* آخرون شوقي بن حسن تفرز الثورات بتلقائية مجموعة من البدائل المؤسساتية، ربما تظهر في مرحلة أولى طريقا سالكة لغد أفضل، ولكن منذ اللحظة التي توضع فيها على أرض الواقع لتتعايش مع مكونات المشهد الأساسية تصبح أداة ( بمصطلحات الشأن التونسي تصلح أن تكون ثورية أو في يد الثورة المضادة)، إنها تصبح بعبارة أخرى أداة سياسية بامتياز. عندما تهتز الأرض تحت الأقدام بفعل ثورة ما، تجد مؤسسات النظام نفسها معطلة لحين. سيملأ هذا الفراغ مؤسسات أخرى غالبا ما تكون شعبية وعفوية، وستستمد شرعيتها من اللحظة الثورية. ولكن منذ تلك اللحظة سيبدأ صراع مع المؤسسات القديمة سواء كانت ضمن جهاز الدولة أو جهاز الحزب القديم المهيمن، والتي سرعان ما توقظها من ارتباكها ثغرات الواقع وفرص العودة لممارسة سلطاتها. بعد مدة تتوضح الصورة للجميع، عندها تكون هذه المؤسسات العفوية قد تحولت إلى أمر واقع مزودة بقوة مطلبية مستعرة بما أنها وليدة المرحلة الجديدة. وفي هذا الوقت ينفتح أيضا المجال أمام تكوين مؤسسات أخرى ستكون هي الأخرى ثورية ولو كانت متأخرة عن الأولى، ومن جهة ثانية تعمل القوى الرجعية التي لا تخدم الثورة مصالحها لاختراق المؤسسات العفوية أو استقطاب رجالها الأوائل أو وأد حركتها الوليدة. ليصبح المشهد بعد ذلك في غاية التعقيد بفعل تفتت القوى وقابليتها للتوظيف. ما حصل في تونس بايجاز لا يخرج عما ذكرناه، لقد نبتت هذه اللجان فطريا في أيام غياب الدولة، أيام ما بعد رحيل بن علي. بعد عودة الدولة الى القيام بمهامها، تعالت أصوات (نخبة) ببعث لجان حماية الأحياء تكون نواتها الشباب الذين سهروا على حراسة أحيائهم. كان انهيار الحزب الحاكم القديم (التجمع الدستوري الديمقراطي) مناسبة كي ترث هذه اللجان مقراته المنتشرة في كل الأحياء والقرى التونسية. ظهر نشاط شبان لجان حماية الثورة خلال الاعتصامات التي أسقطت حكومة محمد الغنوشي بتحالفات معلنة مع النقابات وبعض الأحزاب، وبعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 بدأ يبرز للعيان اختراق سلفي لهذه اللجان، وحدث تحالف بينها وبين حزب النهضة الحاكم الجديد كورقة يمكن أن تكون في صالحه في معركة افتكاك الشارع وهي معركة سياسية بامتياز. وتحولت بذلك لجان حماية الثورة الى موضوع اشكالي كبير في تونس. إن المثل الأبرز لهذه المؤسسات التي تفرزها الثورات ما حصل خلال الثورة الروسية في بداية القرن العشرين. كانت السوفيات مجموعة من المجالس المحلية للعمال قادت الحراك الثوري. تأسس أول سوفييت سنة 1905 في مرحلة اضطراب كبير عاشته روسيا، كانت تلك فترة ما يسمى بالثورة الدستورية وخلال عقد كانت الثورة التي ستقلب عرش أسرة رومانوف تنضج. بتتويج الثورة البولشيفية سنة 1917 وجدت السوفياتات بين يديها زمام السلطة. كان كبار زعماء الثورة الفاعلين على الأرض من أعضائها. وهي الفئة التي غلبت الحل الثوري القاسي على الحل السلمي الذي كان يدعو له جماعة المنشفيك. لكل مؤسسة من هذه المؤسسات التي نتحدث عنها طاقة وروح ووهج، ويفسر المؤرخون وصول هذه القوة الناشئة لأغراضها بسرعة باستفادتها من هذه الروح المركزة والحاسمة لكي تبلغ أقصى ما يمكن تحقيقه أي أن تكون هي ركيزة جهاز الدولة علاوة على تقاطع برامجها مع مؤسسات دعم ثوري أخرى مثل النقابات العمالية أو الحزب الشيوعي بقيادة لينين الذي كان أغلب أوقات الثورة في الخارج. كانت أهداف السوفييت واضحة في أدبياتها بقلب الحكم وهكذا ساعدها رهانها القاطع والحاد بأن تصير قوة رئيسية في البلاد بعد ذلك. حتى الجيش الأحمر الذي أوقف النازية خلال الحرب العلمية الثانية كان إفرازا ثوريا، بما أن تروتسكي (أحد قادة السوفييت زمن الثورة) قد لاحظ بعد مدة أن الثورة ليس لديها ضمانة غير المد الشعبي الذي بدأ يتضاءل زخمه. فأخرج من ضلع السوفياتات وميلشياتها نواة أولى للجيش الأحمر. الحرس الثوري في إيران صورة أخرى لهذه المؤسسات الثورية، والتي تتحول في بعض المناسبات إلى مؤسسات الدولة الرئيسية بعد ذلك كما هو الحال في إيران. كان إنشاء الحرس الثوري بمبادرة مباشرة من آية الله الخميني ومن ثمّ سوف تتأسلم الثورة الإيرانية بالكامل بفضل هذه القوى التي صنعتها القوة الإسلامية وأطلقتها فوق أرض الواقع. إن الحرس الثوري هو قراءة خمينية في تحقق مثال الثورة الروسية بفضل دعم القوة المسلحة للجيش الأحمر، وكان الذهاب إلى الحكم بسرعة يقتضي قوة ثورية قادرة على الضرب بقوة لاجتثاث النظام السابق. تقرأ الثورة الفرنسية كأزمة للمؤسسات. لذلك كانت الثورة الفرنسية منذ اندلاعها تبحث عن استبدال المؤسسات القديمة المتهاوية بمؤسسات بنفس الحجم للمرحلة الموالية. مباشرة بعد الفصل الدموي الأساسي للثورة أي سقوط الباستيل انسحبت عامة الشعب من الفعل السياسي المباشر، واحتكرت نخب القانون والسياسة كل ملفات الثورة لتبدأ رحلة مطولة من إنشاء الهيئات التأسيسية والحكومية والملكية والتشريعية. ولكن بمرور قليل من السنوات، بدأت السياسة تنزل أكثر فأكثر إلى الأرض وأوجدت بعض الشرائح الشعبية الهيئات التي تسمع أصواتهم عبرها، وكانت أولها لجنة السلامة العامة التي أنشأت سنة 1793 ثم كانت نواة اليعقوبية التي لعبت دورا أساسيا وخطير في مسار الثورة الفرنسية. نعود الى الجدل المتصاعد في تونس بسبب لجان حماية الثورة والتي تريد أن تكون التعبير المؤسساتي عن الثورة. حين نبتت لجان حماية الأحياء بعفوية وعلى ضوء قياسات على تجارب سابقة أمام تعطل الأمن العمومي في لحظات النزع التي عاشها نظام بن علي، لم يكن أحد يتصور أن تتحول الى قوة من القوى التي ترهب في الشارع. لقد مرت الأيام الثلاثة العصيبة بعد بن علي وبدأت الميكانيزمات التي اشرنا لها في فقرة الأولى بالعمل، وأحست هذه القوة بتخلخل موقعها. كانت البداية باختلاط بين السابق واللاحق في المشاركة في اللحظات الثورية، ووجد البعض أنها مكان لانتزاع صكوك غفران الثورة، وفئة أخرى تعودت على ممارسة السياسية فوق الأرض عبر الشعب الترابية زمن التجمع والتي انقلبت مقراتها إلى مقرات للجان حماية الثورة زمن الثورة، وهي فئة لا يمكنها أن تعيش بعيدا عن أجواء السياسة التي أدمنتها. أما الضربة الاحترافية فقد جاءت من النخبة السياسية الممسكة بمفاصل الدولة في الفترة القليلة الموالية لهروب بن علي، وقتها تم إنشاء الهيئة العليا لحماية الثورة وبذلك احتوت بضربة واحدة المبادرة الشعبية، وتبنت مطالبها لتحققها بوسائل أكبر ليبدأ الاختناق التدريجي لهذه اللجان. هناك شق كبير في المعارضة يعتبر أن حل لجان حماية الثورة هو اليوم من أولويات الدولة التونسية. هذا مفهوم حين نرى أن هذه اللجان بحكم "المد الثوري" ثم الاختراق الإسلامي لن تسمح لقوة مثل حزب نداء تونس (وهو إعادة تشكيل لرموز من النظام السابق) الى العودة للسلطة حين تحرمه من أي توسع في الشارع. أما اليسار التونسي والنقابات فتأخذ الأمر بنفس الجدية في إرادة حل لجان حماية الثورة، بل أنها تضع نفسها في مقدمة مواجهة لجان حماية الثورة وكأننا أمام صراع بالمناولة، فيما لا يبدو حزب نداء تونس في الصراع المباشر. انه موضوع يبدو اليوم غامضا لأنه يضرب بجذوره في مناطق مهمشة من تركيبة المجتمع التونسي وهؤلاء الذين يكوّنون هذه الهيئات والاختراقات الممكنة (الإيديولوجية والمادية ..) والعلاقات تجاه مختلف القوى وتجاه المؤسسات الأخرى للبلاد. إن تاريخ المؤسسات والهياكل التي تتحرك على أرض الواقع لم يكشف أبدا للعيان. عموما لا تستطيع الهيئات أن تعبّر عن كل الفئات الشعبية ومن ثم ستظهر تناقضاتها بسرعة وربما يكون هذا ما حصل لها في حالة الثورة التونسية. إنها فوق الأرض تبدو عناصر قابلة للاشتعال بسهولة، يحاول كل طرف أن يستغلها أو أن يوظفها بمنطق العقل السياسي المحض، أما هي فتمضي مدافعة عن مطالب الثورة حتى تشعبت وتكاثرت لنراها اليوم بمسمياتها الكثيرة: رابطات حماية الثورة أو ضمير الثورة أو روح الثورة، ولكن في كل مخاض ثوري هناك فئة تلعب دور الوقود الثوري، وربما يكون هذا هو دورها. * رأي مصدر الخبر : البداية