رئيس جامعة بنها يتابع برامج التدريب الصيفي للطلاب بمركز إبداع مصر الرقمية    وزير البترول: نستهدف التعاون مع توتال إنرجيز لتطوير منظومة النقل الآمن للمنتجات البترولية    وزير الخارجية: مصر قدمت بمفردها 70% من إجمالي مساعدات غزة    استشهاد وإصابة 37 فلسطينيا فى مجزرة جديدة للاحتلال الإسرائيلى بمدينة غزة    موقف إيزاك.. محمد صلاح يقود ليفربول أمام أتلتيكو مدريد بدوري أبطال أوروبا    إطلاق دوري المدارس بالتعاون بين وزارة التربية والتعليم وشركة استادات برعاية الشباب والرياضة    أول صورة من واقعة التنقيب عن الآثار داخل مكتب صحة دشنا في قنا    بدء المؤتمر الصحفي لمهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة بالمجلس الأعلى للثقافة    وزير مالية الاحتلال: غزة "كنز عقاري" ونناقش مع واشنطن تقاسم السيطرة على الأرض    فليك: لن نضع ضغوطًا على يامال.. وراشفورد لديه الكثير ليقدمه    لوكاس بيرجفال يشيد بالصلابة الدفاعية لتوتنهام منذ بداية الموسم    بوتين يبحث هاتفيًا مع رئيس وزراء الهند الأزمة الأوكرانية وتطورات العلاقات الثنائية    محافظ الإسكندرية يشهد حفل استقبال المعلمين الجدد    المستشرقون ليسوا دائمًا مغرضين.. اللا زمن فى القرآن الكريم.. أنموذجًا!    الصحة: انتهاء أعمال إحلال وتجديد وحدة جراحات الرمد والعيون بمستشفي الشيخ زايد التخصصي    "بسبب إسرائيل".. إسبانيا تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026    عاجل.. استمرار تدفق المساعدات عبر معبر رفح وسط تصعيد عسكري غير مسبوق في غزة    "الأرصاد": أمطار غزيرة على منطقة نجران    مصرع شخص والبحث عن آخرين في ترعة بسوهاج    أرتيتا يتفوق على فينجر بعد 25 مباراة في دوري أبطال أوروبا    9 فرص عمل جديدة في الأردن (التخصصات ورابط التقديم)    بالذكاء الاصطناعي.. رضوى الشربيني تستعيد ذكريات والدها الراحل    موعد عرض الحلقة الأولى من مسلسل المؤسس عثمان 7 على قناة الفجر الجزائرية وترددها    وكيله: إمام عاشور يستحق الاحترام من الأهلي    احتجاجات واسعة في لندن ضد زيارة ترامب لبريطانيا    إصابة شاب بإصابات خطيرة بعد أن صدمه قطار في أسوان    تعيين نائب أكاديمي من جامعة كامبريدج بالجامعة البريطانية في مصر    كيليان مبابي يعلن غيابه عن حفل الكرة الذهبية 2025    مدارس «القليوبية» تستعد لاستقبال مليون و373 ألف طالب    وزيرة التنمية المحلية تتابع جاهزية المحافظات لموسم الأمطار والسيول    حقيقة اختفاء 5 قطع أثرية من المتحف اليوناني في الإسكندرية    محافظ بورسعيد يفتتح حضانة ومسجد ويتفقد مركز شباب مدينة سلام مصر    فوائد السمسم، ملعقة واحدة لأبنائك صباحا تضمن لهم صحة جيدة    إحالة شكاوى مرضى في وحدة طب الأسرة بأسوان للتحقيق    بعد نشر صورة مع جدها الفنان محمد رشدي.. من هي البلوجر فرح رشدي؟    خالد الجندى: الإنسان غير الملتزم بعبادات الله ليس له ولاء    حكم ما يسمى بزواج النفحة وهل يصح بشروطه المحددة؟.. الإفتاء توضح    80%ملكية أمريكية.. ملامح الاتفاق الجديد بين الولايات المتحدة والصين بشأن "تيك توك"    أول يومَين بالمدارس أنشطة فقط.. خطاب رسمي ل"التعليم" لاستقبال الأطفال    قناة السويس تشهد عبور السفينة السياحية العملاقة AROYA وعلى متنها 2300 سائح    البنك المركزي: القطاع الخاص يستحوذ على 43.3% من قروض البنوك بنهاية النصف الأول من 2025    عاجل- رئيس الوزراء: مصر ثابتة على مواقفها السياسية والإصلاح الاقتصادي مستمر رغم التحديات الإقليمية    ضبط المتهم بذبح زوجته بسبب خلافات بالعبور.. والنيابة تأمر بحبسه    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 17سبتمبر2025 في المنيا    هل يجوز لى التصدق من مال زوجى دون علمه؟.. الأزهر للفتوى يجيب    معاش للمغتربين.. التأمينات تدعو المصريين فى الخارج للاشتراك    تحديث بيانات المستفيدين من منظومة دعم التموين.. التفاصيل    مفتى الجمهورية: ما يجرى فى غزة جريمة حرب ووصمة عار على جبين العالم    المنيا.. تنظيم قافلة طبية مجانية في بني مزار لعلاج 280 من المرضى غير القادرين    وزارة الصحة تطلق أول مسار تدريبى لمكافحة ناقلات الأمراض    وزير الري: الاعتماد على نهر النيل لتوفير الاحتياجات المائية بنسبة 98%    وزير التعليم يبحث مع وفد الشيوخ الفرنسي تعزيز التعاون المشترك    شاب يلقى مصرعه حرقًا بعد مشادة مع صديقه في الشرقية    "البديل الذهبي" فلاهوفيتش يسرق الأضواء وينقذ يوفنتوس    اجتماع طارئ للمكتب التنفيذي لاتحاد المحاكم والمجالس الدستورية العربية    ملكة إسبانيا فى زيارة رسمية لمصر.. أناقة بسيطة تعكس اختياراتها للموضة    منال الصيفي تحيي الذكرى الثانية لوفاة زوجها أشرف مصيلحي بكلمات مؤثرة (صور)    رانيا فريد شوقي تستعيد ذكريات طفولتها مع فؤاد المهندس: «كان أيقونة البهجة وتوأم الروح»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أردوغان يواصل انتصاراته في مواجهة المؤسسة العسكرية ويختار قيادات جديدة للجيش موالية لحكومته
نشر في القاهرة يوم 16 - 08 - 2011

غلّبت دوائر عديدة داخل تركيا وخارجها فكرة أن الأحداث التي مرت بها البلاد منذ يوم 29 من شهر يوليو الماضي أدخلت تركيا في " عهد جديد " بكل المقاييس، بما يعنيه ذلك من تعزيز لسيطرة السلطة المدنية علي المؤسسة العسكرية، وانتهاء ما تبقي من سلطة العسكر علي النظام السياسي التركي " نهائيا " . فعندما حاول عدد من كبار جنرالات الجيش إثارة أزمة مع السلطة السياسية بتقديم استقالاتهم بصورة جماعية، وهي الخطوة الأولي من نوعها منذ تأسيس الجمهورية التركية في 1923، احتجاجا علي استمرار سجن عدد كبير من الضباط بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم (44 جنرالا، وما يزيد علي 60 من رتب أقل)، والتورط في مخططات عصابة " ارجينيكون " للانقلاب علي حكومة حزب العدالة والتنمية، ثم رفض رئيس الحكومة توقيع لائحة الترقيات الخاصة بالجيش، ورد الجنرالات علي ذلك بتقديم استقالاتهم، فقد سارع رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان إلي تنفيذ ما وصف "بالانقلاب المدني" علي رؤوس هؤلاء، واتخذ قرارا سريعا بتعيين قائد جديد لسلاح البر هو قائد الشرطة الجنرال نجدت أوزال الذي انفتح الطريق أمامه ليصبح رئيسا لأركان الجيش التركي، وتعيين قادة جدد للقوات البرية والبحرية والجوية في الجيش التركي، ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلنطي . وفقا لمصادر تركية، فإن ثمة خطوات إضافية يعد لها أردوغان لتبني تشريع جديد تماما لمنع القوات المسلحة التركية من إصدار البيانات السياسية، واقتصار مهمة رئيس الأركان علي نقل آراء المجلس العسكري إلي رئيس الوزراء أثناء الاجتماعات الأسبوعية، ووضع خطة لتغيير مراسم خاصة بالحرس الجمهوري اعتاد فيها القادة إلقاء بيانات سياسية، هذا، إضافة إلي تغيير البروتوكول الحالي الخاص بمراسم الاحتفال بيوم النصر في 30 أغسطس، حيث كان يتعين علي رئيس الوزراء والمتحدث باسم البرلمان توجيه التحية إلي رئيس الأركان العامة. يعلق الصحفي التركي يافوز بايدار في صحيفة "الزمان" علي المشهد الحالي في تركيا بأن الجيش يحاول التكيف مع التغيرات الحالية في تركيا، (وقد أصبح جيشا بلا أسنان، بالمقارنة مع السلطة المدنية)، بينما علق الكاتب جنكيز كاندار مؤكدا أن الأيام التي كان الجيش فيها يصدر أوامره قد ولت، وهناك معادلة سياسية جديدة داخل تركيا، وأنه علي كل من كان يعتمد علي الجيش لتسجيل نقاط سياسية أن ينسي ذلك، وعلقت صحيفة "الصباح" التركية الموالية للحكومة قائلة "إنه زلزال 4 نجوم". أردوغان.. المنتصر ليس ثمة مبالغة في القول بأن تركيا تعيش حاليا في ظل مرحلة "الأردوغانية" بكل ما تنطوي عليه من توجهات محددة لإعادة تشكيل الهيكل السياسي والعسكري للدولة التركية، ورسم توازنات قوي جديدة بين السلطات، وصياغة علاقات جديدة فيما بينها، وفرض السلطة المدنية علي الجيش الذي طالما اعتبر نفسه الحامي الأول للتقاليد العلمانية للدولة التركية. وإذا كان الكثيرون قد فوجئوا بخطوة استقالة قادة الجيش بما وصف بأنه " كلمة النهاية "لسلطة المؤسسة العسكرية علي النظام السياسي، ولحظة تاريخية تؤرخ لنهاية الجمهورية التركية الأولي، وبداية الجمهورية التركية الثانية، فإن الملاحظة الأخري الجديرة بالاعتبار هي محدودية رد فعل الشارع التركي إزاء الحدث، حيث لم يثر الاحتكاك العلني بين جنرالات الجيش ورئيس الحكومة اهتماما يذكر لدي الرأي العام التركي، الأمر الذي فسره البعض علي أنه تحول في اهتمامات المواطنين عن نظرة التبجيل السابقة للجيش التركي، سواء علي خلفية عجزه عن إنجاز نتائج حقيقية في التصدي لحزب العمال الكردستاني، أو بسبب سمعة بعض قيادات الجيش وتورط البعض في جرائم الرشوة والفساد واستغلال النفوذ وقد أفاد استطلاع للرأي نشر في الشهر الماضي بأن مستوي تأييد الشعب للجيش انخفض إلي 60% مقابل 90 % في وقت سابق وذلك نتيجة كشف المؤامرات ضد الحكومة. غير أن التفسير الأقوي لرد فعل الأتراك إزاء "انسحاب الجنرالات بهدوء من الساحة" وقيام أردوغان بتعيين قيادات بديلة، تمثل في التفاف المواطنين حول زعامة أردوغان، وعدم إبداء المعارضة لطريقته في التعامل مع المؤسسة العسكرية، وما يمكن اعتباره "الرضا العام" عن طريقة أردوغان في ترتيب العلاقات المستقبلية بين الحكومة والجيش، ويبدو أن اللحظة التركية الراهنة هي لحظة "أردوغانية" بامتياز، ففي شهر يونية الماضي، فاز حزب العدالة والتنمية، وبالتالي أردوغان بولاية ثالثة بإحراز 50% من الأصوات في الانتخابات التشريعية، ما فُسر علي أن معظم الأتراك يؤيدون عمليات التحول التي يقوم بها رئيس الحكومة . ويقول أنتوني شديد في صحيفة نيويورك تايمز إن إقدام جنرالات الجيش علي الاستقالة يهيئ لأردوغان مجددا "المنصة" التي ينطلق منها لإعادة تشكيل الجيش "المقيد" بالسيطرة المدنية، كما يساعده علي رسم سياسة خارجية توافق تطلعات حزب العدالة والتنمية، كما ينفتح الباب أمام أردوغان لإجراء التعديلات الدستورية التي تحدث نقلة نوعية في السياسة التركية . وفي الاجتماع السنوي للمجلس العسكري الأعلي، لعب حزب العدالة والتنمية دورا مهما حيث قرر الحاضرون في الاجتماع إقالة الجنرالات المشتبه في تورطهم في قضية "المطرقة" في 2003 والخاصة بمحاولة الانقلاب علي الحكومة. إن الاستقالات التي تقدم بها قادة الجيش التركي نُظر إليها علي أنها بداية انعطافة مهمة في مسيرته، وقد أتاحت الفرصة لأردوغان لملء مناصب الجيش العليا بقادة عسكريين من اختياره، ( بينما 10 % من جنرالات الجيش هم قيد التوقيف الاحتياطي علي ذمة التخطيط للانقلاب ضد حكومة أردوغان ) . فرئيس الأركان الجديد نجدت أوزال ( من مواليد 1950 ) و لم يشارك في مؤامرة الاستقالة، ويتوقع أن يكون أكثر تفهما وقربا من أردوغان، وهكذا، لم يعد من الممكن النظر إلي الجيش التركي علي أنه فوق القانون، كما كان في الماضي عندما أطاح بالحكومات في 1960، 1971، 1980، وثمة شعور عام بأن نفوذ الجيش التركي قد تضاءل إلي حده الأدني، فسواء استقال الجنرالات أو طلب منهم التقاعد ، فإن هذا يعني تغييرا جذريا بالنسبة لهيمنة المؤسسة العسكرية في تركيا، أو بوصف دوائر تركية بأن " الجيش التركي أعلن استسلامه للسلطة السياسية " . الاقتصاد في استطلاع للرأي أجراه مركز "بيو" الأمريكي في شهر يونية الماضي، قال 48 % من الأتراك إنهم "سعداء"، وقد لفتت هذه النسبة انتباه الكاتب الغربي نيكولاس بيرش مما دفعه للقول بأن مزاج الأتراك حاليا، في غالبيته، لايميل إلي التصويت من أجل "التغيير"، مفسرا ذلك بأن التحول الاقتصادي يؤدي إلي تغيير في عقليات الناس . وتدل الشواهد علي أن أحوال الأتراك لم تكن مطلقا أفضل مما هي عليه الآن . ففي ظل حكم حزب العدالة والتنمية تضاعف حجم الاقتصاد التركي ثلاثة أضعاف، وصعدت سوق الأوراق المالية بنسبة 600 % تقريبا، وحققت تركيا معدلات للنمو بلغت 8 % في العام الماضي، و 5 % في العام الحالي، وقد عادت هذه النجاحات بالنفع علي الأتراك في الداخل، وعلي المستثمرين الأجانب، وكان أكبر المستفيدين هم ملايين الفقراء الذين أصبح في إمكانهم الصعود إلي مستوي الطبقة المتوسطة، ويخاطبهم رجب طيب أردوعان بأن الحكومة تخدمهم وليست سيدة عليهم، ويتم دعم الأطفال في مدارس التعليم الأساسي، وبناء 350 ألف وحدة سكنية زهيدة الثمن من أجلهم . هذا، بالإضافة إلي تعزيز تركيا لدورها الاقتصادي إقليميا، حيث يقدر حجم الاستثمار التركي في الشرق الأوسط ودول البلقان وشمال أفريقيا بحوالي 100 مليار دولار. في رحلة صعود أردوغان، فإنه يعتمد علي أحلام الشعب التركي لتحقيق الرخاء والاستقرار، ويقول نيكولاس بيرش إن أعظم نجاح حققه أردوغان هو تدمير النظام المعادي للديمقراطية، وأفكار الذين نظروا إلي الشعب علي أنهم مجرد أطفال متخلفين عليهم الانتظار في الصف، وقد تولي حزب العدالة والتنمية مهمة القيادة ضد وصاية النخبة البيروقراطية بقيادة الجيش، والتي كانت تعتبر نفسها أرقي من السياسيين المنتخبين، كما نجح أردوغان في إخضاع الجيش للقانون، وإعلاء قيمة القانون في الدولة التركية، وأعطي تركيا وجها ليبراليا أمام العالم، وفتح الباب لتفكيك إرث جمهورية أتاتورك، وصالح بين إسلام تركيا والعلمانية . ثورة "سياسية" مثلما اعتبرت أحداث تركيا الأخيرة بين الجيش والحكومة نصرا مؤزرا لأردوغان، فإنها مثلت في الوقت نفسه لحظة انتصار للديمقراطية التركية، كون النظم السياسية الغربية تعتبر أن " حيادية " المؤسسة العسكرية تجاه الحياة السياسية، وابتعادها عن الانغماس في ألعابها والتأثير عليها، من صميم المبادئ الديمقراطية . وفي هذا الصدد، فقد اعتبر تصرف الجنرالات، بصورة ما، سلوكا ديمقراطيا، كونهم فضلوا تقديم الاستقالات علي الصدام الصريح مع السلطة السياسية المختلف معها، أو العودة إلي الماضي بتحريك الآلة العسكرية الانقلابية ضد الحكومة، وهذا السلوك يجعل تركيا تتشابه مع سائر الدول الديمقراطية الغربية التي توضع فيها حدود واضحة للمؤسسة العسكرية . كذلك نُظر إلي ( واقعة تبديل القيادات العسكرية ) ، ومرور الأزمة بهدوء واضح في الأجواء التركية علي أنه تتويج للثورة " السياسية " التي يديرها حزب العدالة والتنمية وأردوغان بمهارة فائقة . وهذه الثورة " السياسية " بدأ تنفيذها منذ وصول رجب طيب أردوغان إلي منصب رئاسة الوزراء في 2003، بعد نجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات في 2002، عندما تحلقت نخبة جديدة صاعدة حول الحزب الفتي، واستمدت قوتها من حيوية الطبقة المتوسطة المتدينة في الأناضول، وحلت هذه الطبقة محل " الشريحة العلمانية " التي زرعها مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفي كمال أتاتورك، وحينها تشكك الكثيرون بأن ثمة أجندة إسلامية خفية يجري الإعداد لها . غير أن ملامح اللحظة حملت في طياتها بذور ثورة سياسية تمثلت في استبعاد حزب العدالة والتنمية قضايا صراعات الهوية، والانتقال مباشرة إلي مهمات الواقع ومشاكله اقتصاديا وتنمويا، وعبر مسيرة ناهضة، تغيرت صورة المجتمع التركي، وتضاعف دخل المواطن، ونهض الاقتصاد التركي وصار في عداد الاقتصادات المتقدمة عالميا، وتمكن أردوغان من ترويض الجيش والقضاء وهما من المؤسسات التي ترفع راية العلمانية التركية علي ما عداها، بينما لمع نجم حزب العدالة والتنمية داخليا وخارجيا، فقد تكاسلت أحزاب السياسات " الكمالية " التي كانت تستند إلي قوة الجيش والقضاء لتعويض ما تفقده في صناديق الانتخابات. توازي مع هذه المسيرة خفوت بريق ودور الجيش التركي علي المستويين الخارجي والداخلي . ففي الداخل، تجاوب أردوغان بقوة مع دعوة محاولة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، ومن المعروف أنه من شروط هذا الانضمام كبح جماح النفوذ العسكري في السياسة، وهو ما تمكن منه أردوغان باقتدار، وعندما اعترض الجيش علي تولي عبدالله جول رفيق أردوغان رئاسة الجمهورية في 2007 بدعوي أنه بدأ حياته السياسية باعتباره من الإسلاميين، كان الحل الذي لجأت إليه " الإدارة السياسية " هو الاحتكام إلي صناديق الانتخاب التي غمرت الأردوغانيين بفيض من أصواتها . واسترسالا مع هذه السياسة، ففي سبتمبر الماضي، طرح علي الشعب التركي الاستفتاء الذي يقضي بإمكانية محاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية، وبذلك أمكن اعتقال العشرات من الضباط، وهم في الخدمة العسكرية، علي إثر ثبوت أدلة تورطهم في التآمر علي الحكومة، وبذلك تضاءلت وتقلصت وصاية الجيش، علي السلطة السياسية إلي أدني درجاتها . في خضم هذه الثورة السياسية، تم مايقرب من 100 تعديل علي الدستور التركي، منها تعديل بقصر مهمة مجلس الأمن القومي علي رسم سياسة الأمن الوطني وتطبيقها وإبلاغ مجلس الوزراء بها، بما يعني تحويله إلي مجلس استشاري، وتعديل آخر يسمح لشخصيات مدنية بتولي منصب أمين عام المجلس، وسحب من مجلس الأمن القومي الحق في الحصول علي المعلومات والوثائق السرية بكل درجاتها عند طلبها من الوزارات والمؤسسات العامة والهيئات ورجال القانون، وتعديل يقضي بإخضاع المؤسسة العسكرية لإشراف الجهاز العسكري للمحاسبات، وعدة تعديلات تضمن إبعاد العسكريين عن عضوية مجالس التعليم، واتحاد الإذاعة والتليفزيون، وتعديل للسماح بإمكانية رفع الدعاوي القضائية لاستجواب جنرالات الجيش . وبالجملة، فإن التعديلات الدستورية التي أجراها حزب العدالة والتنمية وفرت للسلطة
السياسية الحماية من تدخلات الجيش، ومكنت السلطة السياسية من " التحكم " في شئون الجيش فيما يتعلق بالتعيينات، وقبول الاستقالات، والإحالة للتقاعد . "مخاطر" الصعود تسود الأجواء التركية بوجه عام وجهتا نظر فيما جري من " موقعة الصراع بين الجيش والسلطة السياسية " فهناك من يري أن استقالة الجنرالات ثم رحيلهم يؤكد السيطرة المتزايدة مدنيا علي الجيش، كعلامة ديمقراطية وصحية في تركيا، وهؤلاء عموما هم من ضمن أنصار أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وهناك أيضا من يري أن الحشد القضائي ضد الجيش، واستمرار التشهير بالمؤسسة العسكرية والتشكيك بها، وتآكل قوة الجيش وإضعاف نفوذه والتقدير العام له علي هذا النحو، لا يخدم الأمة التركية بحال من الأحوال، وقد يكون ذلك هو نفسه ما يدفع الجيش للعودة مرة أخري إلي ممارسة النشاط السياسي، ومن يقولون بذلك هم من الشرائح العلمانية، وحزب الشعب الجمهوري المعارض العلماني . في الوقت نفسه هناك تحذيرات من مخاطر صعود قوة أردوغان وحزب العدالة والتنمية علي هذا النحو الجاري لأنه سيأتي يوم تعيش فيه تركيا مرحلة " الحزب الواحد " وقد يقترن ذلك من وجهة نظر البعض بأسلمة زاحفة علي المجتمع، برعاية حزب العدالة والتنمية المعتدل في تركيا، فأردوغان يتمتع بسلطات غير مسبوقة علي المحاكم، والمؤسسة العسكرية، والجامعات، والإعلام، وربما يخطط للبقاء في السلطة ومحيطها حتي عام 2026 . علي كل فإنه بالنسبة للعلاقة بين الحكومة والمؤسسة العسكرية هناك عدة ملاحظات مبدئية : أولا.. لا تزال هناك مشكلات تقف بين أردوغان وما يريده بالنسبة لنفوذ العسكريين ومن ذلك قانون الخدمة الداخلية في الجيش وهو القانون الذي مثل غطاء قانونيا استخدمه العسكريون في انقلاب 1980 ولايزال يخول الجيش صلاحية التدخل في الحياة السياسية . ثانيا.. هناك ترقب لإقدام الحكومة علي فتح ملف الإنفاق العسكري لإخضاعه لرقابة البرلمان، حيث لايزال هذا الإنفاق حتي اليوم بعيدا عن الرقابة البرلمانية. هذا، فضلا عن ربط رئاسة الأركان بوزارة الدفاع بدلا من رئاسة الحكومة كما هو معمول به حاليا، وما لذلك من تاثيرات بروتوكولية. ثالثا.. لابد من استكناه "المغزي الرمزي" والدلالي الكامن وراء واقعة استقالة الجنرالات واستبدالهم . فمن ناحية، فإن قادة الجيش الثلاثة البرية والبحرية والجوية الذين تقدموا باستقالاتهم كانوا أصلا سيحالون للتقاعد في نهاية الشهر لبلوغهم السن القانونية، بينما رئيس الأركان كانت تتبقي علي ولايته سنتين . من ناحية ثانية، فإن سلوك العسكريين كشف عن عمق مشاعر " الاستياء " الشديدة بين صفوف كبار الجنرالات، ولكنهم عجزوا عن استعراض القوة العسكرية، ومنذ أيام، صدر حكم بالإدانة بحق ستة جنرالات جدد اتهموا بإنشاء مواقع إليكترونية للدعاية ضد الحكومة، بينهم قائد جيش بحر إيجة وهو ليس ممن تقدموا باستقالاتهم . وفي 8 / 8 أصدرت محكمة تركية أوامر اعتقال بحق 7 جنرالات، و7 ضباط آخرين من الرتب الأقل بتهم شن حملة دعائية ضد الحكومة عبر الانترنت . وبرغم هذا الاستياء، وكما تقول إيدن طاشباش الكاتبة في صحيفة " ميلليت تعبيرا عن عمق الضعف في موقف المؤسسة العسكرية " إن تغييرا جذريا يطال الآن الجمهورية التي أسسها أتاتورك، فصفحة الجمهورية الأولي التي تأسست في عام 1923، قد طويت نهائي حقا .. لقد كان الجيش هو أخطر ما يهدد الحكم المدني في تركيا، ولكن اليوم ثمة من يتساءل : إلي أي مدي يمكن أن تتصاعد قوة أردوغان علي المؤسسات المهمة في الدولة ؟ وهل يمكن أن يصبح الحكم في تركيا أكثر ديمقراطية مما كان عليه في ظل تأثير الجيش ؟ ويبدو أن الإجابة علي هذه التساؤلات ستبقي رهنا بما يقصده حزب العدالة والتنمية بحديثه عن " الديمقراطية التقدمية "، وحديث أردوغان عن دستور ليبرالي جديد . فالمحلل السياسي متين منير يقول إن تركيا اليوم هي بناء سياسي أزيلت منه الأسس القديمة، ولكن لم توجد بعد خطة العمل من أجل المستقبل، فنحن لا نعرف علي وجه الدقة نوع النظام السياسي الذي يحلم به أردوغان . وهذا الرأي ربما يشير بصورة ما إلي انقسامات في النخبة بين ليبراليين ومحافظين وعلمانيين ومتدينين وقوميين وإسلاميين . في هذا السياق، تبدي الفئات العلمانية مخاوف مستقبلية حول شكل تركيا الحديثة مع حزب العدالة والتنمية بكل ما يتمتع به من قوة انتخابية وثقة بالنفس، خاصة وأن لدي أردوغان طموحات سياسية، فهو يسعي إلي الحد من سلطة القضاء، وقد تمكن من تحجيم المؤسسة العسكرية، ويحاول إقامة نظام سياسي يكون فيه رئيس الدولة يتمتع بسلطات أكبر من رئيس الوزراء، ويقول البعض إن المشكلة تتمثل في أردوغان نفسه، وما يتمتع به من نفوذ وسلطات مطلقة . ويقول محلل سياسي علماني" إن الحكام في تركيا يفكرون الآن مثل سلاطين الدولة العثمانية، ويفكرون في سلطة الدولة ككل، وليس في مجموعة دقيقة من الضوابط والتوازنات، ولا يبدو أردوغان استثناء من هذه القاعدة، فهو يتحرك مدعوما بالنجاح والازدهار الاقتصادي في تركيا منذ سنوات، وأنصاره يؤكدون أن لديه أجنده ديمقراطية، ويصفقون له، وآخرون يعتقدون أن لدي أردوغان أجندة حزب محافظ، يسعي لتعزيز سلطاته في شكل سلطوي متطور، ويركز فريق ثالث علي ظواهر دينية بدأت تنتشر بين ضباط الشرطة، واتجاه عدد من المسؤلين لمحاولة منع المسكرات في الشوارع، والسياسة الخارجية التركية التي تقترب رويدا رويدا من الشرق الأوسط وتبتعد عن أوروبا والغرب. أبعاد "إقليمية" من التساؤلات التي تتردد حاليا في عدة دوائر تركية : كيف يمكن أن تستقيم الأمور في دولة تواجه أزمة ثقة بين السلطة السياسية ومؤسستها العسكرية؟ تبدو أهمية هذا السؤال في ظل دولة مثل تركيا بكل ما يحيط بها من ظروف استثنائية. فهناك مخاطر في العراق، وإيران، وما يجري في سوريا. وهنا يذكر أن بعض المصادر ذكرت أنه من ضمن أسباب الخلافات السياسية العسكرية في تركيا اختلاف توجهات الجانبين بشأن ما يحدث في سوريا تحديدا، بحدود مشتركة علي الجانبين طولها 500 ميل. ويقول مصدر صحفي تركي إن معظم قادة الجيش غير مؤيدين للموقف الحكومي إزاء أزمة سوريا وخصوصا تلويح الرئيس عبد الله جول بما أسماه" استعدادات تركية أمنية وعسكرية لجميع السيناريوهات"، وفي أحداث سوريا اقترب الجيش السوري من منطقة الحدود السورية التركية .

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.