صادق الرئيس التركي، عبدالله جول، علي قرارات مجلس الشوري العسكري الخاصة بترقيات كبار القادة العسكريين، والتي تضمنت تعيين الجنرال نجدت أوزال رئيساً لهيئة الأركان العامة، وتعيين الجنرال خيري أوغلو قائداً للقوات البرية، وتعيين الأميرال أمين مراد بيلغال قائداً للقوات البحرية، وتعيين الفريق أول محمد أرتان قائداً للقوات الجوية، وتعيين الجنرال أصلان جونر رئيساً للأكاديميات العسكرية. وجاءت هذه القرارات عقب تقديم عدد من كبار ضباط الجيش التركي استقالاتهم بعد اجتماعهم بالرئيس التركي في التاسع والعشرين من يوليو الماضي. وكان رئيس الأركان الجنرال إشيك كوشنار علي رأس المستقيلين ومعه ثلاثة جنرالات آخرين هم قادة القوات البرية و البحرية و الجوية. وقال كوشنار في تصريح مقتضب "قدمت استقالتي وفق ما أعتقد أنه ضروري". خلاف بين الجيش و الحكومة غير أن الاستقالات جاءت علي خلفية الخلاف بين الجيش العلماني و بين الحكومة التركية ذات التوجهات الإسلامية، و احتدم الخلاف مؤخراً بسبب طلب تقدم به رئيس الأركان كوشنار بترقية عدد من الجنرالات في القوات البحرية والبرية من المقبوض عليهم في قضية مؤامرة الانقلاب التي يحاكم فيها حالياً أكثر من 250 عسكرياً من بينهم 42 جنرالاً. ويواجه هؤلاء جميعهم تهماً بالتخطيط لقلب نظام الحكم بعد تولي حزب العدالة و التنمية برئاسة رجب طيب أردوغان الحكومة منذ عام 2002، و التورط في عملية "المطرقة" لقلب نظام الحكم عام 2003، وفي قضية "خلية باليوز" التي دبرت لتفجير مساجد وأماكن عبادة لنشر العنف في البلاد للتمهيد لتدخل الجيش. ومن بين الاتهامات التي وجهت لهم التآمر علي الحكومة وإنشاء مواقع علي الإنترنت للدعاية ضدها منهم نصرت طاش ديلر قائد جيش ايجه وإسماعيل حقي رئيس الاستخبارات وحفظي تشوبوكلو المستشار القانوني للمؤسسة العسكرية. ووصف الجنرال كوشنار عمليات التوقيف التي تعرض لها 173 ضابطاً ، بينهم جنرالات وأميرالات وضباط صف، بأنها تخالف القضاء. وطالب أن تتم ترقيتهم وفقاً للقانون علي الرغم من وجودهم في السجن إلي أن تنتهي محاكمتهم. غير أن الرئيس التركي رفض الترقيات كما قامت الحكومة بإحالة بعضهم إلي التقاعد. ويعد هذا الخلاف الأخير مشهداً من مشاهد الصراع المتكرر بين الجيش و بين الحكومة علي مدار التاريخ التركي الحديث حيث قام الجيش بثلاثة انقلابات في الأعوام 1960، و1971، و 1980. كما لعب الجيش دوراً هاماً في إسقاط حكومة نجم الدين أربكان في منتصف التسعينات بسبب توجهاته الإسلامية. أردوغان يدشن مرحلة تاريخية وتأتي هذه الأحداث في الوقت الذي حقق فيه حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا فوزاً سهلاً في الانتخابات التشريعية التي عقدت في شهر يونية الماضي بحصوله علي قرابة 50 في المائة من أصوات الناخبين. وتنافس في هذه الانتخابات نحو 15 حزباً سياسياً ب7492 مرشحاً بجانب 203 مرشحين مستقلين في الانتخابات. وقال رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، في كلمة النصر بعيد إعلان النتائج "نحن منتشون للفوز بصوت من بين كل صوتين. اليوم هو يوم نصر لتركيا والحرية والديمقراطية". وهذه هي المرة الثالثة علي التوالي التي يفوز فيها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان بالأغلبية في الانتخابات التشريعية، غير أن عدم حصول الحزب علي أغلبية الثلثين ستعني أنه لن يتمكن من تعديل الدستور دون استفتاء. وبذلك سيتحتم علي حزب العدالة و التنمية العمل تحقيق توافق مع الأحزاب العلمانية والكردية لوضع دستور جديد بدلاً من الدستور الذي وضع بعد انقلاب عسكري عام 1980. وقام أردوغان بزيارة مقر قيادة الجيش للتوقيع علي حركة الترقيات الجديدة في حركة نظر إليها المراقبون علي أنها تدشن فترة تحول في التاريخ التركي حيث تمكنت الحكومة المدنية من فرض سيطرتها علي الجيش الذي كان يملك سلطة مطلقة تراجعت بالتدريج مع عملية الإصلاح الديمقراطي ومع تزايد شعبية حزب العدالة و التنمية. غير أن فرض سيطرة أردوغان علي الجيش لا تعني أن هناك توافقا مع رئيس الأركان أو الجنرالات الجدد حيث أشار ولفانجو بيجولي، مدير شئون أوروبا في مؤسسة يورواسيا جروب لاستشارات المخاطر السياسية، إلي أنه سيكون من الخطأ افتراض إن أوزال مؤيدا للحكومة، وقال "ربما يكون أقل اهتماماً بالسياسة. وعلي الأرجح سينتهج أسلوباً أكثر دبلوماسية لكننا لا يمكننا أن نفترض أنه سيكون مؤيداً للحكومة". تقليص دور الجيش وعقد المجلس العسكري الأعلي في تركيا برئاسة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أول اجتماع له بعد الاستقالات الجماعية وبحضور 11 شخصاً ممن تم التصديق علي مناصبهم الجديدة. وكان اجتماع المجلس العسكري هاماً من حيث دلالته علي سيطرة أردوغان علي الموقف خاصة بعد أن نفي الرئيس التركي والقائد الأعلي للقوات المسلحة عبد الله جول أن تكون الاستقالات الجماعية قد تسببت في أزمة داخل المؤسسة العسكرية، وأكد أن "الأمور تسير طبيعياً ولا فوضي داخل الجيش ولا فراغ في سلسلة القيادة". ويأتي العمل علي صياغة دستور جديد بدلاً من دستور عام 1982 الذي وضعه العسكر بعد انقلاب عام 1980 كمؤشر آخر لتحول تركيا التاريخي إلي الدولة المدنية الديمقراطية. وقال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إن الدستور الجديد لابد أن يكون أكثر شمولاً وليبرالية وتماسكاً لأن دستور عام 1982 وضع في ظروف غير ديمقراطية. وأكد أردوغان علي ضرورة العمل علي تحقيق توافق وطني شامل حتي يلبي الدستور الجديد مطالب جميع فصائل المجتمع السياسية و الاجتماعية. وهكذا تكون المرحلة الحالية في تاريخ تركيا هي مرحلة تاريخية بكل المقاييس فهي تشهد تراجع نفوذ المؤسسة العسكرية لصالح المؤسسة المدنية. كما أنها تشهد نجاحا غير مسبوق لحكومة أردوغان ذات التوجهات الإسلامية، فهو ليس فقط أول من حقق أغلبية برلمانية في ثلاث دورات متتالية، بل حقق نجاحاً علي المستوي الاقتصادي حيث تشير الإحصاءات الرسمية إلي أن الاقتصاد التركي شهد نمواً بنسبة 11% في النصف الأول من العام الجاري. وقام أردوغان باتخاذ إجراءات قلصت من دور الجيش تدريجياً و ذلك في إطار سلسلة من الإصلاحات التي تهدف إلي زيادة فرص تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، و هو ما أطلق عليه الحلم التركي. وقام أردوغان منذ توليه رئاسة الحكومة عام 2002 بتعديل 100 مادة من أصل 170 مادة من مواد الدستور، وكان لذلك دور في تقليص تدخلات الجيش في الحياة المدنية، واخضاع العسكريين لأول مرة للقضاء المدني. ردود أفعال وصفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية استقالات الجنرالات الأتراك بأنها لحظة استثنائية في تاريخ البلاد حيث إنها تؤسس لمرحلة جديدة بدا فيها الجيش أقل نفوذاً عما كان عليه تقليدياً. بينما أثارت هذه الاستقالات قلقاً في الأوساط السياسية الإسرائيلية التي رجحت أن تشكل هذه التطورات خطراً علي العلاقات الاستراتيجية بين تركيا و إسرائيل. ووصفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية هذه التطورات بأنها تمثل انهيار آخر السدود أمام سيطرة الإسلام السياسي علي تركيا. واتسمت ردود الأفعال داخل تركيا بالإيجابية، وقال الكاتب بولنت كيشيس في جريدة "توداي زمان" تحت عنوان "جيش ضد شعبه" إن الدور التقليدي للجيش ينبغي أن يكون حماية المصلحة الوطنية لجميع المواطنين و ليس لأقلية أيديولوجية تتراوح نسبتها بين 10 إلي 15 بالمائة من مجموع الشعب، وإلا تحولت المؤسسة العسكرية إلي ميليشيا تعمل ضد الشعب. وترجع جذور الدور الذي يلعبه الجيش التركي في إرساء عقيدة أن الخطر الحقيقي الذي يواجه تركيا هو الشعب و لذلك طالما دخل الجيش في صراعات مع حكومات متعددة و فرض سيطرته علي المجتمع المدني وقلص من الحريات السياسية. ويؤكد كيشيس أننا نشهد نهاية عصر العسكر في تركيا لأن استمرار الجيش رغم كبر حجمه لا يمثل سوي الحفاظ علي أيديولوجية الأقلية. ويضيف إن هذه النهاية جاءت بفضل الإصلاحات الديمقراطية التي لا تزال وليدة رغم كونها واعدة، ويقول "عندما قدم الجنرالات الخمسة استقالاتهم بشكل غير مسبوق في أي من الدول الديمقراطية الحديثة حيث يتحكم المدنيون في العلاقات بين المؤسسات المدنية وبين الجيش، بدا أنهم يريدون الحكومة المنتخبة ديمقراطياً أن تستجيب لمطالبهم بالقوة وضد معطيات القانون. هذه الاستقالات مثلت منعطفاً تاريخياً مهما لأنها رسخت القناعات لدي الشعب التركي إن عملية الإصلاحات الديمقراطية ستتقدم بشكل أكثر سرعة عما قبل. إن الناس لديهم الآن الأمل في بناء جيش جديد يكون الضباط فيه أكثر توافقاً مع التطورات العالمية، و مع روح العصر، ومع الظروف المستجدة لتركيا الجديدة".