تانجو وموال رواية بديعة, لكاتبة مصرية متفردة هي الإعلامية مي خالد التي ما فتئت تجرب صوتها السردي, للتعبير عن عالمها في ثلاث مجموعات قصصية, امتدت في نفس طويل روائي عبر ثلاث روايات, حتي عثرت في هذه الرواية الأخيرة علي بؤرة أسلوبها المشعة, وأيقونة تجربتها الخصبة; في المزح المتآلف بين أشجي تجليات الفن الشرقي في الموال, وأحفل تمثيلات الأداء الجسدي الراقص في إيقاعات التانجو الرشيقة, حيث تتجسد فلسفة اكتشاف الذات في ضوء التناغم مع الآخر. لتكشف عن ثراء الثقافة بالتخصيب, واتساع الرواية دائما بتقنيات الابتكار والتجريب. تصاب الراوية التي تمسك بزمام السرد بخرس هيستيري يحملها إلي مصحة الأمراض النفسية بدلا من التماس العلاج العادي, فتتدفق علي مخيالها النشيط صور الأصوات والأشكال والأحداث بطريقة بالغة العفوية والتنوع, فيأخذ خطابها الداخلي أوضاعا متباينة مثيرة للاهتمام, تنقذ حياتها وتستعرض مفارقاتها ومغامراتها, تقول في تقديم نفسها: انظروا من تتكلم, نزيلة في مصحة نفسية تعاني من فقدان القدرة علي الكلام, وتسخر من تركيبات نحوي خاطئة أو لثغة بسيطة عند من يفترض أن يكونوا معالجيها. ثم تمضي في وصف خصوصيته هذه التجربة ومأساويتها قائلة لقد احتجزوني مع فاقدي العقل, مع أن الأمر الشائع هو أنه إذا تم العقل نقص الكلام, فلم كل تلك الحيل والألاعيب العلاجية والعقاقير الملونة التي تكهرب الجسد والدماغ, الأمر الوحيد الذي ربما يكونون محقين فيه هو النغمات والمواويل التي تلح علي رأسي ولا تهدأ حتي أثناء النوم, فيأتيني الزار والمولد, والسيفونية والطقطوقة والكونشرتو علي هيئة أحلام صاخبة تتداخل فيها القوالب الموسيقية بلا تناغم أو تآلف.. لو يعهدون بي إلي مايسترو متمرس, أو كوديه زار مثل سميحة السودانية لتصالحني علي الأسياد فيتكون الهارموني بين الروح والجسد لكن النقد الذي توجهه الراوية لا يتوقف عند حد اكتشاف هذا الانفصام الأليم في شخصيتها, بل يمتد ليجسد عالم الميديا التي تغمر مذيعة البرامج الموجهه. بخبرات إنسانية وجمالية فائقة, فهي تقوم بترجمة الأفلام الأجنبية إلي العربية, وهي تختزن كما هائلا من المعارف عن عوالم المصحات النفسية وتتذكر تجربة قام بها عشرة من الأصحاء نفسيا, أعطوا أنفسهم أسماء اضطربات وجدانية وهمية, وما هي إلا وصمات ألصقها بشر ببشر مثلهم, لتتكسب منها مافيا من السماسرة. عاش الأشخاص العشرة بداخل المصحات وتصرفوا وفقا لسلوكهم الطبيعي, لكن الأطباء صمموا علي إعطائهم العقاقير, ولم يسمحوا بإطلاق سراحهم إلا حينما بدأوا يدعون الجنون ثم تناولوا العقاقير وزعموا الاستشفاء. علي أن الرواية تتقن حبك قصتها وسبب إصابتها بهذا الخرس, فتتذكر طفولتها وكيف فقدت صوتها وهي تلقي كلمة الصباح في المدرسة ففوجئت بخبر موت أبيها, وعاودتها العلة ذاتها عندما دعيت لاستلام شهادة التقدير لأمها الأرجنتينية الأصل عقب موتها بالسرطان بعد عملها في الإذاعة الموجهه, وتمثلت جوهر حياتها في محاولة الجمع المتآلف بين هذين الأبوين, بين الموال والتانجو, بين الأب المغرق في مصريته, والأم العريقة في لاتينيتها, فتستغرق في الاستسلام للمنومات وهي تتذكر موال: اللي معاه فكر ينام ويصحي به الشمع يحرق في نفسه وينور علي صاحبه نام يا خالي نام, وسيب الفكر لصاحبه من العتبات إلي ماسبيرو: منذ عتبة إهداء الرواية المدهش إلي الواقفة في شموخ, المتثنية في دلال, آلة الكونترباص المتشكلة علي هيئة تكوين فني لجسد امرأة في ساحة دار الأوبرا المصرية إلي التسمية التي تتخذها الراوية لنفسها فيولا والاستعارة التي تلف بها مروان رفيق طفولتها ومخاطبها علي مدار الرواية كلها, فإن التمثيلات الموسيقية هي التي تغمر مناخ العمل, تخاطب الرواية ذاتها في نوبة صحو بين الحقن فتقول فيولا الغرام, يا ملكة الآلات وسلطانة العواطف, يا من لك أمزجة البشر, تتكلمين بشعور العازف, وتكشفين أسرار عواطفه, يضعك علي صدره فتحملين علي أوتارك دقات قلبه, هاهم يعتقلونك بين جدران أربعة في مصحة نفسية, من سيخلصك سوي آلة تعرف مكانتك, بيانو مثلا, هو الوحيد الذي ينافسك في السيادة.. مر.. وا.. ن, هل يمكن أن تكون ذلك البيانو المخلص. منذ هذا التأسيس الماهر لإيقاع السرد المنهمر في قلب التجربة الموسيقية وفصول الرواية تتحري حاملة فلذات مفعمة بكشوف جمالية, منبعثة من صميم تجربة أنثوية, منقوعة في صلب الحياة المصرية الواقفة علي الحافة, بين البيئتين: الاستقراطية في الزمالك والشعبية في أبو النمرس, بين ردهات الأوبرا المصرية ودهاليز الموالد الشعبية حيث تقام حفلات الزار وينتشر عبق الأسياد في تلافيف البخار. لكن التمثيل العجيب لبرج ماسبيرو وتناقضاته الفادحة يظل من أطراف المشاهد التي تستعرضها ذاكرة فيولا المستلبة إذ تقول: قررت أن أري المكان بعيني آريا (أمها الأرجنتينية) أن أجد في تكدس موظفي المبني الأربعين ألفا حميمية ودفئا, وفي إعلانات المصايف والوفيات المتناثرة علي جميع الحوائط تآلفا وأخوة, وفي طوابير المصاعد الطويلة فرصة للتعارف, وفي ممازحة الموظفات مع زملائهن الرجال خلاصا من روتين منزلي ودفعة للاستمرار, وفي مجاميع الكومبارس المتجهه بملابس تاريخية نحو استوديو عشرة انتقال لا إرادي إلي زمن آخر; فرعوني أو أيوبي, وفي المئات من أصحاب التوك شو المتزاحمين خارج المبني وسيلة إلي شكر الله علي ما آتاني من نعم بطبيعة الحال لا بد أن تكون الرواية مكتوبة قبل ثورة يناير, مع أنها منشورة هذا العام 2011, لم تكن ساحة ماسبيرو قد شهدت خيام الاحتجاجات والاعتصامات ولا الاحتكاكات الدامية التي حولتها إلي رمز يوازي التحرير ويعاكس دلالته, ولو شهدت الرواية ذلك لأدمجته في نسيج روايتها لبرج ماسبيرو بكل تناقضاته, لكنها تمضي في استعراض تجاربها مع كل من رياض الذي التمست عنده دفء الأبوة, و حسين الذي حملها إلي قاع المجتمع وهو يخدرها بأغاني محمد منير, ومروان الذي يخاتلها بالجرة, فتقتفي وجوده علي صفحات التواصل الرقمية, وتجعل الرواية نشيدا عذبا مبتهلا إليه, قبل أن تعود برشاقة إلي نقطة البداية فيما يحلو لها أن تطلق عليه الروندو وهي تمزج خطوات السرد بمصطلحات النغم. لكن المشهد المحوري المحكي عن أمها في المقارنة بين التانجو والموال يظل بالغ الدلالة فقواعد التانجو تعتبر كتابا مقدسا للحياة اليومية اللاتينية, فالرجل ليس مجرد ذكر, إنه الإنسان النبيل الشهم الواثق من ذاته الراسم البارع لخطواته.. راقص التانجو يقود دفة الحياة بفرحة وعليه أن يضمن السعادة لشريكته, لا أن يتمدد علي فراشه الصباحي ويتركها تسعي من محطة إذاعية إلي جريدة أسبوعية إلي ترجمة فورية لتحقق لأسرتها حياة تشبه طفولتها في بلدها البعيد وبين الحياة المصرية واللاتينية يتمزق وجدان فيولا, وتنحبس أحبال صوتها فيكون مصيرها في مصحة نفسية. نقد قاس للحياة, والتقاط ناقد لأعمق إيقاعاتها, وتجربة مثيرة في الكتابة الروائية الشابة مفعمة بالرموز الدالة. المزيد من مقالات د. صلاح فضل