رؤية خاصة رحلت أمي عليها من الله رضوان ورحمة ذات ليلة. بعد غفوة قصيرة استيقظت انتظاراً لصلاة الفجر فجاءها ملك الموت الكريم وأبي يظنها في سنة من النوم. حزنت عليها حزن ابنة أناخت طوال أربعين عاماً بحملها وثقلها على صدر الأمومة الحنون وجدار الأمان المتين حتى انقض الجدار فجأة .. تركتني أترنح من هول المفاجأة وأقف كطفل باكٍ وحيد في قفر مظلم. مستسلمة لرياح الحزن العاتية لم أفطن لشعور خفي تسلل إلى نفسي واستوطن روحي طولاً وعرضاً وسكن جميع مسامي دون أن انتبه حتى أفقت ذات صباح على وهنتنسل معه روحي. كخرقة بالية ملقاة على الفراش رحت أضغطبيدي على ما حسبته موضع الألم دون جدوى، داهمني اليقين بأنه الموت.بيد أنه لايأتي هادئاً ودوداً عطوفاً كما فعل مع أمي بل جاء صارماً جاداً معنفاً. شيئ لا أعرفهيقتلع قلبي اقتلاعاً . جاءتني جارتي الطبيبة.. عبثاً تحاول قياس نبضي وعد ضربات قلبي.. مرة ومرات والنبض يراوغ والضربات تتراقص. " دقيقة واحدة" قالتها وهيتستخلص ذراعهابرفق من يدي المتوسلتين. " دقيقة؟! وهل سيمهلني القدر دقيقة كاملة؟ " كان الشعور الذي انسل خفية لنفسي قد أسفرعن وجهه دون مواراة: الموت قريب عتي قادر متعجل لا أناة له ولا صبر لديه..أن تضج بالحياة وتقف على قدميككما كانت أمي لايعني أنك عصي على الموت..وأن تكون محور حياة من حولك كما كانت أميلن يشفع لك حين تأتي ساعتك. "منى..هل أنت خائفة؟" سألتني الطبيبة. خائفة ؟!! فحسب؟ أنا أغرق في بحر لجي من الخوف، ويد حديدية هائلة تسحب قلبي من جسدي. "لا تخافي. أنت بخير. الخوف هو الذي يذبذب ضربات قلبك". مضت جارتي الطبيبة بعد عمل مايلزم وتركتني كائناً لا أعرفه في حياة لا أعرفها .. الموت يأتيني من كل مكان؛ أقف للصلاة فأعلم أني لن أركع لأن الموت سيسبق. أركع وأنا موقنة أني سأسجد في عالم آخر. أودع أطفالي للمرة الأخيرة في كل مرة أغادرهم أو يغادرونني. لم يكن الموت –كنهاية للحياة – هو ماأخشاه، فقد هانت الحياة وشحبت مباهجها بعد رحيل أمي الحبيبة. بل كنت أراني بعد الرحيل كحبة رمل في صحراء مترامية يسد الأفق في نهايتها طودٌ عظيم نُصب فوقه الميزان..ميزان الحق. أقف أمام رب العالمين محملة بالذنوب والآثام بلا شفيع ولا نصير وبلا عمل صالح ينافح عني ولا ملاك رحمة يزكيني، فتذهب نفسي كل مذهب؛ يتساقط لحمي فرقاً ..تنسحق عظامي .. ألهث وتتقطع أنفاسي كأني أعدو منذ ألف عام. كنت كأنما كشف رحيل أمي عني حجب الغيب. برهة من الزمن-على قصرها- كانت كفيلة لأدرككل حقائق الحياة والموت والبعث والحساب التي طالما غفلت عنها. صاحبني هذا الإحساس المميت أسابيع طويلة حتى بعد أن تبدد هاجس الموت الرابض في كل ركن والمتربص في كل لحظة. الآن أو بعد ساعة أوبعد عشرين عاماً ستأتي اللحظة وسأقف شعثاء غبراء بلا حائل أمام ميزان الحق. يلح هذا الشعور على وجداني ويملأني الخوف فأفزع إلى الله : يارب أنا خائفة .. خائفة.. ثم تشملني نسائم رحمته فأهدأ قليلاً وأمضي على درب الحياة بحلوها ومرها. هذا ما فعله بي موت أمي. آخر وأهم درس قدمته لي، جاءني بعد رحيلها. رحمك الله ياكنز الرحمة الذي فني. من العدد المطبوع من العدد المطبوع