النسخة التي شاهدتها لفيلم «بالألوان الطبيعية» إخراج أسامة فوزي «C.D» هي نسخة العمل الأولي، أي النسخة التي يتم الاحتفاظ بها في المعمل، أو لدي شركة الإنتاج، قبل إضافة العناوين، وهذا خير دليل علي أن عملية القرصنة علي الأفلام الجديدة، وتحويلها إلي الاسطوانات المدمجة، تتم داخل شركات الإنتاج نفسها، أو لدي بعض من تثق فيهم الشركة. هناك فرصة من سوء حظي كمتفرج لهذا الفيلم، أنني أعمل بالتدريس- غير متفرغ- منذ عدة سنوات في إحدي كليات الفنون الجميلة، وأكاد أجزم أنني قريب كثيرًا إلي قلوب بعض طلابي، حيث لا يكفون عن الاتصال بي، ولا أعتقد قط أن هناك أية علاقة، أو تشابه بين من أعرفهم من هؤلاء الطلاب، في أكثر من شعبة، وبين من شاهدتهم في فيلم «بالألوان الطبيعية».. وأخشي أن أقول إن الفيلم بذلك فقد مصداقيته، ولا أدل علي ذلك أن مؤلف الفيلم، قد تجاهل، عن غير معرفة، السنة الإعدادي في هذه الكلية، ورأينا يوسف يلتحق بالصف الأول مباشرة من الكلية، ويتركه كي يعود إليه مرة ثانية. الأمر الثاني، هل نحن بالفعل أمام الثنائي الذي قدم لنا «بحب السيما» بكل ما فيه من تلقائية، وصدق وجرأة وحنين، وهل هذا السيناريو كتبه هاني فوزي الذي قدم واحدة من أجرأ الأفكار في فيلم «الريس عمر حرب» حول العلاقة بين الإنسان والمطلق، وهو موضوع معقد، متراكب، مليء بالأشواك والممنوعات، وهو الموضوع الذي لا يزال يمثل هاجسه الأول، فطرحه في فيلمه الجديد، لكن الصياغة هذه المرة جاءت مليئة بالمباشرة، والخطابة، فبدت أشبه بالخواطر التي تؤرق أبناء هذا السن الذين يمثلهم الفيلم، وأيضًا الأصغر سنًا بقليل. المونولوج الراقص في الأدب، عادة ما يتم طرح مثل هذه الأسئلة أو الأفكار من خلال ما يسمي بالمونولوج الداخلي أما في السينما، وفي هذا الفيلم بالذات، فقد تمت مسرحة المشاهد، أي أن يوسف وهو يطرح أسئلته، فإنه يقف وسط زملائه وزميلاته المتناثرين حوله، ويصبح عليه فقط أن يتساءل ويطلق أسئلته المتعلقة بالجدل، والوجود، والمعني، حيث يبيح لنفسه أن يتساءل بصوت عال، مسموع، علمًا بأن إمكانيات استخدام المونولوج الداخلي، والبعد عن المباشرة، هي من أهم سمات السينما الحديثة.. وقد انعدمت هذه المباشرة في الحديث الذي يوجهه يوسف إلي السماء، فيما يخص الفن بشكل عام، والموهبة بشكل خاص، فإذا توقفنا عن واحد من هذه المشاهد المباشرة فهناك المشهد الذي تكاد فيه إحدي المعيدات بدهس يوسف، وبكل ما لديه من غيظ يلصق ال«طظات» الخاصة به بينما زملائه مجرد مشاهدين، كومبارس، دون أي تدخل، ثم هو يرفع رأسه إلي السماء، ويقول بالحرف الواحد، بصوت عال، والآخرون ينظرون إليه دون أي تدخل: ليه جبتني هنا يقصد كلية الفنون الجميلة، ليه.. أنا إيه.. اطلع إيه.. قولي.. كلمني، أنا موهوب ولا إيه، ليه جبتني هنا، أناجيت عشان اتعلم وأبقي فنان، أنا عاوز أبقي فنان ثم يجثو ويردد وهو يرفع رأسه إلي السماء) مش ح أنفع في حاجة تانية انقذني الحقني.. ما تسيبنيش، لو اهمك صحيح ما تسيبنيش. لو بتحبني ماتسبينيش. ثم يبكي، فيأتي إليه اثنان من زملائه، ويلملمون حاجته، ويتخلل هذا المشهد وجوه بعض زملائه متأثرة بما يقول، وأيضًا منظر للسحب، بما يعني أنه يوجه هذه الكلمات إلي الله سبحانه وتعالي يخاطبه فيها. وسوف يتكرر هذا المشهد مرة أخري في مكان آخر، لكن من الواضح أن هذا الحوار، يكون مناسبًا تمامًا في المسرح، بنفس الكيفية، وطول العبارة، والأداء، مثل الصوت العالي، وسلبية الآخرين، والجثو علي الركبتين. والطريف أن المشهد التالي مباشرة تغلب عليه صفة المسرحية، كأن يتكلم شخص، حتي ينتظر الطرف الآخر، فإذا جاء الدور عليه تكلم من خلال مجموعة جمل تقريرية عن الحرية، الفن فكأنما الفيلم أراد أن يقول كلمته، من خلال الحوارات بين مجموعة من الأطراف، وأطراف أخري، مع التركيز علي نماذج بعينها، أهمها، وأكثرها تمحوراً، يوسف الذي واجه مواقف صعبة من أمه التي وقفت دومًا ضده كفنان يلتحق بكلية الفنون الجميلة. لذا، اتسعت المدة الزمنية التي يتناولها الفيلم، فيما قبل الالتحاق بالكلية وحتي إعلان أحد أساتذة الكلية عدم قبول دفعة جديدة من المعيدين، بعد أن احتد إبراهيم علي أساتذته، ووقف أعضاء التحكيم ضد يوسف. مشاكل وسلبيات وأمام هذه السنوات الأربع، وهذه الشخصية الرئيسية، حاول الفيلم أن يستجمع في عمل واحد كل المشاكل السلبية التي يمكن لشخص أن يلاحظها في هذا العالم، أو أن يحكيها طالب في الكلية لشخص آخر، علمًا بأن هذا أول فيلم في تاريخ السينما المصرية- إن لم يكن في السينما العالمية- الذي يدخل إلي كلية الفنون الجميلة، وجاءت أهمية هذا الدخول من التحول الحاد الذي جري لطلاب الفن، فاتجه الكثيرون منهم إلي تحريم الفن، وقد توقف الفيلم، في محيط حكاياته، عند موضوع موقف المتدينين بشكل ثانوي، حيث إنهم سرعان ما خرجوا من دائرة الاهتمام، بعد أن ارتدت إحداهن النقاب، ولا نعرف ماذا حدث لها بعد ذلك، إلي أن دخلت المعيدة في حياة الطالب.. وقد كشف الفيلم عن بعض الواقع الحقيقي بجرأة شديدة، ليس فقط لما يحدث في كلية الفنون الجميلة، بل يحدث هذا في الجامعة بشكل عام، مثل بعض السخرة التي يمارسها أساتذة علي طلاب الدراسات العليا، حيث كلف أستاذ تلميذًا له بمصاحبة أمه المريضة القعيدة إلي الطبيب، وكان عليه أن ينزل بها من عدة أدوار عليا، وهي جالسة فوق مقعد متحرك، وقد شاهدت بنفسي أمورًا مشابهة.. كما أن الفيلم توقف عند علاقة أساتذة ما بتلاميذ لهم، يستفيدون من موهبتهم، فيدفعونهم إلي عمل «نسخ» من لوحاتهم، من أجل بيعها، بعد أن يقوم الأستاذ بالتوقيع عليها، وليس هذا النوع من الفساد في عالم الفن مرتبطًا بالأساتذة بل أيضًا بالمعيدين، والطلاب الذين تحت التخرج، فحين يذهب يوسف إلي أحد طلاب الصف الرابع لمساعدته، يخبره هذا الطالب أن لديه من المساعدين شخصين.. وقد حاول الفيلم استعراض الكثير مما يحدث في الكلية بانوراميًا كأنما الفيلم يود أن يطرح كل ما في جعبة أو معدة المكان، إلي الخارج، ابتداء من المناداة بالفن الحلال، إلي استخدام العلاقات الجنسية في تحقيق بعض الأهداف، خاصة التي تعشق الدكتور عزيز، وقد صارت معيدة، وهي التي تحكي عن كيف صارت معيدة؟، كما يكشف الفيلم عن الفساد الإداري في الكلية، ويتضح ذلك في العبارة التي يرددها أحد الطلاب أنه قد اشتري كل ذمم أساتذة الكلية. اهتم الفيلم في المقام الأول بحياة الطلاب داخل الكلية، ومسألة صعود أحدهم، أو أكثر، من حيث مكانته من أساتذة الكلية، إلا أنه جرد كل هؤلاء الطلاب من مواقفهم السياسية، إزاء ما يمرون به طوال أربع سنوات. جمل فلسفية وإذا كان السيناريو قد جعل يوسف يتكلم عن معاناته بشكل زاعق، رافعًا رأسه إلي السماء، فإن العبارات التي رددها علي، وهو شخصية مرسومة بدقة شديدة، يتكلم إلي زميلته الألمانية الأصل هدي بعبارات أقرب إلي ما كان يردده الوجوديون في مصر في العقد السابع من القرن الماضي، حيث يقول: أنا مش عارف أنا عايش ليه، وإيه الهدف من الحياة، ولما نموت ح نروح فين، إيه معني حياتنا، ليه الناس بتعذب روحها في جمع الفلوس.. إلي آخر هذه العبارات.. وقد عبر علي عن مكنون أفكاره بصوت هادئ للغاية، في مكان مغلق، لا يكاد يسمعه أحد سوي نفسه، وعشيقته شبه العارية، وقد أمسكت سيجارتها بين أصابعها، مجرد مستمعة أنا عايش ف عالم كامل من عدم المعرفة، من عدم اليقين كل شيء حواليا ضباب، مش مؤكد، مش واضح. ولا شك أن ما ردده علي.. هو واحد من الجمل الفلسفية التي يجعل كاتب السيناريو أبطاله يرددونها ليعبروا عن علاقتهم بالحياة، بما يعني أن أبطال هذه الأفلام لديهم موقف واضح من الحياة. لكن علي نفسه في مشهد الخاتمة يتحول إلي معبر عن نفسه بشكل مباشر، صارخ، حيث يقف وسط صالة الرسم ليتكلم علي طريقة أبطال المسرحيات وبصوت عال، مثلما فعل يوسف من قبل.. وهو حوار طويل عن الفنانين الذين نفشوا الشعر، وأطالوا الذقن، وهو يعترف هنا أن الكلية خمس سنوات «عايشين في الدور» خمس سنوات نكذب، كل من هنا كذاب، وأنا أول الكاذبين، أحاول أن اخنق في الفنان الذي بداخلي حولته إلي صنايعي ليس الفنان أيضًا لكن الإنسان، الأب، الحب.. وفي هذه المرة، فإن الذين يسمعونه هم من يضعن النقاب.. دون أن نري أي تأثير لما يقوله عليهن.