"المشهد" تخترق المحطة وتكشف حرق النفايات الصلبة بالخارج بالمخالفة لقانون البيئة الأهالي يتنفسون سرطان دخان المحطة.. وأحد جامعي القمامة يتهم موظفي المحطة بالتربح من حرق النفايات استيقظت على صوت سعال ابنها الذي لا يتجاوز عمره 12 عامًا، ارتجف قلبها عندما رأت الدم يتطاير من فمه مع سعاله، لا يوجد مستشفى عام بجانب العشوائية التي تعيش فيها هذه المرأة الستينية، فاضطرت للجوء لمستشفى خاص لإنقاذ ابنها الذي لم يتوقف سعاله، وكانت في المستشفى على موعد مع الصدمة بأن ابنها يعاني من التهاب رئوي حاد سبب له السل، لتزداد مأساة فوق مأساة مرضها بسرطان في الكبد. "أنا كنت بشتغل في الزبالة جنب المحطة بس ابني كان بعيد عنها" تقول رضا عبد الحميد محمد، مشيرة في ذلك إلى محطة قمامة "المناولة"، وهي المحطة التي تسكن خلفها. كانت رضا تصنف القمامة، وتحرق المواد الصلبة منها التي تحتوي على عناصر النحاس والكادميوم والرصاص، ليأخذها تاجر الروبابيكيا مقابل 30 جنيه في اليوم، وهي العناصر التي تسبب، وفقًا لعدد من الدرسات، التهاب كبدي وبائي (بي وسي). "كنت عارفه أن الشغلانة ده خطر، لكن هعمل إيه المعاش 300 جنيه، ما بيكفيش حتى الإيجار؟" تبرر رضا بذلك عملها في المحطة التي تحولت إلى شبح لأهالي المنطقة. تقع محطة المناولة لجمع القمامة من سبع مناطق كبرى في القاهرة، في قلب منطقة سكنية تابعة لمنطقة "عزبة النصر" العشوائية في حي البساتين بجنوب القاهرة. وبالقرب من محطة المناولة يوجد مجمع مدارس يحتوي على 4500 تلميذ، ومركز شباب. وقبل إنشاء المحطة وبعد ثورة يناير كان ينتفع الأهالي من السوق المقام في نهاية العزبة بالقرب من الطريق الدائري. تم إخلاء السوق الذي كانت تُباع فيه السلع بسعر مناسب لأهالي المنطقة الفقراء، فور إنشاء محطة المناولة قبل عامين. وما زاد من أزمة الأهالي، أن القمامة تلقى في خارج المحطة وتُحرق المواد الصلبة بها، ما جعل في كل بيت مريض أو مشروع مريض. داخل مقلب القمامة "المشهد" اقتربت من المحطة وأهلها، وعاشت معهم مأساتهم التي لم تحلها إلى الآن زيارة وزير البيئة خالد فهمي في 3 أغسطس الماضي. توغلنا في تلال القمامة الموجودة على مساحة كبيرة خلف المحطة، وأول ما لفت انتباهنا أن القمامة الموجودة في واجهة المنطقة تحتوي على مخلفات عضوية، بينما في منتصف المقلب توجد حفرة مجمع بها مواد صلبة يتم حرقها، ويتصاعد منها الدخان. دخان آخر أقل كثافة، لفت انتباهنا، فتوجهنا إليه والتقينا بأحد من يصهرون المواد الصلبة. "بلقط حتة سلك نحاس ألمونيا بلاستيك، وبصفيها بالولعة"، يصف محمد فؤاد محمد عمله، مضيفًا أنه كان يعمل سائق، ولكن تركيب شريحة في زراعه أوقفه عن العمل. يأخذ الرجل الأربعيني ما يجمعه ليبعها لتجار الروبابيكيا في عزبة الورد التي يوجد مجمع قمامة كبير.."باخد من 30 إلى 50 جنيه في اليوم، وده أكل عيشي الوحيد". يعلم فؤاد مخاطر عمله، مثله مثل رضا، ولكنه لا يلتفت إليها "عندي حساسية على الصدر، وده أحسن من السرق والنهب". يؤكد فؤاد على أن مسئولي محطة المناولة يحرضون السائقين على إلقاء القمامة خارج المحطة، قائلًا: "المدير بيخليهم يرموا الزبالة بره، وبيولعوا فيها علشان تتصفى، وتتباع ويتعمل منها سماد". فؤاد ليس الوحيد الذي "يلقط أكل عيشه" من هذه المحطة، فالمنطقة تقع بالقرب من عزبة الورد وعزبة خير الله ومنطقة بطن البقرة، وهي مناطق عشوائية يعيش معظم أهلها على جمع القمامة وفرزها وبيعها. وفي المنطقة نفسها رأينا العديد من الخردوات على جانبي الطريق، لتخبرنا أن أهالي المنطقة يعيشون على جمع الخردوات والمواد المعدنية، وبيعها. التنفس بجهاز صناعي أثناء خروجنا من تل القمامة، تفاجأنا بأن رجل يطالبنا بتصريح التصوير محاولًا الاعتداء علينا، إلا أن بعض من أهالي المنطقة تصدوا له، وعرفنا منهم أنه راعي غنم ينتفع من وجود القمامة خارج المحطة، وإطعام غنمه منها. يقدم تامر أحمد، أحد السكان الذين تصدوا لتجار الغنم، شكواه للمسئولين قائلًا: "انقذونا، أنا ابني بيتنفس بجهاز صناعي"، مضيفًا "اللي بيرمي بره بيدفع، زي اللي بيرمي جوه.. مش عارفين إيه السبب في رمي الزبالة بره وحرقها، عاوزين يموتونا يعني؟!". جولة داخل المحطة حاولنا الدخول إلى المحطة، لمعرفة الوضع بالداخل، ولم يكن بالطبع سيسمح الموظفين لنا بالدخول، فقررنا أن ندخل عبر سيارة قمامة. توجه معد التحقيق إلى مدخل الأتوستراد الذي تأتي منه سيارات القمامة، وأوقف أول سيارة محملة بالقمامة في طريقها للمحطة، وطالب من سائقها أن يركب بجواره، ودس في جيبة بعض النقود كانت كفيلة بمنعه من التساؤول عن السبب، وطالبه أن يدخل للمحطة بدون توقف أمام الموظفين، خوفًا من أن يتعرفوا على هوية معد التحقيق، خاصة بعد حالة الصخب التي صاحبت تجوله عند مقلب القمامة. دخل السائق إلى المحطة، وخلال إنزاله القمامة ودفعه للموظفين الذين يجلسون خارج المحطة، رسوم إلقاء القمامة، استطاع معد التحقيق أن يتجول في المحطة ويلتقط بعض الصور، تثبت أن مساحات كبيرة من المحطة خاوية، وأن القمامة خارج المحطة تكاد تصل إلى ضعف القمامة الموجودة داخل المحطة. مخالفات المحطة ما رصده معد التحقيق مخالفة واضحة لقانون البيئة رقم 4 لسنة 1994، وهو القانون الذي تنص الفقرة الأولى والثانية من مادته رقم 37 أنه "(أ ) يحظر قطعيا الحرق المكشوف للقمامة والمخلفات الصلبة. (ب) ويحظر على القائمين على جمع القمامة ونقلها إلقاء وفرز ومعالجة القمامة والمخلفات الصلبة إلا في الأماكن المخصصة لذلك بعيدا عن المناطق السكنية والصناعية والزراعية والمجاري المائية وتحدد اللائحة التنفيذية لهذا القانون المواصفات والضوابط والحد الأدنى لبعد الأماكن المخصصة لهذه الأغراض عن تلك المناطق". ويعاقب القانون نفسه كل من يخالفه ب" السجن مدة لا تزيد علي عشر سنوات كل من ارتكب عمدا أحد الأفعال المخالفة لأحكام هذا القانون إذا نشأ عنه إصابة أحد الأشخاص بعاهة مستديمة يستحيل برؤها ، و تكون العقوبة السجن إذا نشأ عن المخالفة إصابة ثلاثة أشخاص فأكثر بهذه العاهة، فإذا ترتب علي هذا الفعل وفاة إنسان تكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة، وتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة إذا ترتب علي الفعل وفاة ثلاثة أشخاص فأكثر". فيما تعددت الأبحاث التي ترصد مخاطر حرق القمامة، وجاء في دراسة أعدها الدكتور ثابت عبد المنعم إبراهيم، مدير مركز الدراسات والبحوث البيئية بجامعة أسيوط، أن " تؤدي عملية حرق الفضلات وبشكل خاص مكوناتها ذات التركيب البلاستيكي إلى انطلاق دخان كثيف وغازات ضارة بصحة الإنسان والحيوان ومنها مركبات ديوكسين المسرطن ومركبات الكادميوم السامة . كما يتسرب أجزاء من نواتج حرق المخلفات من المركبات الكيماوية الضارة بالبيئة مع مياه الأمطار والسيول إلى المياه الجوفية داخل الأرض وتلوثها . " تجولنا في عدد من صيدليات والمراكز الصحية الموجودة في المنطقة التي لا توجد بها أي مستشفى عام، تقول لنا الدكتورة الصيدلانية بسمة محمود إن سكان المنطقة يعانون من حساسية على الصدر، وأمراض جلدية، ناتجة عن التلوث البيئي. وتضيف أنه بمتوسط 50 حالة تأتي إسبوعيًا لصرف علاج أمراض صدرية، ويصل ثمن هذه الأدوية من 12 إلى 30 جنيهًا، وهذا الرقم كبير بالنسبة لأهالي المنطقة الذين يأتون للسؤال عن أدوية مجانية تتبرع بها المراكز الخيرية. الأمراض التي تغزو المنطقة ليست فقط بسبب الأدخنة "الحشرات أيضًا الناتجة عن تجمع القمامة والنفايات الطبية غير المعالجة، تنقل البكتريا والفيروسات الكبدية شديدة الخطورة"، حسبما قالت بسمة. توضح عبير علي، إحدى المشرفات على مجمع المدارس، أن الأطفال يواجهون مخاطر الدرن وأمراض صدرية وكبدية. وتضيف أنه توجد حالاتين إصابة بالكبد وواحدة بالدرن عند أهالي المنطقة، بجانب عشرات الحالات بحساسية الصدر عند الأطفال. وتشير إلى أن الأهالي المنطقة توجهوا بالشكوى للمسئولين عن البيئة والحي والمحافظة لحل مشاكل المحطة، وجاء وزير البيئة هنا ولكن لم تحل المشكلة إلى الآن. يوضح إيهاب محمد، مدير مركز شباب عزبة النصر، مدى الضرر الذي حدث له من دخان المقلب المجاور للمحطة بقوله: "أنا بقالي 15 سنة بدخن، ما حسيتش بتعب في صدري غير لما اتنقلت هنا". ويضيف أنه الأطفال يعانون يوميًا من استنشاق الأدخنة التي يتم حرقها في الليل والصباح الباكر على وجه الخصوص، مطالبًا بضرورة نقل المحطة سريعًا، وليس فقط حل مشكلة حرق المخلفات الصلبة، أو إلقاء القمامة خارج المحطة. أهالي المنطقة لم يلجأوا فقط إلى المسئولين الحكوميين، وتوجهوا أيضًا لمؤسسات المجتمع المدني. "وردت لنا شكاوي من حالات إصابة بالسرطان والكبد والدرن وأمراض الصدر بسبب مخالفات محطة المناولة" يقول مصطفى غريب، عضو المؤسسة القومية لحقوق الإنسان بجنوب القاهرة. ويضيف أنهم سيرفعون الشكاوي إلى الجهات التنفيذية المختصة، لنقل هذه المحطة من منطقة عزبة النصر المأهولة بالسكان. حرق القمامة حرق القمامة الأم جانب من المنطقة جانب من المنطقة القمامة القمامة