تقول أبسط قواعد الاستراتيجية العسكرية إن الانتصار في أي معركة يقتضي شيئين .. إقامة جبهة داخلية صلبة وتفتيت جبهة الأعداء ، غير أن الرئيس الذي درس هذه الاستراتيجية ورشحته خبراته أن يتولى أعلى المناصب العسكرية ، لم يطبق هذه البديهيات في السياسة ، رغم أنه يعيها جيدا ، ورغم أنه يخوض معركة حقيقية. كان الأمر يقتضي منذ البداية دراسة حالة للواقع المصري في 30 يونيو 2013 والإمساك بلحظة إجماع غالبيته على إنهاء حكم الإخوان ، ومعرفة أسباب غضب الناس ضد هذا الحكم الوليد ليصبح أثرا بعد عين في عام واحد ، لتجنبها ، ومنها الاقتصاد المتراجع والأزمات المتتالية في سلع أساسية بينها الوقود والكهرباء ، والإقصاء السياسي الذي أبعد أقرب حلفاء الجماعة (حزب النور وحضور مؤتمر فيرمونت) ، مع الإبقاء على جذوة الثورة مشتعلة لتوظيفها في حل معضلات كبلت مصر طويلا ومن بينها الفساد والبيروقراطية وغيبة العدل الاجتماعي. كما كان الأمر يقتضي حصرا للأعداء والعداوات ، وتصنيفا دقيقا يفرق بين من يعادون الدولة ويتحدونها ويحاولون وضع العراقيل واختلاق المشاكل لإغراقها في دوامة عنف بصرف النظر عن النظام الذي يحكمها ، وبين من يعادون النظام سعيا لإقرار حقوق مهضومة أو انتزاعا لحريات غائبة ، أو تحقيقا لأحلام ثورية مجهضة . وفي يقيني أن الرجل لم تغب عنه هذه الحقائق ، لكن متغيرات حدثت جعلته يزحزح ذلك إلى هامش تفكيره ، ويسير عكس اتجاه كان حدده لنفسه ، فالطنين الإعلامي الذي رافق فكرة ترشيحه ثم إعلان ترشيحه ، جعلته يتصور نفسه المنقذ الذي لا يحتاج أحدا ، ولا يحتاج استراتيجيات للتعامل مع وضع شائك ومعقد ، ومن ثم لجأ لاستثارة العواطف ، واتجه بشكل خاص إلى من تستثار عواطفهم ببساطة ، فكان التركيز اللافت على المرأة. كما أن إحساس الجهاز البيروقراطي المصري بأن نفوذا غائبا بفعل الثورة وتداعياتها قد عاد ، جعله يوظف نفسه لفكرة المرشح الأوحد (الخيار الصفري) ، ونقل ذلك لقطاعات عريضة في الإعلام والقضاء ، وساد الضجيج لدرجة توارت معها أصوات العقلاء وصار صوتهم ممجوجا ، فصدق الرجل نفسه والطنين المحيط به في كل الفضاءات بأن حكم مصر شيء هين ، وأن البلاد سلمت وفوضت واختارت طائعة مرشحا بلا برنامج ولا خطط عمل. وربما يكون السيسي قد سار باتجاه عكسي لما خططه بذاته ، لممارسة الحكم ، وساعد على ذلك الإرهاب الأعمى الذي التحف بعباءات إسلامية مدعاة ، ووظف مظالم اجتماعية وتهميشا كان قائما ، ومن ثم فإن هاجس الأمن أزاح السياسة وأزاح التفكير الاستراتيجي لحل معضلات الواقع المصري. ولأن التقارير الأمنية تنضح بما يريد الحاكم أن يسمعه ، فقد صور له أن الجبهة الداخلية متماسكة ، وأن الناس مستعدون لأكل الحصرم بعد رحيل الإخوان ، لم يلتفت الرئيس لأي بوادر غضب أو تصدع ، حتى في معسكر 30 يونيو الذي أتى به من شارع الخليفة المأمون إلى الاتحادية ، كما لم يلتفت إلى أن أجهزة تمارس تصفية حسابات مع التيارات الثورية الحقيقية ، التي خرجت وحيدة قبل أن تلحق بها فصائل الإسلام السياسي التي لم تكن تؤمن بجدوى الثورة أصلا. بناء عليه عانت الدولة من نزيف يومي في الرجال ، لدرجة أن النظام يكاد يخلو تماما من أي مناصر له احترامه وتقديره بين قطاعات عريضة من الشعب ------------ المقال هو الجزء الثالث من سلسلة "دولة عباس كامل وشركاه" منشور في عدد المشهد الأسبوعي .. اليوم لدى الباعة رابط الجزء الأول http://al-mashhad.com/Articles/1044446.aspx رابط الجزء الثاني http://al-mashhad.com/Articles/1046053.aspx المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية