استغلالها...؟! (4) صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان: يعترض العلمانيون على هذه المقولة بشدة.. وحجّتهم ذات شِقّين: الأول- هو أن الإنسان كائن متغير، ومن ثَمّ ينبغى أن تكون الأحكام والقواعدالتى تحكمه متغيرة.. و الثاني: معناه الحجْر على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدي؛ فالمعنى المباشر أن الله قد وضع للناس فى وقت ما من الزمن سُننا ينبغى أن يسيروا عليها إلى أبد الدهر.. وأن أقصى ما يمكنهم التصرف فيه هو أن يجادلوا فى تفسير النصوص، أو تأويلها .. ولكن الخطوط العامة لمسار البشرية اللاحق كله مرسوم ومحدد.." ثم يضمّون إلى هذا تناقضا آخر فى مزاعم الإسلاميين..حيث ينسبون إليهم القول بأن الله قد استخلف الإنسان فى الأرض وكرّمه على العالمين، ويسألون: هل يتمشى التكريم والاستخلاف مع تحديد المسار البشري مقدّما، ووضْع قواعد يتعيّن على الإنسان ألا يخرج عنها مهما تغيّر وتتطور..؟!" وكما ترى هناك إجتراء وتشكيك متعمّد فى الحقائق القاطعة.. بينما يريد العلمانيون أن يحيلوا كل شيء إلى محتملات قابلة للأخذ والرد والجذب والشّد.. وهذه لعبة ماكرة من لعب العلمانيين وخصوم الإسلام.. يحاولون بها جر الإسلاميين إلى التسليم بها.. فتنقلب القطعيات إلى ظنيات والمحكمات إلى متشابهات.. وفى هذا يعلّق الشيخ القرضاوي بقوله: "فإذا قال الله [كُتب عليكم الصيام] أو [ كُتب عليكم القصاص] أو [تقوا الله وذَرُوا ما بقى من الربا] إلى آخر هذه الآيات الواضحات.. فهل أنزل الله هذه الأحكام ليعمل بها جيل أو جيلان أو ثلاثة أجيال.. ثم يأتى بعدهم جيل يقول لقد انتهى أمد هذه الأحكام..؟!" ثم يتساءل ساخرا: "عند أي جيل تتوقف أحكام الشريعة..؟؟ وما الذى يفرّق جيلا عن جيل..؟!" ثم يضيف الشيخ قائلا: "إن العلمانيين لجهلهم بالإسلام وبالشريعة الإسلامية لم يفهموا أن المسلم لا يناقش فى القطعيات.. إنما يناقش فى بعض الأحكام الجزئية.. هل هى من عند الله أم لا..؟ هل صحّت نسبتها إلى الله فى كتابه المحكم، أو ثبتت على لسان نبيه ورسوله..؟ فإذا ثبت النص أمكن مناقشة ما استُنْبط منه من حكم : أهو من القطعيات المُجْمَعِ عليها أم من الظنيات القابلة للاحتمال والخلاف..؟؟ ". أما العلمانيون فيريدون -كما أشار الشيخ- أن يحوّلوا كل شيء إلى محل بحث وخلاف: فهم يجادلون فى تحريم الخمر.. وتحريم الرِّبا.. ووجوب الحجاب للمرأة.. وأنصبة الميراث.. وغيرها من الأحكام القطعية.. إنهم يتجاهلون كل هذا، ويريدون أن تذوب الحدود بين القطعيات والظنيات، للتشكيك فى المسلّمات المعلومة بالضرورة من الإسلام... (5) الإنسان متغيّر.. نعم.. ولكن إلى أى حدّ..؟ إن وضع القضية -كما يصوّرها العلمانيون- ينطوى على تضليل بيّن.. فمن الواضح أن الإنسان فيه جانب التغيّر.. لكن جانب الثبات عنده أكبر: "فالجانب المتغير يتصل بمظهر الإنسان الخارجي؛ فى مأكله ومشربه وسلوكه.. وفى الوسائل المختلفة التى يستخدمها فى حياته وعمله: فى طرق المواصلات التى تطورت من ركوب الدابة إلى ركوب الطائرات ومركبات الفضاء.. فى العلوم والتكنولوجيا التى استخدمها: فى الصناعة والزراعة والتجارة.. والاتصالات الحديثة..." ولكن مع كل هذا التطور ظل جوهر الإنسان واحدا لم يتغير.. فهل تغير جوهر الإنسان فى عصر الذرة عن جوهر الإنسان فى العصر الحجريّ..؟ إن الإنسان لم تتغير فيه رغباته ولا دوافعه الأصلية، ولم تبطل حاجاته الأساسية...!: حاجته إلى الطعام والشراب، وحاجته إلى الأمن والحب والتقدير، وحاجته إلى إشباع غريزته الجنسية ، وحاجته للانتماء وللعيش فى مجتمع.. إلى آخر هذه الحاجات الأساسية.. المعروفة فى علم النفس. ومهما بلغ الإنسان من العلم والمعرفة فسيظل كما يقول الشيخ: "فى حاجة إلى عقيدة تهديه.. إلى وحي.. إلى معرفة الفضائل.. إلى تحريم الربا وتحريم الخمر والميسر وتحريم الزني والشذوذ والسرقة والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل.. وتجريم الظلم بكل صوره.. يحتاج إلى صلته بربه بإقامة الصلاة.. وصلته بالناس من حوله بحسن الخلق وحسن المعاملة، وإيتاء الزكاة .. وصلته بالكون بالبحث وعمارة الأرض.. إلى رادع إذا تعدّي حدود الله.. أو تعدّى على حقوق الناس فى أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.. وصعود الإنسان إلى الكواكب وغزو الفضاء لا يعفيه من العقوبة إذا ارتكب جريمة..!" (6) الثبات والمرونة فى الشريعة: يقابل الشيخ القرضاوي بين عوامل الثبات والتغيّر فى الإنسان بمبادئ الثبات والمرونة فى الشريعة الإسلامية.. ويرى أن هذا من روائع الإعجاز فى الشريعة الإسلامية، حيث يبرز هذه الحقيقة فى ثلاثة مجالات رئيسية: 1-الثبات على الأهداف والغايات،والمرونة فى الوسائل والأساليب.. 2- الثبات فى الأصول والكليات والمرونة فى الفروع والجزئيات.. 3- الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة فى الشئون الدنيوية والعملية... وينتهى الشيخ إلى القول بأن الشريعة ليست أغلالا فى أعناق الناس، ولا قيودا فى أرجلهم.. بل هى علامات هادية وقواعد للسير.. ويؤكد الحقيقة التاريخية التى لا يمكن إنكارها وهى أن التزام المسلمين بهذه الشريعة قرونا جعلهم يبدعون و يقيمون حضارة وينشئون علوما وثقافة ويقيمون مدنا وصناعة وزراعة.. ولم تكن حضارتهم مثل باقى الحضارات التى ظهرت فى تاريخ الإنسانية كلها.. فقد كانت بشهادة مفكرى العالم أول وآخر حضارة قامت على أساس من الحرية والعدل والمساواة لكل البشر، وعلى القيم الأخلاقية الخالدة.. ولم تكن حضارة استئصال ولا استغلال ولا استعباد... [email protected]