عميد طب قصر العيني يتفقد امتحانات البكالوريوس بالكلية (صور)    مدبولي: زخم غير مسبوق في المشروعات القومية، والجمهورية الجديدة تتحول إلى واقع ملموس    التضامن تطلق أول منظومة متكاملة لتسجيل أبناء مؤسسات الرعاية    أوقاف شمال سيناء تحذر من "حرمة التعدي على الجار" فى ندوة تثقيفية    753 فرصة عمل فى مجال الأمن بمرتبات تصل ل9500 جنيه.. التفاصيل    أزمة مياه أم ضعف كفاءة الصرف الزراعي؟!    سعر الجنيه الاسترلينى يواصل التراجع بمنتصف تعاملات اليوم الخميس    يضيف 3 آلاف برميل يوميًا ويقلل الاستيراد.. كشف بترولي جديد بخليج السويس    البنك القومي للجينات يستقبل وفد صيني لتعزيز التعاون البحثي    محافظ القليوبية يُهدى ماكينات خياطة ل15 متدربة من أوائل خريجات دورات مهنة الخياطة    وزير الأوقاف ومفتي الجمهورية يعزيان وزير التموين في وفاة والدته    وزير الأوقاف ينعى والدة وزير التموين والتجارة الداخلية    ترحيب سودانى بالجهود الأمريكية لإحلال السلام العادل والمنصف فى السودان    ولي عهد السعودية يشكر ترامب ويؤكد على متانة العلاقات مع أمريكا    الهلال الأحمر المصري يطلق «زاد العزة» ال77 محمّلة بأكثر من 11 ألف طن مساعدات    نادي جديد يدخل حلبة سباق ضم رودريجو    اتحاد الكرة يوضح إجراءات شراء الجماهير لتذاكر مباريات كأس العالم FIFA 2026    كونسيساو في مهمة جديدة مع الاتحاد.. والنصر يطارد الانتصار التاسع أمام الخليج    طارق السيد: ما يتعرض له حسام حسن يشبه أجواء المنتخب مع «المعلم»    السجن 3 سنوات لسائق توك توك بتهمة قتل طفل بالخطأ في الشرابية    وزارة التضامن تحسم إجراء القرعة الإلكترونية لاختيار حجاج الجمعيات فى هذا الموعد    تفاصيل صادمة في واقعة تشويه وجه عروس مصر القديمة.. المتهمة أصابتها ب 41 غرزة وعاهة مستديمة.. وهذا سبب الجريمة    اكتشاف 225 تمثالا من الأوشابتي للملك شوشنق الثالث بمنطقة صان الحجر الأثرية    بالصور.. احتفاء كبير برواية شغف ومشروع رشا عدلي الروائي في ندوة دار الشروق بوسط البلد    كشف أثري بالشرقية.. 225 تمثالا من الأوشابتي الخاصة بالملك شوشنق الثالث    عرض عربي أول ناجح لفيلم اغتراب بمهرجان القاهرة السينمائي    حكم صلاة الجنازة والقيام بالدفن فى أوقات الكراهة.. دار الإفتاء توضح    رئيس أزهر سوهاج يتفقد فعاليات التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    أمين الفتوى يوضح حكم غرامات التأخير على الأقساط بين الجواز والتحريم    أكلة الترند، طريقة عمل دونر الكباب في المنزل على الطريقة التركية    «التعليم العالي»: صدور قرارات جمهورية بتعيين قيادات جامعية جديدة    انطلاق مباريات الجولة ال 13 من دوري المحترفين.. اليوم    تقارير: تعديل مفاجئ في حكم مباراة الأهلي والجيش الملكي    ضبط (139) ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    تأثير الطقس البارد على الصحة النفسية وكيفية التكيف مع الشتاء    استشاري صحة نفسية توضح سبب ارتفاع معدلات الطلاق    تموين القليوبية: جنح ضد سوبر ماركت ومخالفي الأسعار    التخطيط تبحث تفعيل مذكرة التفاهم مع وزارة التنمية المستدامة البحرينية    إندونيسيا: إجلاء أكثر من 900 متسلق عالق بعد ثوران بركان سيميرو    عاجل - اتجاهات السياسة النقدية في مصر.. بانتظار قرار فائدة حاسم ل "المركزي" في ظل ضغوط التضخم    جثة طائرة من السماء.. مصرع شاب عثروا عليه ملقى بشوارع الحلمية    وكيل صحة الأقصر يتفقد التطعيمات ورعاية صحة التلاميذ والطلبة بمدارس مدينة الطود.. صور    وزارة «التضامن» تقر قيد جمعيتين في محافظة الغربية    مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى: سنفرض عقوبات على عدد من الجهات السودانية    "الشباب والرياضة" تدشن "تلعب كورة" لاكتشاف 2000 موهبة في دمياط    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا..... اعرف مواعيد صلاتك بدقه    «السماوي يتوهج في القارة السمراء».. رابطة الأندية تحتفل بجوائز بيراميدز    سعر الريال السعودى مقابل الجنيه اليوم الخميس 20-11-2025    محمد صبحى يكشف أسباب التوسع الدولى لجامعات مصر وزيادة الطلاب الوافدين    وزير الصحة يوجه بتشكيل لجنة للإعداد المبكر للنسخة الرابعة من المؤتمر العالمي للسكان    نصائح هامة لرفع مناعة الأطفال ومجابهة نزلات البرد    سعر الدولار اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    حبس 3 متهمين بحوزتهم 11 كيلو حشيش فى سوهاج    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سليمان فياض: الكتَّاب المصريون هاجروا بأقلامهم منذ عهد عبدالناصر
نشر في القاهرة يوم 06 - 12 - 2011

سليمان فياض كاتب قصصي،متعدد الوجوه والأنشطة،فهو لغوي من طراز فريد،أعد القواميس في اللغة والنحو، ومن أوائل الذين مارسوا الكتابة الدرامية في الإذاعة والتليفزيون، وإعداد البرامج في الإذاعة، عمل صحفيا ومشرفا علي سلسلة "مختارات فصول"ونائبا لرئيس تحرير مجلة إبداع أيام المرحوم "عبدالقادر القط" والشاعر"أحمد عبدالمعطي حجازي"،عمل مدرسا في الصعيد والدلتا وتغرب في الخليج. فياض كاتب واقعي الرؤية ولا يشوبها الغموض،كتاباته يختلط فيها البساطة والصدق والسحرية وروح الفكاهة النابعة من الفهم العميق لسيكولوجية الواقع المصري،ولد في فبراير عام 1929 وبدأ الكتابة في منتصف الخمسينات،من أهم كتبه الإبداعية: أصوات ، والقرين..ولاأحد ،الشرنقة، وفاة عامل مطبعة، العيون، زمن الصمت والضباب،وبعدنا الطوفان، عطشان يا صبايا، وأحزان حزيران،الصورة والظل،وكتب سلسلة علماء العرب يخاطب بها الناشئة. ويعكف الآن علي استكمال تطوير مشروعه الثقافي في تطوير القواميس،حيث يعمل في مدخل جديد للغة العربية من خلال المعاني والمصادر، يطلق عليه "اللغة العربية المستعملة الآن". التقينا به فدار هذا الحوار. { تكتب القصة منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي. ونشرت مجموعتك القصصية الأولي «عطشان يا صبايا» عام 1961 واصلت الكتابة حتي أصدرت قسما من سيرتك الروائية "أيام مجاور" التي نشرتها روايات الهلال عام 2009 وعاصرت عدة أجيال من الكتَّاب وعرفت رؤاهم المتباينة ماالمنهج الذي اقتنعت به ومارسته في فن القص؟ - فلنستبدل كلمة المنهج هنا بكلمة أخري. هناك فقط توجهات وأمزجة في إبداعات الفنون والآداب، يتأثر فيها اللاحقون بالسابقين، ويكتشفون أنفسهم مع الممارسة لمواهبهم، فيختطون بالممارسة، وربما دون كثير تعمد، توجهات خاصة جديدة، لا تنفصل كثيرا عن توجه ما من التوجهات الأخري في الإبداعات القصصية، ولكنها قد تضيف بعض الطرائق الجديدة في الرؤي والتجارب ووسائل القص، لتصبح في مجموعها في النهاية بصمة لكاتب متفرد ذي مزاج خاص. وقد يعصف المبدع بمزاجه الإبداعي مرارا، مع تغير مراحل عمره، وتنوع تجاربه وتغير رؤاه، وتجدد ثقافته القصصية والمعرفية. ذلك يحدث دائما. ولنرجع إلي مسيرة أي كاتب في الإبداع. النقاد المتابعون يعرفون ذلك الأمر حتي أصبح من البديهيات. لكن بصفة عامة قصصي تنضوي تحت الواقعية النقدية ولكن بلا ضفاف أيديولوجبة. فكل تجربة تفرض لغتها ورؤيتها ولغتها ووسائل قصها وبنائها. { هل تيار الواقعية بروافدها صالحة لأغلب الأزمنة؟ - ليس هناك شيء عندي في الوجود غير الواقع أولا. المشكلة الإنسانبة هي في رؤية الإنسان للوقائع، وفرض تماهيات الرؤي الفكرية والفنية عليها. يقولون: إن كل التيارات النقدية والإبداعية خرجت من عباءة الرومانسية. في رأيي أن ذلك غير صحيح علي الإطلاق. كل التيارت الفكرية والفنية بما فيها الرومانسية خرجت من الواقع حتي الأساطير والخرافات، ولكن بتماهيات الرؤي البشرية، في شتي العصور والثقافات. ولا تزال محاذاة وموازاة الأعمال الإبداعية قصا وغير قص محاذية وموازية للواقع السيال والمتتابع بفوضاه البادبة. ما يجري في داخل الفرد والجماعة هو واقع خاص أو عام. وما يجري خارجهما هو واقع آخر. إنها فقط في الفن والأدب تجسدات لمنظورات شتي من التماهيات الإبداعية، يؤثر النقاد ومؤرخو الفنون والآداب تسميتها لمنحها تصنيفها أو لعزلها لتوصيفها في مدارس ومذاهب. { جل تجربتك الإبداعية في مجال القصة القصيرة، وحتي الرواية تكتبها بروح وتكنيك القصة القصيرة. بما تفسر تراجع القصة القصيرة في العقدين الأخيرين وشيوع ظاهرة الرواية والتي قد لا تكون بمستوي قصة قصيرة واحدة؟ - التفسير الأمثل قد يستطيع أن يجيبك عنه ناقد ذو نظرة شمولية، ورؤية متكاملة. لكن حسب اجتهادي وإذا لم يجانبني التوفيق، فالرواية أسهل الطرق للبناء القصصي، فالرواية تداخل بين قصص أفراد، وتداخل بين عدد من المواقف. وتداخل في الأحداث، وتداخل في العلاقات. وهي أمور من السهل ولوجها بالتنظبم لها، أو حتي بدون تنظيم، لزمن أو أحداث أو أماكن أو بدون أماكن. الولوج إلي ذلك في الرواية سهل لكل من يملك حكاية تحكي، كما تفعل تمثيليات السينما والإذاعة. القص القصير بالمقابل وحدة متكاملة فرص الكمال والاكتمال فيها ضئيلة. فثمة جودة تنشد أو تسقط القصة القصيرة أشلاء مروعة. الجيل الجديد في أدبنا جيل تليفزيونجي يجري وراء الحكاية. عين منه علي التليفزيون وعين علي الترجمة، وحسبه أن يفجر المواجع الموروثة أو المعاشة. قليل من هذه الروايات من ينجو من السقوط، ولا تتوقف تجاربها عند حدود المتعة والتسلية، وجماليات اللغة الانفعالية أو الخطابية، والرؤي الجاهزة والمبتورة الاكتمال. بين النوعين: القص القصير والقص المرحرح، تقف محاولات روائية تقف فيما يعرف في عصرنا بالقصص القصيرة الطويلة. تلك هي حدودي في أصوات والشرنقة والقرين والهجانة التي أحسب أنني أجيدها. وأنا مثل أستاذي يحيي حقي وهمينجواي أعشق الاقتصاد في لغة القص وبنية القص نفسها دو حشو. { ربما تكون من ضمن الكتَّاب الذين وقعوا أسري لشهرة العمل الواحد بروايتك: «أصوات» مثل يحيي حقي في روايته «قنديل أم هاشم» وصبري موسي في روايته «فساد الأمكنة» إلي أي حد ينطبق هذا القول؟ - إلي حد بعيد. حتي نجيب محفوظ وقع أسيرا بدوره لشهرة العمل الواحد. بثلاثيته «بين القصرين» وسعد مكاوي بروايته «السائرون نياما» وغيرهم وغيرهم. ثمة عمل جيد وصادق ما للكاتب السعيد الحظ يصبح معادلا لوجوده الإبداعي هم نفسه بين القراء والنقاد علي السواء، لأنه مس وترا عن الناس، وأزال القشرة عن جرح لا يندمل وصار قرحة. ذلك حق للناس، وشرف للكاتب، ولا ينفي مثل هذا العمل وجود أعمال أخري جيدة للكاتب، أقل حظا وشهرة بين الناس، وقد تكون أجود فنا. { لك قصة قصيرة طويلة هي «القرين» وهي تجربة فريدة في القص المصري والعربي. هي قصة حوار مع الذات واختلطت فيها عدة تجارب. كيف كان تلقيك لهذه القصة؟ وكيف كتبت؟ - هي أيضا قصة حوار مع مجتمع وتراث وثقافة شعبية، وتجسيد للصراعات الاجتماعية في نفوس الناس وبين الناس ومع بعضهم البعض. تلقيتها صباح يومي شتوي ربيعي كحام من أحلام اليقظة. كأنها ألقيت في الروع. وتلقيت مقطوعات تجاربها ومنَحي لغتها، وبنيتها وعناوينها الفرعية، وصوغ هذه العناوين، بالاستفهامات الكيفية، في نفس اللحظة، وأنا بالحمام الصباحي، وأنا أعد فنجان قهوة. نصف ساعة لا تزيد من التلقي، وعيالي لا يزالون نياما لم أوقظهم إلي مدرستهم بعد. وأنا في طريقي إلي كوبري الجامعة لركوب أوتوبيس إلي مدرستي. شعرت بالخيانة لنفسي و" لقريني". فإذا لم أكتب هذه القصة الهلامية الشاردة اليوم، بل الآن، فلن تكتب قط، ولن أجد روحها أو أستردها مرة أخري. عدت مسرعا إلي منضدة كتابتي الإبداعية بكازينو الجزيرة التي كتبت عليها معظم قصصي بعد قصص: عطشان يا صبايا. ودندنت لتسخين نفسي دندنات من أنفي وابتلعت قرص ريفو، وشربت فنجان قهوة، وانكفأت بقلمي علي ورقي مع العاشرة صباحا، ولا أظن أنني رفعت رأسي عن الورق، أو ذهبت إلي حمام، أو توقف قلمي عن الخربشة وصرير القلم, حتي الخامسة مساء مع شمس تغرب. عدة ما كتبته من صفحات ذلك النهار دون توقف خمس وثلاثون صفحة، كتبتها لأول مرة في حياتي دفعة واحدة في نهار واحد. لم أهتم بالأخطاء ولا المراجعة. كان همي أن أفرغ أصوات لغة قصتي الهامسة والزاعقة علي الورق كأنها تسجيل صوتي. في اليوم التالي ليلا في بيتي راجعت أخطائي كلها بكل أنواعها المحتملة. بيضت القرين وأرسلتها إلي الآداب لتنشر بالعدد الخاص بالقصة العربية بعد أسبوعين فقط في شهر مارس عام 1973 كان أول صوت أسمعه لقارئ مفتون بمغامرة القصة من يوسف إدريس ظهيرة يوم جمعة. الصوت الثاني كان للراحل فاروق عبدالقادر. قال لي: ما ذا تعرف عن الشر حتي تكتب عنه. ولم أقل له: لا يحسن القول عن الشر إلا من الخير. وقال لي القاص العراقي موسي كريدي وأنا في زيادة من زيارات المربد العراقية عام 1975 أنك تعاني انفصام الشخصية، ولم أقل له: إن العرب كلهم يعانون هذا الانفصام أفرادا وجماعات. العناوين الفرعية بالقرين احتذيت فيها عناوين شتاينبك في قصته الرائعة تورتيلافلات. { وصفك الناقد فاروق عبدالقادر في إحدي مقالاته بأنك حكاء القرية وفقيهها، لأن معظم إنتاجك من ريف الدلتا، منطلق من أنك ابن هذا الريف. في الماضي كان لهذا الريف خصوصيته وسحره. هل للريف الآن ذلك السحر الذي يسحر المبدعين فيكتبون عنه؟. - ما كتبته من تجارب الريف في قريتي كانت من تجارب عشتها في طفولتي وصباي في سنوات الثلاثينات. كان ريفاً زراعيا مستقرا مغلق المجتمعات الصغيرة تقريبا، كل يوم فيه هو كسابقه، يكرر نفسه مع المواسم والفصول وشروق الشمس وغروبها. ولم يكن لذلك أي سحر، فقد كان مليئا بالأحلام والأغاني الحزينة والفقر والمرض والجهل وبعض المسرات القليلة، والضحك الذي هو كالبكاء. السحر الريفي الذي كتب عنه الجيل الذي سيقني سحر مفتعل ربما بسبب تألقات الطبيعة في أوقات الليل والنهار. ولأنني واقعي الرؤية فجرت الحقائق وعريت النفوس وأنا أستعيدها بعين مثقف متسيس من داخل قريتي ومن داخل قريتين أخريين عشت بهما هما البداري بصعيد مصر والشعراء بدلتا مصر. قصص القرية كانت مسرحا من مسارحي. قصص المدن الصغري كانت مسرحا ثانيا. قصص بلدان عربية كانت مسرحا ثالثا. قصص الأزهر كانت مسرحا آخر. وأنا أتنقل بينها لا أكاد أجد مستقرا ولا دار إقامة. بحثي ورؤاي كلها كان مع القضايا الإنسانية والتجارب الواقعية في القري والمدائن حتي في شطحات القص ومغامراته. أحسب أن رؤاي لريف مضي زمنه، وتغيرت أماكنه اليوم، قلبت الرؤي كلها عند كل القصاصين منذ قصص عطشان ياصباي ووصولا إلي القرين وما بعدها، والجيل الجديد من أبناء الريف الذي تغير عليه أن يكمل المسيرة، فقد أصبح جيلنا كإبداعاتنا ماضيا، ومن حقنا أن نسلم الراية لمن بعدنا. صرنا ماضيا ككل ماض آخر. ذلك هو معني الزمن، ودورة النمو والتطور والارتقاء ولا يوجد ثمة من خلود لأحد من البشر، وأسماؤنا لا تزيد علي كونها حروفا بدلا من الأرقام. { لك تجربة عن الحياة الثقافية المصرية منذ الخمسينات. وهي تجربة فريدة تكشف كواليس الحياة الثقافية والذين شاركوا فيها من الكتَّاب والصحفيين. حدثنا عن هذه التجربة ومبرر كتابتها. - أنت تشير إلي تجارب كتاباتي القصصية كتاب النميمة، وهو من قصص الشخصيات والبيئة والظواهر الاجتماعية والثقافية في مصرنا المحروسة، وأنا بها متيم مفتون، ومن حقي تعرية كل عام وظاهرة في حياة شعب وأمة وبشفافية ودون تردد. نحن نتحدث في المقاهي والبيوت والأندية المدنية المتواضعة عن الظواهر والأحداث والناس ضاحكين مما يجري أو حزاني. كل الشفاهيات تندثر ونصبح كأنما شعب بلا ذاكرة. أزعم أننا نحن الكتَّاب ذاكرة الأمة، ونخون أمانتنا وعقل الأمة الجمعي، إذا لم نكتبها، إذا لم نسجنها في لوحة، أو لحن، أو مقطوعة شعرية، أو قصة، أو رواية. نحن نفعل ذلك مع كل شرائح المجتمع، فلماذا نستثني منها شرائح الصفوة، وظواهر الصفوة في السياسة والأدب والفن والإعلام والأسماء الحياة الشخصية، النم من وجهة النظر الدينية أو الاجتماعي؟ تلك كلها تعلات. فلنغير الأسماء حتي بصفات. أو بأسماء أخري. فلنجر بعض التعديلات في مجري ما يجري. الفن لا يحاكم أحدا. الفن يفعل ما هو أبعد. يعري أجسادا تكاد تكون بلا رءوس ولا ملامح. نقول للناس. اكتشفوا. انظروا. احذروا. انظروا إلي إنسانياتكم وحدها. لا تكرروا هذه المشينات. نحن الكتاب نشهد علي عصر في كل قصصنا، عن الرجل العادي والرجل ذي الياقة المنشاة. لماذا لا نشهد علي الرجل الصفوة بخيره وشره؟؟ { سافرت في بداية حياتك وعملت مدرسا في عدد من البلاد العربية، وأغلب جيلك هاجر بعد رحيل عبدالناصر في فترة السبعينات. ما تأثير هذه الغربة في إبداعك. ثم ما مدي تأثيرها علي الواقع الثقافي في مصر؟ - نحن كمثقفين هاجرنا بأقلامنا المبدعة في عهد عبدالناصر نفسه حتي صاح طه حسين عام 1959: لقد انتقلت عاصمة الثقافة العربي إلي بيروت. لم تكن أمام المثقفين في مصر سوي الهجرة بأقلامهم. لم يعد ثمة مكان في مصر لرجل صفوة ولا نخبة من أي جيل مخضرم حي أو حتي من جيل جديد، لم تعد هناك فرصة لمعارض ولا لحرية رأي، ولا حرية تعبير
عامة، إلا همسا وعلي المناضد المنعزلة. المطلوب من أي مثقف أو حتي إداري أن يكون أو لا من أهل الثقة أي تابعا. المجلة التي أعمل بها وهي مجلة رسمية حكومية تقريبا أغلقت صفحاتها إرضاء لملك دولة عربية، وعلاجا لمجرد خطأ فني سياسي غير مقصود. هددنا نحن العاملين بالمجلة بالاعتقال لو رفعنا قضية لمجرد المطالبة بحقوقنا الصحفية وفقا لقانون العمل الصحفي عام 1953 ظللت عاطلا عن العمل وقد تخرجت في الجامعة يعولني أهلي علي مضض. لذلك هاجرت لأعمل مدرسا ببلد عربي بأجر ضئيل لمتعاقد مع أنني صرت عضوا بنقابة الصحفيين بتاريخ 25/ 11/ 1958 ، وأنا في غربتي العربية أممت الصحافة، وقبل هذا التأميم وبعده كانت الرقابة التايعة لمصلحة الاستعلامات، وكان أعضاء مجالس الإدارة المنتدبون من قبل الثورة ورئاسة الثورة، التوجيهات السرية السياسية وغير السياسية بما يكتب وما لا يكتب. حين جاءني التعيين مدرسا بالصعيد قبلته علي الفور فرارا من غربة لم أستطع فيها أن أكتب حرفا. غرقت كتابتي هناك واصفرت مع رمال الصحراء أنا ابن الأرض والشجر وحياة الحضر المصرية في القري والمدن. خلعت عني كل صلة لي بالصحافة، وصرت مع التدريس كاتب "العشرة قاف" ببرامج الإذاعة. ولم أكتب من حياة الصحراء فيما بعد سوي أربع قصص بينها قصة لا أحد، ومن حياة الجبل سوي قصة: الحنين والجبل. رفضت مرارا كل العروض من يوسف السباعي وسعد الدين وهبة ليستقطب قلمي بوظيفة ثقافية لامعة اختارها ومعي أكثر من عشرين قصاصا من جيلي، آثرنا أعمالا وظيفية أخري لا صلة لها بالثقافة والإعلام، وآثرنا أعمال القطعة الإذاعية غالبا، وهي من تراحيل العمل الذهني، لجيل ضائع، ضائع حقا. الذين هاجروا من صفوة الستينات مع سنوات السبعينات كانوا من أتباع عهد مضي، وللعهد التالي أتباعه من صفوة آخرين في الظل نبذوا من قبل لعهد الماضي، مهاجرو صفوة السبعينات فرضوا شروطهم للعودة ليكونوا بدورهم من أتباع عهد ثالث أسميه عهد الموظفين والمنتفعين، أضيفوا إلي من قبلهم من أتباع العهد الثاني، وعن أتباع هذه العهود ومعارضيها وظواهرها رحت أكتب "نمائمي" منذ منتصف الثمانينات من قرن مضي إلي اليوم.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.