بعدما مرت الأيام علي ثورة الشعب المصري المجيدة بحق، ثورة 25 يناير، شهر تلو شهر وتبدد بعض الغبار الثوري وكشف عن وجه مشرق ينذر بخير لم يأت بعد، تلك الافكار والتيارات التي طفت جميعها علي السطح فجأة تموج وتطلاطم، كم هو رائع هذا الشعب الذي لا يضيع إرثه وحضارته ابدا، تتواري احيانا، وحين يجد الجد يخرج الينا بكل ما في جعبته، وميدان التحرير خير شاهد، فاليوم هناك أيام الثورة المجيدة بألف يوم مما كنا نعد قبلها. لم تك تلك الأيام المجيدة سوي تتويج لسعي حثيث نحو آفاق الحرية، ولم يبدأ هذا السعي منذ أعوام، بل عقود شارفت القرن، فلم تك البداية مع كفاية أو البرادعي، بل بدأ النداء في أيام نسميها "تاريخنا الحديث"، بدأ مع هتاف "تعيش مصر حرة مستقلة" هتاف ثورة 19، يومها خرج المصريون لأجل هدفين واضحين مصر "حرة" ،"مستقلة" وبدأ المصريون السعي من هنا ومن تلك النقطة في التاريخ سعوا لأجل الدولة المصرية. وظل المصريون من يومها في سعي دءوب، فمن استقلال مشروط، مرورا بدستور ووزارة برلمانية علي يد سعد، ثم اتفاقية 36 علي يد النحاس، إلي الاستقلال التام علي يد الضباط الاحرار بعد حركة 52، بعدها وبعد أن عاد للمصريين إرادتهم وحريتهم التي أتت اليهم علي طبق من فضة بيد الجيش، سلم الجميع طواعية حريته وإرادته إلي أول من طلبها منهم، وكان عبدالناصر، وكانت الفترة الناصرية استثناء حقيقيا من تطور الدولة المصرية، فقد قررت فجأة الدولة متمثلة في عبدالناصر أن تقفز لا أن تسير، ولكن للقفز قواعد إن لم تلتزم بها وقعت مكسورا، وهو ما حدث للتجربة الناصرية، وعاد المصريون من جديد بعد موت ناصر للسعي من أجل الدولة التي، وإن أصبحت مستقلة، لكنها ليست حرة، حتي تحقق الهتاف علي يد ثوار يناير مصر حرة مستقلة..تحيا مصر وللقصة أبعاد أخري كانت ثورة 19 هي الخطوة الأولي للمصريين علي طريق الوطن والمواطنة، لقد ظلت تلك البلاد جزءا من دولة أكبر، أو بالأصح جزءا من إمبراطورية ضخمة، فارسية، هلينية ،رومانية،عربية،تركية، إلي أن قضي الفرنجة الغربيون علي امبراطوريات الشرق، وبدأوا في الاستيلاء علي التركة، فكانت مصر من نصيب بريطانيا العظمي التي استنزفت البلاد كما فعل سابقاتها الشرقية، وكضرة نافعة نقل الينا الانجليز فكر جديد غربي خالص لكنه نافع، وكانت البداية ثورة 19، تلك التي رسمت ملامح الوطن مصر، فقبل ذلك بسنوات قليلة كان مصطفي كامل الوطني صادق الوطنية بلا شك ينادي بالخلافة العثمانية، ولا يري بها أي شكل من أشكال الاستعمار، أما ومع ثورة 19 كان المصريون يطمحون إلي حكم أنفسهم بانفسهم، لأول مرة يخطر هذا الخاطر، وكأنه وحي هبط علي الوادي، لقد دبت الروح في مصر الوطن، وما أجمل ما نراه من ليبرالية الحركة، ليبرالية بالمعني اللغوي"Liberty " أي الحرية حرية الفكر والعقيدة والممارسة السياسية، ونتج عن تلك الثورة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب مصري من قبل، نتج عنها الغاء الحماية البريطانية عن مصر، و اعلان مصر دولة مستقلة وإن كان استقلالا منقوصا- ثم صدور أول دستور مصري سنة 1923 وتشكيل أول وزارة في مصر برئاسة سعد زغلول 1924، وخرجت علينا مصر في ثوبها الجديد ما أجمله مزركش حرية وديمقراطية، وإن كانت علي غرار ديمقراطية أثينا ديمقراطية الصفوة، ولكن ومع تقادم الزمن بدا الثوب في الاتساخ خاصة مع حيل المستعمر الانجليزي التي لم تكن بأقل من حيل مستعمر اليوم وإن تبدل اللون وساءت الحال يوما بعد يوم مع تخلي قادة الوطن عن القضية والتدني لمصالح شخصية، وهو ما أدي لتردي الحال السياسي والتنازع علي الوزارة، ولجوء الخصوم إلي خصوم الخصوم وإن كانوا من الخصوم، فحين خرج الوفديون يهتفون الشعب مع النحاس، خرج الاخوان يهتفون الله مع الملك، وحين رفض الملك النحاس وزيرا، أدخلته انجلترا الوزارة علي أسنة الرماح، هكذا الحال، ثم وصل الأمر في أقصي درجاته قبل حركة الجيش 52، حيث تبدلت الوزارات وذهب الكثيراسرع مما جاء، حتي كانت وزارة اليوم الواحد وزارة الهلالي 22 يوليو1952 - 23 يوليو 1952. وكانت حركة الجيش في 52 حين خرج الضباط الأحرار ليلة 23 يوليو لم يكن ليخطر لهم أنهم الحكام الجدد لهذا الوادي، وان نجيب وعبد الناصر والسادات ومن بعدهم مبارك سيجلسون علي كرسي فرعون السحري، كانت حركة للتطهير من الفساد وإعادة الوطن لمساره الصحي، حركة لم يكتب لها النجاح، محاولة مصرية خالصة وطنية صادقة خرجت عن المسار. ومن قام بذلك لم يكن الشعب فهي ليست ثورة بحال من الأحوال بل هي انقلاب أو حركة أيدها الشعب لكنه لم يشارك ولم يخرج من أجل حريته بل قام الضباط الأحرار عنه بذلك وعليه أصبحوا هم الأوصياء عليه يأتمر لهم الناس في سائر بلاد المحروسة ولأول مرة منذ زمن بعيد يجلس مصري في اعلي قمة السلطة المصرية، وبعث كرسي الفرعون من جديد، وتنازع نجيب و ناصر الكرسي، واستحوذ عليه ناصر، فمسته لعنة الفراعنة، فأصبح فرعون مصر الجديد، يحبه المصريون ويهابونه، كلمته ناهية وأمره نافذ، ورغم وطنية ناصر الصادقة ويده الشريفة إلا أن كل هذا وأكثر لم ولن يشفع له الهزيمة والانكسار الذي كان من أول حصاده ناصر نفسه. وبموت ناصر مات المشروع الناصري كله، ولم يتبق منه سوي مساوئه والتي كرس عهد السادات لها جهدا إن كرس للخير لأكرم أمم بأكملها، وبدا الانهيار المصري في الخارج والداخل، فتلونت البلاد بلون الانفتاح بترول ودولار وسلع استهلاكية او بأسلوب نجم والشيخ امام "بوتيكات النات كونات وشقق مفروشة وعمولات" وما لبث ان اغتيل السادات بيد مارده، وسقط حَجر السلطة في حِجر حسني مبارك صاحب اللقب الفريد في تاريخ مصر "الرئيس المخلوع". وفي سعي المصريين من أجل دولتهم الحرة كان العائق الحقيقي هو كرسي الفرعون الذي أسس له ناصر وعمق له السادات وانتفع به مبارك حتي كانت الصحوة والمحطة الثانية في المسار الصحيح "ثورة 25 يناير" التي دكت قوائم العرش الفرعوني دكا، فكم كان غريب علي العين والأذن حقا ما كان يحدث بميدان التحرير لقد عبر الثوار بكل جرأة وصراحة عن كرههم للنظام ورأسه الفاسد بلا مواربة أو تلميح وحين قيل لهم احترموا شيبته كان الرد ان مصر أمي لكن مبارك ليس أبي لقد اُلهم المصريون الحق، إن رئيس الجمهورية "مفيش علي راسه ريشة ولا تاج" تاج الرئيس المنتخب حقا هو شعبه فإن رفضه شعبه يرحل فورا. لقد توج المصريون سعيهم للحرية بثورة يناير وستبدأ الجمهورية الثانية في القريب العاجل أكثر مما أردنا فالجيش قرر رد جميل الشعب الذي أيده في يوليو 52 وفرح الشعب بذلك وقدرة "الجيش والشعب هيكمل المشوار" إلا أن ما تلي ذلك لا يفصح إلا عن احتمالين أظن أن لا ثالث لهما أما ان هناك ما يضمره ولا يبدوا لنا إلا ما ظهر وإما أنه أجبر علي رد الجميل ووضع في موقف حرج لا يملك حياله سوي التحرك وعليه قرر رد الجميل "قوام قوام". أخيرا تحققت مصر حرة مستقلة..وكم رجونا الكثير من ثورتنا المجيدة لكن يضن علينا بها من قام بالأمور ولذلك حديث آخر