تفلت رواية مازن مصطفي عنقاء المديح المنمق الصادرة عن دار شرقيات، من تقاليد السرد الراسخة والمستحدثة في الرواية العربية علي نحو فارق. وإذا كانت الناقدة الامريكية كلوديا روث بيربونت (بيربونت 2010) قد لاحظت بحق وفاء نجيب محفوظ وجيله لتقاليد بلزاك وزولا باقتدار مشهود، وان الجيل الجديد من الروائيين العرب قد نحا، ولأسباب مفهومة، تجاه كافكا وغارسيا ماركيز، فان عنقاء مازن تهجر كل ذلك الي رحاب جديدة من السرد لا تحتويها تقاليد معروفة. ولكن كيف؟ الفصول الثلاثة الاولي تتميز بغرائبية المكان وشخوصه، حيث تدور احداث الرواية في مدينة او كون يسمي (بيدق) وسكانه يدعون البيادقة، وبيدق تقع في جوف شخص اسمه نعيم، ويبتدر السرد راوي ينخرط في حوار مع شخصية اخري هي في واقع الامر تمساح يسكن هو الآخر جوف نعيم. وهذه قطعاً ليست كافكوية يشهد القارئ معها تحولات البشري الي مسخ. فكائنات مازن، تكوينها، جغرافيتها وعلاقاتها هي هكذا منذ البدء. فعلي سبيل المثال هناك شخصية اسمها الخطأ، وهي كائن وليس شخص بشري، لها بعدها الجسماني وافعالها وحواراتها ومنلوجاتها دون ان تظهر كناتج تحول كافكوي. أما في الفصل الرابع المعنون »تطبخ الحب نيران الخيال العنيدة« فسرعان ما يتكشف للقارئ ان راويه هو المؤلف الفعلي للنص، أي مازن مصطفي الذي يظهر اسمه علي غلاف الرواية، حيث يظهر اسمه واضحاً جلياً في هذا الفصل، كما يظهر اسم زوجته واصدقاء حقيقيون له يعرفهم القارئ بالاسم والمهنة ان كان علي المام بالوسط الثقافي السوداني او حوارات الاسافير السودانية او مجتمع طلاب الدراسات العليا بجامعات القاهرة الذي ينتمي مازن مصطفي له. في هذا الفصل الذي يشبه كتابة السيرة الذاتية يعالج المؤلف اسئلة وجودية مثل الميلاد والموت والحب واللغة والانسنة من خلال تجربته الخاصة. ولنؤجل قليلاً الحديث عن الفصول الثلاثة المتبقية. ألا يبدو متعسفاً ان ينكسر تسلسل الرواية بفصل من سيرة ذاتية للمؤلف الامبريقي لنفس الرواية؟ خاصة إذا ما كان الفرق شاسعاً بين الصوت الذي اختبره القارئ في الفصول الثلاثة الاولي وهذا الفصل والذي غلبت عليه اسئلة فلسفية شائكة؟ واقع الأمر لا. فقد مهد الراوي في الفصول الثلاثة السابقة لاي مفاجآت يمكن ان تخطر ببال القارئ وذلك عن طريق تقنية سردية نادرة الاستعمال في الفن الروائي، هذا إن لم تكن فريدة. وأقول نادرة تحوطاً فلم تقع عيناي عليها في اي عمل روائي عربي او اجنبي، وان كان هذا بالطبع لا ينف استعمالها من قبل روائي ما لم احظ بمعرفته. هذه التقنية السردية هي التغريب بالمعني البرشتي للكلمة، تلك التقنية المسرحية التي صكها الكاتب المسرحي الالماني بروتولد برشت. عمد الراوي الي استعمال تقنية التغريب منذ الصفحة الاولي، فيقول الراوي في معرض مخاطبته للتمساح :سلست التمساح الوحيد الذي يقطن أمعاء كائن بشري، الا تجد في هذا عزاء او تفسيراً؟ . . . ، ولنبدأ من نقطة صادقة، هذه محض روايةس (ص 11) . وكلما استغرق القارئ في متابعة الفصول الأولي، التي تتسم بجمال فائق للغة شعرية حافلة بالظلال وغموض المعني ووضوحه يقفز المؤلف الامبريقي مزيحاً الراوي ليذكر القارئ مرة اخري انها محض رواية. ففي إحدي المشاهد الطافحة بالدراما يقول احد مراهني الأبد، وهما شخصيتان توأم يراهنان علي كل شئ منذ بزوغ عالم بيدق، يقول احد مراهنا الابد : عبث أم لا؟ ، واراهنك بقطعتين لقطعة.ثم، كأنما انتصار قادم، بسط كفه لاحتواء ثروته المزعومة: - أراهنك بعدد كلمات هذه الرواية وهنا يتدخل المؤلف الامبريقي قائلاً : لوّثني المراهن، وكل رهان لوثة وتلويث، إذ سأظل مسكوناً بفكرة مفاقمة ربح طرف مقابل خسارة طرف آخر، وفي كل كلمة اسردها، لا تجاهل، كذا بررت نفسي لنفسها، إذ لا سبيل لسرد كلمة ان لم نتناسي الرهان، قلت: لست نصيراً لأحد. لم اقل بالأحري كتبت ذلك في السطر السابق . . . (ص 44) .