تنتمي هذه الرواية لما يسمي بالروايات الواقعية التي تعني بالتحليل النفسي للأشخاص، أو تلك التي تعني بالمواقف، ويعد هذا النوع من الروايات، من بدايات القصة الحديثة في الغرب، بل كان من أوسع ميادين الأدب العالمي، وأخطرها، وأعمقها أثراً في الوعي الإنساني والقومي، ويؤرخ به بدايات نضج القصة، في أواخر القرن الثامن عشر، وقد كانت لها إرهاصات مع ازدهار الكلاسيكية، في القرن السابع عشر، حينما أثرت قواعد "العقلية"، في المسرح، فعني بالتحليل النفسي، وبخاصة التحليل العاطفي، في مسرحيات راسين مثلاً، فكان لابد أن تتأثر القصة بهذا الاتجاه، ولكنها لم تقف عند حدود الوقائع الطبيعية فحسب، بل عنيت بكشف جوانب السوء والشر في النفس الإنسانية. ومنذ ظهور الواقعية والطبيعية علي يد كل من بلزاك، رائد الواقعية، وزولا، رائد الطبيعية، تلاقت واقعية بلزاك وطبيعية زولا، ونشأت قصص التحليل النفسي. كما ظهر هذا الاتجاه في الأدب الروسي، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد برع تولستوي في هذا النوع من القصص، حتي قال معاصره ديستويفسكي: "لقد قام الكونت تولستوي بعمل إنساني هائل في تحليل النفس البشرية، فبرهن لنا علي أن الداء خبيء في الإنسانية، لا في نظام اجتماعي معين"، كما ساعدت بحوث فلاسفة النفس والاجتماع علي انطلاق كتاب القصة في هذا الميدان، وكان علي رأسهم فرويد، في تحليله للعقد الغريزية، ثم تلميذه يونج، الذي كشف عن عالم اللاشعور الجمعي، مما ساعد الروائيين كثيراً في التحليل لشخوصهم. الاتجاه الباطني تعتمد الرواية علي التيار العضوي، أو تيار الرؤية الداخلية، أو الاتجاه الباطني، وهو تيار يفسر نفسه بنفسه، تبتعث فيه الحياة الداخلية، سواء علي المستوي الحسي، أو علي مستوي الرؤية الحلمية الهفهافة، فيبدو ماضي الإنسان، كتلة دائمة الحركة، نابضة بالأحاسيس، اعتمدت الكاتبة علي الأسطورة، في مزج الشكل بالمحتوي، فلجأت إلي الخرافة والخيال والحكاية الشعبية، بينما تثار موضوعات موازية، تجري مجري الحياة اليومية، بمشاهدها وأشخاصها، فهو عمل حداثي، بفضل سعيه إلي إبداع واقعه الخاص، والموازي، كما اتخذت الكاتبة منحي من الكتابة، شارك في مشهده، السرد والشعر والدراما والإيحاءات الموسيقية، وقد استوعب النص كل هذا. أما بنية السرد، فهي بنية مهجنة، أو نسيج سردي جديد، تدخل في تكوينه، بصورة أساسية، المفارقات المتعددة، وعناصر وأساليب من الفنون السردية القديمة، مثل المقامة والسيرة والملحمة، والرواية التاريخية التقليدية، وقد تجلي هذا النوع من السرد المهجن في روايات إميل حبيبي، وذلك في روايته: "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، وهي بنية تعتمد علي المفارقة، بدءاً بالعنوان، كما يلاحظ، مروراً بالموضوعات والصور، والوصفية السردية، وانتهاء بالنسيج اللغوي، والبناء الفني، والحال هكذا مع "التانجو"؛ فهو موسيقي غربية، ورقصة موطنها الأرجنتين، في أمريكا اللاتينية، والموال؛ وهو شرقي، موطنه ضفاف النيل، كما اعتمدت الرواية علي المفارقات، سواء في موضوعها، أو تصوير شخوصها، حيث صنفتهم الراوية بحسب الآلات الموسيقية، فلكل آلة لونها وصوتها وطريقة العزف عليها، وهناك من تصدر النغمة الغليظة، أو "البيس"، ومن تصدر النغمة الحادة، أو "الميلودي"، حتي النسيج اللغوي اعتمد، في كثير من فقراته، علي الثنائيات، وهو نوع من الترميز والمجاز، يزيد الرؤية عمقاً، كتصنيف الراوية لبعض الأحداث، فتدرجها بين نوعين: "الأيروس"، و"الثاناتوس"، وهما فعلا الحياة والموت، ولنقرأ مقطعاً، تصف فيه الساردة حالها بين موقفين، وقد اعتمدت فيه علي المفارقة: "الاختلاف الوحيد هو أنني كنت أجلس أمام المايك، كنت أرسل نبرات صوتي، وتنحبس مني الروح، أما الآن، فروحي مرسلة، وبإرادتي أحبس الصوت"، وتقول في مونولوج: "في الظلام، يبزغ النور، ومن السكون، يتولد الصمت"، كما جاءت بنية السرد دائرية، فقد بدأت من حيث انتهت، وانتهت كما بدأت، وبين البداية والنهاية، انبني النص علي عدة استدعاءات، تقوم بها رباب، وهي نزيلة مصحة نفسية، مصابة بما يسمي "الخرس الهستيري"، تخطط للهرب من هذا المكان، ومن خلال استدعاءاتها، غير المتتالية زمنيا، يستطيع المتلقي أن يعرف سبب تواجدها في هذا المكان، لا تصلنا قصتها دفعة واحدة، بل عبر مونتاج، تكتمل عناصره تدريجياً. تعدد الأصوات الساردة وما يسترعي الانتباه في طريقة السرد، هو أن تعدد بعض الأصوات الساردة، وتجزيء المحكيات والأحداث، قد ساعدا علي تحيين أسئلة، تمتد في تاريخ سابق، وأتاحا ربط الماضي بالحاضر، حتي يظل هناك استمرار وتفاعل بين عناصر مؤثرة في مصائر الشخوص، وفي صوغ إشكاليات، تتخطي الظرفي العابر، لتلامس المكونات التاريخية، علي المدي البعيد. وعن طريق استدعاءات غير منتظمة، تبدأ باستدعاء الأطباء، والقائمين علي علاجها في المستشفي، ثم تتطرق للحديث عن نفسها، بضمير المتكلم، وذلك للتأكيد علي ذاتية القص، لا موضوعيته، إيحاءً من الراوي، باختلاط الوهم بالحقيقة، والحلم بالواقع، ولذلك، لا تعتمد الرواية علي الزمن الخارجي المتتابع، بل تخلق لنفسها زمناً فنياً خاصاً، فيه تقديم وتأخير واختلاط الأزمنة، أحياناً، تستدعي شخصية محببة إلي نفسها، وهو مروان، حبيب الطفولة، وابن الجيران، تتخيل أنه يسمعها في حكيها غير المسموع، من خلال غرفة مجاورة، بها أجهزة تنصت، فهي تحمل له ذكريات جميلة، ثم تبدأ بعد ذلك باستدعاءات الشخصيات بالترتيب، بحسب قربها إلي نفسها، فتبدأ باستدعاء "آريا"، الأم، وهي من أصل لاتيني، وبالتحديد من الأرجنتين، بلد التانجو، تعمل مذيعة في البرنامج الأوروبي بالقاهرة، مثل ابنتها رباب نزيلة المصحة، ثم تغريد أختها، وهي أيضاً مذيعة، ثم تستدعي مشاهد الزار وطقوسه، التي حرصت أمها علي تصويرها والحديث عنها، في برنامجها الإذاعي: "اسألوا آريا"، وما يصاحب الزار من الغناء النوبي الذي يعتمد علي السلم الموسيقي الخماسي، ثم تستدعي شامل، الطبيب المعالج لها بالمصحة، والذي كان يقطن معهم في العمارة وهي طفلة، وقد شبهته بالنفير، ثم استدعت عمتها، التي كانت تشاركهم المنزل، ثم بدأ التداعي لذكريات أبيها، الذي توفي وهي صغيرة، ثم ذكريات "أبيه رياض"، زوج ابن عمتها المتوفاة، سوسن، والذي قامت بينه وبين رباب علاقة، ثم صديقتها مهجة، التي حاولت رباب شدها إلي الإذاعة، ثم اكتشفت أنها انزلقت هي الأخري في علاقة مع رياض هذا، فتركته، ودخلت في علاقة مع حسين المخرج، ساكن المنطقة الشعبية، الذي خانها أيضاً مع مطربة ناشئة، كانت الراوية، خلال تلك الاستدعاءات، تدخل بفاصل من الموال، مع نهاية كل استدعاء، يعبر عن مضمون الحدث، فيدخل الموال في نشيج النص، ليصير جزءاً منه، ويتحول النص إلي ملحمة، يحكيها الراوي علي الربابة، أو هو أشبه بدور الكورس في المأساة الإغريقية، حيث يقرر الموضوع في مفتتح الرواية، ويشرح ما يستغلق علي القارئ، أو يتنبأ بما سيحدث في المستقبل، ولذلك، تميز هذا العمل الروائي بالحركة، أو إعطاء شعور بحركة الزمن، التي تلقي بظلالها علي الأحداث، وهو أمر يستعصي أحياناً علي كتاب كثيرين، وبخاصة إذا كان بناء الرواية من نوع الفواصل، كرواية نجيب محفوظ: "زقاق المدق"، فما تقدمه شخصية الشيخ درويش، مدرس الإنجليزي، من فواصل دالة بين فقرات الرواية، يؤدي دور الموال في رواية مي خالد. ثم تفاجئنا الراوية، مع نهاية تلك الاستدعاءات، بتحول في بنية السرد، فتجعلها بنية خماسية رائعة، علي غرار رباعيات الإسكندرية، للكاتب الإنجليزي لورانس دريل، والتي استوحي منها نجيب محفوظ رباعيته الرائعة: "ميرامار"، وهنا، يتم الاستدعاء العكسي لهذه الشخوص حيث تأتي كل شخصية، وتتحدث بضمير المتكلم عن نفسها إلي رباب، وهي، في هذه المرة، تسمع، ومن خلال حديث كل شخصية، تتضح الحقائق، ويقف المتلقي علي أشياء، كانت غامضة عليه في بدء الرواية، وتبدأ تغريد، أخت رباب في الحكي، وقد صنفتها رباب من مقام الراست، وهو مقام شرقي أصيل، ثم رياض، وهو من مقام العجم، وهو مقام غربي، ويصنف بالماجير وهو يقابل الراست الشرقي، ثم مهجة، وهي من مقام النهاوند، وهو غربي، ثم الأم "آريا"، التي جعلتها ترقص علي أنغام التانجو، أثناء الحكي، وتوضح "آريا" فلسفة رقصة التانجو، التي تشبه ما يفعله المتصوفة، حين يدورون حول أجسادهم، وكأنهم يدورون حول المعشوق الأعلي، ويسبحون بجماله، وهم في حضرته، ويعد راقص التانجو من النبلاء، يداعب من يراقصها برقة، ويحترم مشاعرها، ويمنحها المتعة كما تمنحه المتعة نفسها، وهكذا، تنتهي الرواية علي أنغام التانجو، بمشهد سينمائي رائع، تمتزج فيه صرخات رباب، أو فيولا، كما يحلو لها أن تسمي نفسها، بموال حزين، يتزامن مع خروج إبرة مهدئة من شريانها، ثم تبدأ في الصعود بخفة في دوائر عبر السحاب، لتمارس رقصة التانجو، ثم تعود لمروان تخاطبه، وتنقل إليه الموال الختامي: "مروان، قل لهم إن الصراخ ليس دائماً دليلاً علي الجنون، أخبرهم أن الصيحة الأولي للمولود، هي أفضل ما يحدث له..مروان، إن قدمي تُجر من تحتي، ولكن لا يهم، علي راقص التانجو أن يتخيل أنه يشد جسده في رقي، تانجو يصعد بي في خفة، في دوائر فوق السحاب..تذيب الموسيقي كل الفواصل بين جسدي وجسده، فيصيرني وأصيره.."، وتبقي النهاية مفتوحة، ومع المتلقي تساؤلات: هل شفيت رباب، وتخلت عن صمتها، وتكلمت؟ هل تقابلت مع مروان، جسدا وروحا؟ فهو فردوسها المفقود، الذي لا تكف عن البحث عنه، مدي الحياة، هل. هل. هل؟ ربما، "تانجو وموال"، رواية تجمع بين الفنية، وعمق المحتوي، ومتعة القراءة.