محافظ البحيرة تدلي بصوتها في انتخابات النواب.. وتدعو المواطنين للمشاركة    بسبب أحد المرشحين.. إيقاف لجنة فرعية في أبو النمرس لدقائق لتنظيم الناخبين    "طلاب ومعلمون وقادة" في مسيرة "تعليم الإسكندرية" لحث المواطنين على المشاركة في انتخابات النواب 2025    وزيرا الأوقاف والتعليم العالي يشاركان في ندوة جامعة حلوان حول مبادرة "صحح مفاهيمك"    الدولار يسجل 47.30 جنيها في 5 بنوك مصرية اليوم    أسعار الفراخ والبيض اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 بأسواق الأقصر    بحث التعاون المشترك بين مصر والمنظمات العربية للنهوض بالاستثمار الزراعي    وزير قطاع الأعمال يبحث مع مستجدات مشروع الأمونيا الخضراء بالنصر للأسمدة    محمود مسلم: تصويت الكنيست على مشروع قانون إعدام الأسرى «تطور خطير»    في مقابلة مع "فوكس نيوز".. الرئيس السوري أحمد الشرع: علاقتي السابقة بالقاعدة أصبحت من الماضي    وزير الخارجية يستقبل سكرتير مجلس الأمن لروسيا الاتحادية    نادي الوحدة فى مهمة صعبة لاستعادة بريقه بالدوري السعودي    ليفربول يبحث مستقبل محمد صلاح في الريدز ويفكر في بديل    شوبير: الأهلى يفاوض رأس حربة وظهير أيسر لدعم الفريق    منتخب مصر مواليد 2009 يصل عمان لمواجهة الأردن وديا    مواعيد أهم مباريات اليوم الثلاثاء في جميع البطولات والقنوات الناقلة    الأمن يكشف ملابسات تعدي عامل بالضرب على ابنة شقيقه بالقليوبية    أسماء المصابين والوفيات فى حادث تصادم أتوبيس طريق غارب - الغردقة    طقس منخفض الحرارة ورطوبة متوسطة بكفر الشيخ الثلاثاء 11 نوفمبر 2025    انتخابات النواب 2025.. توافد الناخبين للإدلاء بأصواتهم أمام اللجان بمنشأة القناطر| صور    يغوص في أعماق النفس البشرية، تفاصيل مسلسل حالات نادرة    لحظة خروج جثمان إسماعيل الليثي من مستشفى ملوي استعدادًا لدفنه | فيديو    بطولة 14 نجمًا.. تعرف على الفيلم الأكثر جماهيرية في مصر حاليًا (بالأرقام والتفاصيل)    6 أعشاب تغير حياتك بعد الأربعين، تعرفى عليها    وزير الصحة يستقبل نظيره الهندي لتبادل الخبرات في صناعة الأدوية وتوسيع الاستثمارات الطبية المصرية-الهندية    الصحة: الخط الساخن 105 يستقبل 5064 مكالمة خلال أكتوبر    «الوطنية للانتخابات»: مشاركة إيجابية من المواطنين في التصويت    أسماء مصابي حادث تصادم طريق المنصورة- أجا بالدقهلية    اليوم.. محاكمة 9 متهمين في «رشوة وزارة الصحة»    صعود شبه جماعي لمؤشرات البورصة في بداية تعاملات الثلاثاء    هشام نصر: عبد المجيد ومحمد السيد مستقبل الزمالك.. ولن نكرر نفس الخطأ    الشحات: لا أحد يستطيع التقليل من زيزو.. والسوبر كان «حياة أو موت»    أسعار الفراخ في البورصة اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر    انقطاع المياه 6 ساعات عن مركز بلطيم لهذا السبب    انطلاق أعمال اليوم الثاني من انتخابات مجلس النواب 2025    ضعف حاسة الشم علامة تحذيرية في سن الشيخوخة    حبس عاطلين لاتهامهما بسرق دراجة نارية فى طوخ بالقليوبية    ننشر كواليس لقاء وفد روسي رفيع المستوى بالرئيس السيسي    زلزال يضرب كريت باليونان| هل شعرت مصر بالهزة؟.. البحوث الفلكية توضح    حظك اليوم الثلاثاء 11 نوفمبر.. وتوقعات الأبراج    بعد إصابة 39 شخصًا.. النيابة تندب خبراء مرور لفحص حادث تصادم أتوبيس سياحي وتريلا بالبحر الأحمر    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    بينها حالات اغتصاب.. نزوح جماعي وانتهاكات بحق النساء في الفاشر (تفاصيل)    بسمة بوسيل تقف إلى جانب آن الرفاعي بعد طلاقها من كريم محمود عبد العزيز    أحمد صلاح حسني: المرحلة القادمة للسينما.. وفخور أن أول أفلامي تجربة مختلفة تمامًا    انتخابات مجلس النواب.. تصويت كبار السن «الأبرز» فى غرب الدلتا    بعد دخوله العناية المركزة.. ريم سامي تطمئن الجمهور على نجلها    في ثاني أيام انتخابات مجلس نواب 2025.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الثلاثاء    القنوات الناقلة لمباراة الكاميرون ضد الكونغو الديمقراطية في تصفيات كأس العالم    نورهان عجيزة تكشف كواليس اليوم الأول للمرحلة الأولى بانتخابات النواب 2025 في الإسكندرية    «في مبالغة».. عضو مجلس الأهلي يرد على انتقاد زيزو بسبب تصرفه مع هشام نصر    محدش يزايد علينا.. تعليق نشأت الديهى بشأن شاب يقرأ القرآن داخل المتحف الكبير    خطوة أساسية لسلامة الطعام وصحتك.. خطوات تنظيف الجمبري بطريقة صحيحة    هل يظل مؤخر الصداق حقًا للمرأة بعد سنوات طويلة؟.. أمينة الفتوى تجيب    دعاء مؤثر من أسامة قابيل لإسماعيل الليثي وابنه من جوار قبر النبي    انطلاق اختبارات مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن بكفر الشيخ    ما حكم المشاركة في الانتخابات؟.. أمين الفتوى يجيب    د.حماد عبدالله يكتب: " الأصدقاء " نعمة الله !!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«سأكون كما أريد».. صرخة مثقف عاش يحلم بعالم الفن والأدب والحرية
نشر في القاهرة يوم 06 - 03 - 2012


إن حرب الاضطهاد والقمع التي أعلنتها الأنظمة العربية علي النخب المثقفة والمناضلة، منذ الخمسينيات، قد فتحت الطريق أمام انبثاق واتساع الفكر الغيبي والأصولي، وأمام توظيف الدين لأغراض سياسية، من شأنها أن تبتعد بالصراع الديمقراطي عن أهدافه الحقيقية، ومنذ نكسة1967، انفجرت لحظة جديدة، معلنة خصوصية الإبداع العربي، وحرصه علي التحقق، معلنة انشقاقاً عن الإجماع السياسي، الذي كانت الأنظمة العربية توهم بضرورة استمراره، لتحرير فلسطين، لقد كشفت الهزيمة المخبوء، وأقنعت المفكرين والمبدعين، بأن القومية العربية لا تمتلك أسباب التحقق والتطور، وأن كثيراً من الشعارات والتصورات، تحتاج إلي النقد والمراجعة والتغيير، وأصبحت سنة 1967، هي سنة الفرز ما بين أنظمة متسلطة متشبثة بالحكم، معتمدة علي قوي القمع، وأجهزة أيديولوجية تستغل الدين والترهيب، وبين طلائع من المفكرين والمبدعين، الذين انشقوا علي الإجماع القومي والوهمي، ليعبروا عن المسكوت عنه، ويستنطقوا مكان الحياة، باحثين عن الحرية. من هنا، ندرك مدي القيمة الرمزية لإنتاجات وإبداعات ما بعد 1967، وكانت الرواية، أكثر الأشكال الأدبية ارتباطاً بإسماع صوت الفرد العربي، الذي ظل غائباً أمداً طويلاً، مضيعاً في ثنايا الخطاب الاجتماعي واللغة المتخشبة الرسمية، حيث لم يعترف النظام السياسي العربي بالفرد وحقوقه، هذه هي الرسالة التي حاول حمدي عبد الرحيم تبليغها للقراء، من خلف سطور هذا النص الجاد، الحافل بشتي الأحداث السياسية والاجتماعية، التي مرت بها مصر، خلال الأربعة العقود الأخيرة، وذلك من خلال سرد حياة مصطفي أبو الفتوح، بطل تلك الرواية، الذي حاول أن يرتفع بصوت المثقف، علي أصوات الساسة، والمتشدقين بالوطنية، وبائعي الأوطان، ومحتقري إنسانية الإنسان، وهذا ما حاول أن يقدمه، منذ قرن تقريباً، محمد حسين هيكل، في روايته: "زينب"، فقد ظل صوته يعلو علي صوت الفلاحين، ليسمعنا تمزقه أمام انغلاق المجتمع وتأخره، ثم ظهرت بعده، وعلي مدي أربعة عقود، نصوص تؤشر بارتفاع صوت الفرد المتمرد علي القيود، علي نحو ما وجدنا في "عصفور من الشرق"، و"الرباط المقدس"، للحكيم، وقصة "أديب"، لطه حسين، و"الأجنحة المتكسرة"، لجبران، وغيرها، حتي تحول هذا الصوت إلي صرخة مدوية في رواية "سأكون كما أريد"، صرخة أطلقها مصطفي أبو الفتوح، ذلك المثقف، الذي عاش يحلم بعالم الفن والأدب والحرية، ولكن ظل الحلم يتسرب من بين يديه، عاماً وراء عام، رغم تمسكه المستميت بما تبقي منه، إلي أن واجهته قوة جبارة، قضت علي ما تبقي من حلمه. انقلاب الأحوال تنتمي هذه الرواية لما يسمي بروايات تصوير التغيير في حياة الأفراد والجماعات، وقد كان ومازال تصوير هذا التغيير موضوع الأدب الجاد، منذ أرسطو الذي قال: "إن المأساة تصور انقلاب الحال وتغير الحظوظ"، ولقد ظل انقلاب الحال وتغير الحظوظ، والمفارقة المأساوية بين الأمس واليوم، موضوعاً أثيراً في الرواية العربية، منذ نشأتها، وفي أوج ازدهارها علي يد كتاب، كنجيب محفوظ ويوسف إدريس. يمارس كتابة هذا النوع من الروايات، كُتّاب أوتوا التاريخية السليمة، والنظرة الاجتماعية الثاقبة، إلي جانب موهبة السرد، وبراعة البناء الفني، إنهم خير من يسجل التغيير، ويستشعر حركة المجتمع، ويجسد الإرهاصات الدقيقة، بإيحاء المستقبل قبل وقوعه، كما هو الحال مع تلك الرواية، فهي من الروايات الصادقة، التي تصبح وثيقة ثمينة من وثائق المؤرخ والباحث الاجتماعي، فإذا رجعنا مثلاً للقرن التاسع عشر، سنجد رواية "الحرب والسلام"، للأديب الروسي تولستوي، تسجل في ضمير ملايين القراء، من كل جنس ولغة، غزو نابليون لروسيا، سنة 1812، وما فعلته تلك الحرب بحياة شخصيات الرواية، وما طرأ عليها من تغييرات، ولا يختلف كثيرون علي أن الحرب والسلام، أعظم ما كتب في هذا القرن، علي الإطلاق، ولعل من بعض أسباب عبقرية تلك الرواية، أن تلك الأحداث التاريخية المهمة في تاريخ روسيا وأوروبا جمعاء، تصبح جزءاً لا ينفصل عن وعي القارئ إلي الأبد، وفي الأدب العربي، برع طه حسين في تصوير صعيد مصر، في القرن التاسع عشر، فقدم سنة 1944، روايته: "شجرة البؤس"، التي راح يصور فيها حياة الثمار في مدينة من إقليم مصر، وهي مغاغة. الراوي الواحد جاءت بنية السرد تقليدية، اعتمد فيها الكاتب علي صوت الراوي الواحد، المتحدث بضمير المتكلم، مع تعدد الأصوات، أحيانا، في مواقف عدة من خلال البناء السردي، اعتمدت البنية علي الحكاية المركزية الدالة، إلا أن السرد فيها، تجنب البنية الثلاثية للرواية؛ من مقدمة وعقدة وحل، لقد تحرر الكاتب من الحبكة القديمة، والحكمة المستخلصة، وبدأ المتلقي يتتبع سرد الراوي للحكاية المركزية، التي يوسعها حيناً مع الخطوط الفرعية لحكايات جانبية، تعمق الحكاية المركزية، وتفصل القول فيها، وتظل الحكاية المركزية قائمة، منذ بداية الرواية، حتي نهايتها، وتصبح هي ملتقي الحكايات الفرعية، التي تصب فيها، وتلتقي معها في نهر السرد الرئيسي. تستعصي هذه الرواية علي التلخيص، لأنها تصور قصة الحياة، والحياة يصعب تلخيصها في سطور، ولكن أهم ملامح تلك الرواية، أنها تؤرخ لفترة مهمة من حياة مصر، منذ عام 1965 وحتي 2007، أي علي مدي أربعة عقود، وذلك من خلال البطل مصطفي، الذي ولد عام1965، وعاش طفولته وصباه وشبابه في بيت من بيوت حي الحسين، بين أسرة تعتز بنسبها العريق للعلامة الواقدي، أمه قليلة الكلام، لم تنجب غيره، يمتلك أبوه محلاً لبيع الأدوات النحاسية، بجوار المشهد الحسيني، شديد التعلق بالمقام، حريص علي إقامة ليالي للحضرة مع المريدين، فيسهرون يهللون بالاستغفار والدعاء، ويصفقون وينشدون: "أستغفر الله عد الرمل والمدر.."، أحب مصطفي جيرانه: خالته فتحية، وزوجها وأولادها، خالته تحية وزوجها وابنتهما أبلة آمال، عم ويصا الترزي، نعيمة التي تطرز المفارش، ثم عمه الحاج وابنته سوسن، وهم يسكنون في مكان آخر، وكذلك رضوان، عم سوسن، ويبدأ الحزن يعرف طريقه إلي قلب الصبي، مع أول فقد يشعر به، وهو فقده لخالته فتحية، وأبنائها الثلاثة، وذلك بسفرهم إلي أسوان، ثم تتوالي حالات الفقد، واحداً تلو الآخر، فيحاول تعويض من فقدهم بالقراءة، ومشاركة عم محمد في فرشة الكتب القديمة التي يبيعها علي الرصيف، وتعلم الخط واللغة الفرنسية علي يد الشيخ خميس، ويتخرج مصطفي في الحقوق، وتتركه سوسن لتتزوج من غيره، رغم حبها له، ثم يفقد أباه وأمه، ثم رضوان الذي اعتقله السادات، هو وحبيبته أحلام، فيخرجان من المعتقل، وقد تهشمت أرواحهما، قبل أجسادهما، فيسافر رضوان إلي الجنوب اللبناني، ليشارك رجال حسن نصر الله في المقاومة، ويستشهد، ويدفن في بنت جبيل بالجنوب، وتهاجر أحلام إلي فرنسا، بلا عودة، يلاحظ دلالة الاسمين: رضوان وأحلام، إنها الجنة التي شوهها نظام السادات، حتي غدت قبيحة جرداء، عارية من الجمال، يسافر مصطفي إلي الإسكندرية، وهناك، يستأنف حياته، محاولاً نسيان الماضي، فيقع في حب رجاء، زميلته، لكنها تخونه، فتطارده ذكريات الحسين، ويقررالعودة للقاهرة، وهناك، يلتقي بسوسن، بعد طلاقها، ويحاولان معاً استعادة الذكريات الحلوة، ولكن هيهات، فقد كتب عليه الشقاء والفقد. استطاع الكاتب أن يغوص في أعماق الشخصيات، حتي أظهرها لنا بأدق تفاصيلها، بل استطاع أن يغوص في أعماق الحياة، علي غرار الروائي الفرنسي فلوبير، وكذلك بلزاك، فقد كان كل منهما يؤمن بفنه، ويقدسه، بل ويتفاني في الوصول إلي أعلي مراتب الكمال فيه. إن أكثر ما يميز تلك الرواية، أنها لا ترتبط بقواعد أو قوانين فنية، فقد اعتز الكاتب بحريته الممنوحة له، فكان حقاً كما يريد، فأعطي للزمن حرية التتابع، ولعبقريته حريتها في وصف الشخصيات، مازجاً في ذلك بين الخيال والواقع، ويسعد المتلقي بمشاركة الكاتب في عملية الخلق، وأحياناً، يقف المتلقي مشدوهاً لعبقرية الكاتب، وهو يغمس يده في المشهد، ويرفع منه قطعاً عظيمة من اليمين ومن الشمال، ويفصل كل ما هو عرضي وعديم المعني، ويلقي به بعيداً، ثم يعيد صنعها، إنها عملية خلق، تتم من خلال سلسلة من اللمحات والأحداث، حتي تقاربت عنده الحاستان: الخلقية والتقنية، فكما يقول الناقد هنري جيمس: "هناك نقطة واحدة، تتقارب عندها الحاسة الخلقية والحاسة الفنية، وذلك في ضوء الحقيقة الواضحة، إن أعمق خواص العمل الفني، هي دائماً صفة ذهن صاحبه، فبقدر روعة هذا الذهن، بقدر ما تتسم الرواية". وهكذا، تفتح الرواية عالماً جديداً للخيال، ومما يدخل السرور إلي النفس، أن تكتشف أن هذا العالم، أحياناً، يخلق وهماً، يجعلنا نرضي أن نتوه فيه، لقد حاول الكاتب في هذه الرواية، الإمساك بنغمة الحياة، وحيلها، وإيقاعها غير المنتظم، الغريب، حتي استطاع أن يحفظ للرواية قوتها، فتحولت شخوصها بين يديه، لصلصال، يطوعه خياله حسبما يريد، وإن كان لها نصيب من الواقع، فامتزجت الشخصيات بالأحداث، وامتزجت الأحداث بالشخصيات، حتي أصبحا جسماً واحداً نابضا بالحياة، يصعب الفصل بينهما، وتؤكد الروائية فرجينيا وولف علي أهمية هذا الالتحام، فتقول: "إن الشخصية أساس الرواية، وإن الشكل الروائي قد خلق للتعبير عن الشخصية"، فشخوص عبد الرحيم واقعية، بالدرجة الأولي، وقد اكتسبت واقعيتها من خيال المؤلف، الذي حول الخيال إلي واقع، والواقع إلي خيال، لقد كان بلزاك، رغم واقعيته، غارقاً في عالمه الخيالي، بصفة مستمرة، ولكن سرعان ما تدب الحياة في الشخوص التي يخلقها، فنري فيها الفضيلة والرذيلة، والقوة والضعف، والشهوة والعفة، إلي حد أننا نري ملامحها وحركاتها، وما علي ملابسها من أزرار، وما في صحافها من طعام، وما في جيوبها من نقود، وما في بيوتها من أثاث، وما في صدورها من أسرار، لقد عشنا مع عبد الرحيم في شخوصه، حتي أحسسنا أننا تقابلنا معها من قبل، بل عرفناها عن قرب، وتناولنا معها صواني البطاطس والحمام، واستنشقنا معها رائحة الصابون المعطر في الحمام، ورائحة قشر البرتقال المحترق مع خشب الصندل في المدفأة، وشربنا معها الشاي، وشاركناها فرشة الكتب، وسمعنا معها الأغاني وترانيم العود، وبكينا معها من شجو الغناء. وتمتد عبقريته إلي وصف المكان، حتي أصبح المكان هو الشخصية المحورية في الرواية، فتجولنا معه في المنزل رقم 5، بحارة جعفر، بجوار مقام سيدنا الحسين، وتفقدنا شقق البيت، وعرفنا أدق تفاصيلها، بل رأيناها، رأي العين. أما المرأة في حياة مصطفي، فهي إما نموذج للجمال، من خلال لوحة "فتاة النافذة"، لسلفادور دالي، أو نموذج للمقاومة والرقة، مثل مريم في رواية جورجي زيدان، أو بنت بلد جميلة، مثل أبله آمال التي تزيدها الملاءة اللف فتنة ورشاقة، ولكننا بكينا معه لما حدث لها علي يد الجنود الإسرائيليين، وإما مخلوق ملائكي، مثل أحلام حبيبة رضوان، وإما رفيقة طفولة، كسوسن، أو زميلة عمل، مثل رجاء، أو عشيقة، مثل الناقدة الإيطالية ليليان، ولكن، تظل المرأة هي المعادل الموضوعي لحالة الفقد المستمرة التي يعيشها، والتي عبر عنها بعبارة رائعة تقول: "كنت أشعر أني مظلوم، وأن أحداً لا أعرفه، قد انتزع مني شيئاً لا أعرفه". من أجمل الشخصيات التي رسمها الكاتب في هذه الرواية، شخصية الشيخ خميس الذي تعلم علي يديه أصول الخط العربي واللغة الفرنسية، ولنستمع إليه وهو يصف لقاءه الأول به: " البيت من طابق واحد، يفصل بين بابه والشارع سور قصير، خلف السور كان الأستاذ خميس يجلس علي مقعد، ويضع رجليه علي آخر، فوجئت بهيئته التي لا تشبه هيئة الأساتذة، كان يرتدي جلباباً أبيض، وكان شعره الأشقر يبرز من تحت شال، يعصب به رأسه، شاربه كان مشذباً، ولونه يميل إلي الحمرة، عيناه ناعستان، ولونهما أخضر، ذقنه حليقة، ولون بشرته أبيض مشروب بحمرة، قدمت له نفسي فلم يعتدل، ونظر لي وكأنه يقرأ كلاماً محفوراً علي جبيني، ثم أغمض عينيه وقال: ها هو رمضان يرسل نفحاته"، إنه وصف زادنا شغفاً بمعرفة المزيد عن تلك الشخصية الأسطورية، ولم يحرمنا من ذلك، ولكن كشفه للمزيد، غلف الشخصية بالأسرار، وزادها غموضاً. "سأكون كما أريد"، رواية للمقاومة وعشق الوطن، وكأن الكاتب ينشد مع شاعر المقاومة اراجون: "الأفضل مائة مرة أن يمزق الإنسان في بيته من أن يذهب إلي أرض غريبة..الأفضل الموت حيثما تعيشون..سنعود..سنعود".

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.