إذا لم يكن مشغولا بتشخيص أو تمثيل أحد الادوار، فإن أحمد زكي كان يقضي أو فلنقل يبدد الفائض من طاقته في الكلام! كان إذا تحدث فمن الصعب او من المستحيل أن توقفه أو تقاطعه، عندما كان لايزال بيننا، كان من الممكن أن يفاجئك بمكالمة تليفونية صباحية تستغرق عدة ساعات، يتحدث فيها عن أحلامه، عن آماله، عن رؤيته وتصوره الخاص في تجسيد أحد الأدوار، وكثيرا ماكان يبدو غاضبا لأن أحد أفلامه لم يخرج بالطريقه التي حلم بها، البيه البواب مثلا، رغم نجاحه الشديد، إلا أن أحمد زكي لم يكن راضيا عنه، لأنه "من وجهه نظره" وجد في أداء بعض الممثلين لأدوارهم نوعا من الاستخفاف، والاستسهال، يمكن أن يرجعه لعدم استيعاب أبعاد الشخصية، عندك مثلا شخصية الموظف الذي خرج علي المعاش، ورغم طول السنوات التي قضاها في خدمة الحكومة، فإنه لم يحصل في النهاية إلا علي معاش لايكفي لأن يوفر لأسرته حياة كريمه، وعندما يعرض عليه البيه البواب، أن يسكن في حجرة علي السطوح ويقوم بتأجير شقته بمبلغ يقترب الي ثلاثة أضعاف مايتقاضاه من الحكومة، فإنه يقبل بعد تردد، ويشعر بالهوان وهو يعقد مع البواب صفقة تلو الأخري حتي يتحول في نهاية الأمر الي مساعد أو تابع للبواب الذي لاتنتهي طموحاته المادية أبدا، كان أحمد زكي يؤمن بأن شخصية هذا الموظف هي مفتاح الفيلم، وأهم شخصياته، وكان يؤمن أيضا أن الفنان فؤاد المهندس لم يقدم حالة الانكسار التي لابد وأن تلازم الشخصية، وإنما كان يتعامل معها باستهانة، معتقداً أن عليه أن يكون مضحكا طوال الوقت حتي في اللحظات التي يجب أن تقود إلي معاناة إنسانية، وإلي إنكسار وإحساس بالهوان لأن الزمن جار عليه وجعل البواب الجاهل يقوده الي طريق مسدود! رغم نجاح الفيلم وإشادة النقاد بأداء أحمد زكي، إلا أنه كان غاضبا غير راض عن النتيجة النهائية للفيلم، ولأنه كان يدرك أن الهجوم العلني علي أداء فنان له تاريخ وقيمه مثل فؤاد المهندس أمر غير أخلاقي، فكان لايملك غير الفضفضه، حتي لايطق أو ينفجر من الغيظ، وكان يدرك أن ماقاله لن يخرج الي صفحات الجرائد "في حينها" فكان ينتقي الصديق أو الشخص الذي يتوفر له ثلاث صفات، اولها أن يكون قادرا علي فهمه واستيعابه، ثانيا يحترم خصوصية الموضوع ولايتاجر به أو يستثمره، ثالثا يكون عنده وقت وصبر وفضيلة الإصغاء بدون تبرم، وأعتقد أن الثلاث صفات كانت تتوفر لي، بالاضافة الي صفة رابعة أيضا وهي الاستيقاظ مبكرا حيث كان يهوي إجراء بعض مكالماته التليفونية في الصباح الباكر! ولكن الأمور تبدلت بيننا عندما كتبت يوما رأيا سلبيا عن إصراره علي الغناء في معظم أفلامه، بدون ضرورة درامية!وفي مكالمة غاضبة، تحدث من طرف واحد دون أن يمنحني فرصة لإبداء الرأي، أخبرني أنه لن يتحدث الي مرة أخري!وقابلته في مناسبات كثيرة فكان يتجنب المصافحة أو إلقاء السلام، ومن ناحيتي كنت لاأحاول حتي الإقتراب منه، فقد آلمني موقفه مني، رغم أنني كنت أحاول أن أصيغ آرائي دون أن أتعرض لشخصه، والأهم من ذلك أنني كنت مؤمنة بموهبته الاستثنائية، وكنت أعتقد أنه أحيانا مايبددها في أفلام بلا قيمة مثل "ستاكوزا"، وامرأة واحدة لاتكفي والبيضة والحجر، أبو الدهب، المخطوفة! لقاء من جديد ومرت سنوات، قبل أن اسمع صوته مرة أخري، يدعوني للقاء في منزله في شقته الجديدة بالمهندسين "أمام جامع الشاذلية"، وكان قد حصل علي أول نسخة من شريط الفيديو الخاص بفيلم السادات، ورغم إشادة النقاد، إلا أنه لم يكن راضيا بما يكفي لأن بعضهم كان يعلق نجاحه في تجسيد أدوار الشخصيات العامة لقدرته علي التقليد، ورغم أني لم أكن من بين هؤلاء النقاد إلا أنه أصر علي عرض مقاطع من الفيلم وإيقاف الشريط عند مناطق بعينها ليشرح لي كيف جسد كل لقطة، وإن مشاعر شخصية السادات كانت تتغير بين لحظة وأخري، بين الضعف والقوة والتحفز والمداهنة، والسيطرة وإنه كان مدركاً لتلك التغيرات التي طرأت علي الشخصية وقدمها بحرفنة عالية لاعلاقة لها بالقدرة علي التقليد، كنت مؤمنة بمايقول تماماً، ولكنه لم يهتم بإيماني وأصر علي الاستفاضة في الشرح، وكأنه كان في حاجة إلي شهود علي عبقريته في الأداء، وأطلت بعض المرارة من ثنايا كلماته، وكان يعتقد أن في مقدرة أي ناقد أن يتناول أفلامه بشرح تفصيلي لكيفية أدائه لكل لقطة! الإيمان المطلق مرت خمس سنوات علي رحيل أحمد زكي، وهو واحد من اصحاب المواهب النادرة، التي لايجود الزمان بمثلها كثيرا، وعندما أستعيد كلماته واحاديثه أدرك انه كان يعذبه عدم حصوله علي مايستحقه من تقدير، ولم يكن يعنيه الإطراء أو حتي الإعجاب، والإشادة لقد كان يريد من الآخرين أن يقروا ويعترفوا بإيمانهم المطلق بموهبته، كان في حاجة لإيمان لاتشوبه شائبه أو ملاحظة علي أداء، الملاحظات النقدية العابرة كانت توجعه وتؤلمه، وتغيظه فتشل قدرته علي إدراك مايحمل النقد من إعجاب واعتراف بقيمة موهبته!فاته أن الإيمان المطلق والدائم أمر يشبه المستحيل، فلكل فنان مهما ارتفعت قامته وقيمته بعض الاخطاء، قد تنتج عن سوء الاختيار، أوسوء الظروف الإنتاجية، ولكنه كان يحمل نفسه تبعات كل تجربة لم تحقق نجاحا وكان يريد في نفس الوقت ان يستمتع وحده بكل نتائج النجاح!سنوات العذاب والضنا حفرت في نفسه أخدودا من الآلام والحزن، ولم يستطع النجاح أن ينقذه، من شعوره الدائم بعدم الأمان، فكان يحيط نفسه بالمعارف والأصدقاء، وكان يتحدث كثيرا ليشرح أفكاره ومايدور في نفسه، وكأنه يريد من هؤلاء "السميعه" أن يكونوا شهودا علي حياته ورواة لسيرته، حتي لاتنقطع! هل كان يدرك أن القدر لن يمهله المزيد من سنوات العمر ليحقق مايدخره من أحلام؟؟ عواصف وأعاصير رغم قسوة المرض، الذي داهمه في عز سنوات مجده، ونضج موهبته إلا أنه كان به رحيماً، فلم يكن أحمد زكي من هؤلاء الذين يمكن أن يحنوا رؤوسهم وقامتهم عندما تأتي العواصف، والأعاصير العاتيه، وأتخيل مدي العذاب الذي يمكن أن يعتصر نفسه كل يوم لو أنه عاش ليومنا هذا، ليجد الأقزام وأنصاف الموهوبين، والأراجوزات ولاعبي الأكروبات و"المشهيصتيه" وهم يحتلون أفيشات الأفلام، ويخرجون علينا بأفلام تثير الغثيان، ومع ذلك تلهث شركات الإنتاج لنيل رضاهم، والخضوع لرغباتهم المريضة التي تعبر عن جهل وفقر في الموهبة، لم يكن أحمد زكي مؤهلا للتعامل مع أي من المخرجين الجدد الذي يمكن أن يصنع من خده مداساً لقزم صغير، يعتبره البعض مضحكا، أو ممثلا عشوائياً يمثل بمؤخرته أكثر ممايمثل بملامح وجهه، أو صاحب وجه بلا انفعالات ومع ذلك يعتبره البعض من نجوم المرحلة!هل كان يمكن أن يتعايش أحمد زكي ويتواءم مع كل هذا التخريب المتعمد في صناعة السينما؟؟ هل كان يمكن أن يسبح وحده ضد التيار!هل كان يمكن ان يقدم لنا ماهو أروع مماقدمه في البريء، وزوجة رجل مهم، وأرض الخوف، ومعالي الوزير واضحك الصورة تطلع حلوة، الهروب، الإمبراطور، الأيام، ناصر 56، أنا لاأكذب ولكني أتجمل. نجوم الملايين لوكان امتد به العمر، ربما وفي أفضل التوقعات كان يمكن أن ينضم الي قائمة نجوم رمضان الذين يحصلون علي عدة ملايين عن المسلسل الواحد، ولكن لا أعتقد أن هذا التصور يمكن أن يمنحه السعادة والرضا وهو يقدم مثل غيره مسلسلات استهلاكية ينتهي تأثيرها مع نهاية الحلقة الثلاثين، كان سيأكله الألم وهو يضحي بتميزة وتألقه ليضمن التواجد السنوي بين نجوم المسلسلات، أحمد زكي كان يدرك قيمة موهبته ويفاخر بها، وأعتقد أنه كان يفضل الموت عن الحياة في الظل، أو وسط من يتعاملون معه كمجرد سلعة رمضانية للاستهلاك المؤقت! في الحفل الذي أقيم للإعلان عن بداية مشروعه السينمائي الأخير"العندليب"، ظهر أحمد زكي بين أصدقائه وزملائه وكأنه يلقي عليهم النظرة الأخيرة ويودعهم، بعدها بأشهر قليلة أسدل الستار علي حياة النجم أحمد زكي عن 55 عاماً، قضي نصفها في أداء عشرات الأدوار صنعت منه أسطورة لايمكن أن تغيب عن الذاكرة، كما لايمكن أن يتسرب الملل لمن عرفوه عن قرب من رواية الحكايات عنه، أو التندر بأقواله وأفعاله وآرائه في نفسه وفي أعماله الفنية، لقد منحه القدر فرصة أن يعيش عظيماً ويموت بكبرياء لعله يكون الآن راضياً، مقتنعا بأن ماقدمه لم يذهب هباء وسوف يظل إمبراطور فن الأداء التمثيلي أو "التشخيص" كما كان يحب أن يطلق عليه!