نختتم في هذه الحلقة القصة الكاملة لتاريخ الأصولية في تونس بالقرن الماضي، والذي نشرناه طوال الخمسة أسابيع الماضية من كتاب «الأحزاب والحرگات والجماعات الإسلامية» الذي حرره د. فيصل دراج وجمال باروت ضمن إصدارات المركز العربي للدراسات الاستراتيجية. ونواصل في هذه الحلقة عرض موقف الحركة الإسلامية بقيادة الغنوشي من حرب الخليج إضافة إلي انتهاج الحكومة التونسية بقيادة الرئيس المخلوع زين العابدين «بن علي» للحل العسكري في مواجهة حركة النهضة باعتبارها السبب الرئيسي في عدم استقرار البلاد في فترة الثمانينات وأوائل التسعينات، ثم نختتم الفصل بمجموعة التحولات التي طرأت في الحركة الفترة الأخيرة من التسعينات. في جانب الأخطاء الفكرية والسياسية، يركز الغنوشي علي غلبة النزعة الأممية باعتبار أن الإسلام أممي وإهمال خصوصيات الواقع القومي والقطري، فعوض أن تحتل فلسطين مثلا في حياتنا مكانة أكثر من أية قضية خارج حدود الوطن، وجدنا قضايا خارج حدود الوطن تحتل هذه الأهمية، ويضيف الغنوشي قائلا:«إن التفكير الإسلامي هيمنت عليه المذهبية، الذي يخرج من تشكيل التشيع والتحزب، وكان من يخرج من دوائرهم في ظلام مبين، مما يدفع إلي خلق التوترات داخل المجتمع، والرفض لكل اجتهاد، وعدم القدرة علي مسايرة العصر، وغلبته الرفض لمكاسبه، حصرها مع سيادة الأسلوب «المشيخي» في التعامل مع المسلمين، فنحن كما أري امتداد ولسنا قطيعة، ولسنا قطيعا يساق بالموروث، ويعيشه بداخله كالحيوان البليد، وعلي صعيد الفكر السياسي ينتقد الغنوشي تصرف بعض الإسلاميين الذين في ممارساتهم يخلقون اشكالية مع الديمقراطية، بالرغم من أنهم عانوا عدم توافر الديمقراطية، لذا وجب محاربة هذا الاستبداد الذي جعل أعداء الإسلام ينظرون للإسلام كأنه حكم سلطوي يحقر الجماهير، فأين لهذا الإرث الاستبدادي أن يكون مصدرا للحق، ومصدرا للشرعية فالحاكمية للشعب، وحاكمية الله تمر عبر الشعب». النقد الذاتي إن هذا النقد الذاتي الذي قام به الشيخ راشد الغنوشي يجسد بداية قطيعة مع الفكر الإخواني ، ويعطي طابع «التونسة» للحركة، وقابليتها لاستيعاب مكتسبات المجتمع التونسي التحديثية، ومحاولة طرحها كنمط خاص من أنماط الموجة الديمقراطية الثالثة في العالم، لكن علي أساس أولوية مفهوم الهوية الحضارية والثقافية. ووفق هذا المنظور، من المنطقي أن تتبلور الصراعات داخل الحركة الإسلامية الأصولية في تونس، علي أرضية احتداد التناقضات داخلها، حول المنطلقات والأهداف والأساليب والمواقف من عدة قضايا مصيرية، وعلينا ألا نري انشقاق مورو، يدخل ضمن ازدواجية الخطاب السياسي للحركة ، فمسألة الانشقاق أعمق من ذلك بكثير. ثم إن محاور الخلاف بين الجناح المتشدد داخل الحركة الإسلامية والجناح المعتدل بقيادة مورو تتمثل في المسائل التالية: أولا: الموقف من حرب الخليج، يقول الغنوشي بهذا الصدد «لقد أيدنا بطبيعة الحال العراق، ولم نؤيد نظاما معينا، وكانت لدينا تحفظات حول النظام وحول الأشخاص، ولأننا أيدنا العراق في وجه العدوان الدولي عليه، وعندما وقعت الحرب لم يكن أمامنا إلا أن نقف إما إلي جانب المعتدي أو إلي جانب المعتدي عليه، ووقفنا ضمن الموقف العام لأمتنا مؤيدين للعراق ومؤيدين حقه في السيطرة علي ثرواته وحقه في تقدمه العلمي واستقلال قراره التنموي والعسكري». بينما انتقد عبدالفتاح مورو الذي كان الرجل الثاني في الحركة «لجوء العراق إلي القوة لتسوية المشاكل العالقة بينه وبين الكويت». فضلا عن تأكيده «حق المملكة العربية السعودية ودول الخليج في حماية سيادتها وأمنها بجميع الوسائل التي تراها صالحة». ثانيا : إن المحامي عبدالفتاح مورو يعتقد أن «ليس من مصلحة تونس أن يحكمها الإسلاميون وحدهم ولا أي حزب آخر، خشية أن يقع في براثن الدكتاتورية، بل يجب أن يشارك حزبنا في عملية الديمقراطية»، ولأنه ينتمي إلي الطبقة الوسطية المدنية، ومن مواليد تونس العاصمة، يدرك جيدا أن المجتمع المدني في تونس، أكثر استعدادا من أي وقت مضي من أجل الدفاع عن القيم الديمقراطية، ضد سياسة العودة إلي الأصولية الإسلامية. ويقول مورو مضيفا:«أنا لست مثل أحزاب إسلامية أخري تعتبر أن هدفها هو إقامة الشرعية الإسلامية، بإقامة الجمهورية الإسلامية، ليس هذا دوري»، ويستطرد قائلا عن مبادرته:«إذا أوجدت المبادرة آذانا صاغية فسيتقلص التطرف حتي وإن بقي قلة من المتطرفين فإنهم سيعزلون ولن يكون لهم مجال للتأثير علي المجتمع، علماً بأن مورو صرح أكثر من مرة بأنه يرفض نهج العنف، الذي يتبعه الإسلاميون الأصوليون». إذا كان خروج «الإسلامين التقدميين» في نهاية السبعينات، قد كشف لنا جانبا من الصراع بين التجديد والسلفية الأصولية، علي صعيد الفكر والإيديولوجيا، حيث كان للصراع بمستوييه الاجتماعي والسياسي تأثير واضح فيه، فإن الصراع الجديد، والذي قاد إلي الانشقاق الثاني في صلب حركة النهضة، تركز علي نقد ممارستها السياسية والتنظيمية، ولأن المضمون الذي يريد مورو أن يعطيه للحركة الإسلامية في تونس، هو مضمون إصلاحي نهضوي، تحديثي، يقوم علي أساس فصل الحركة الدينية عن الحزب السياسي، دون أن يعني هذا فصل الدين عن السياسة وهي رؤية سياسية تحديثية، تحاول أن تتجاوز التقابل والتناقض بين الإسلامية الأصولية والليبرالية السياسية، وتعمل علي شق طريقها بواسطة تأسيس حزب جديد ، بمضمونه الحديث، في تناقض مع الحزب الديني الكلاسيكي الشمولي. ومن المعلوم أن إضفاء الطابع الليبرالي التحديثي علي مضمون الحركة الإسلامية في تونس في تصور عبدالفتاح مورو، هو في الجوهر الأعم، يمثل استلهاما وتمثلا لتجربة الحركة السلفية في المغرب، التي تطورت في صيرورتها التاريخية إلي حزب سياسي وطني، هو حزب الاستقلال ، بقيادة الزعيم الراحل علال الفاسي الذي ناضل من أجل الاستقلال وحافظ علي مقومات الشخصية المغربية العربية الإسلامية. وهكذا فإن مورو باستناده إلي نقد الممارسات الإسلامية الأصولية، وباحتمائه بالسلطة المرجعية للحركة السلفية ذات الطابع الإصلاحي الليبرالي في المغرب، يحاول أن يرفع الشوري الإسلامية، التي تعتبر ركيزة أساسية في تصور الحركة الإسلامية الأصولية في الحكم، إلي مستوي الليبرالية السياسية الغربية، لكي يوظفها في تدعيم طروحاته السياسية الجديدة ويقنع انصارا جددا بذلك. والحال هذه، فإنه من المؤكد أن يقدم الرئيس «بن علي» تنازلات معينة لهذه القوي المعتدلة، داخل الحركة الإسلامية، وأن يستغل هذه الثغرة الكبيرة داخل الحصن الاستراتيجي لحركة النهضة، لكي يكبح جماح المتطرفين فيها ويحجمه. وفي إطار هذه المواجهة الساخنة بين السلطة والنهضة والقائمة علي أرضية خيار المرحلة الجديدة، أي انتهاج سياسة «القبضة الحديدية» استطاع الرئيس «بن علي» أن يحقق نجاحا كبيرا في تعميق الانقسام بين المعارضة الإصلاحية والحركة الإسلامية، وأن يعزل هذه الأخيرة علي صعيد الساحة السياسية التونسية، بعد أن أصطفت معظم أحزاب المعارضة إلي جانب الحكم، متفهمة بذلك دوره في مقارعة تطرف الإسلاميين، الذين حملهم مسئولية توتير الأجواء، وإدخال البلاد في دوامة العنف، فالرئيس «بن علي» انطلاقا من موقعه القديم - الجديد، العارف جيدا بملف الحركة الإسلامية التونسية، درس تضاريس المعركة، وقام بخطوات تمهيدية ملموسة، بدءا من المصالحة مع المعارضة عقب خطاب 20 آذار (مارس) الماضي، وإشراكها في مداولات لجان المخطط الثامن، وأخيرا تقدم الدعم المادي لنشاط الأحزاب (80000 دولار لكل حزب). سيادة الحل الأمني انتهج نظام الرئيس «بن علي» سياسة الحسم العسكري والحل الأمني في مواجهة حركة النهضة، باعتبارها السبب الرئيسي في عدم الاستقرار الذي تشهده الساحة التونسية، وبلدان المغرب العربي، وبخاصة الجزائر، فكانت محاكمات 279 قائدا أو كادرا من حركة النهضة، في شهري تموز (يوليو) و آب (أغسطس) من سنة 1992، أمام المحاكم العسكرية التي أصدرت احكاما مختلفة، منها السجن المؤبد علي 46 إسلاميا، منهم الشيخ راشد الغنوشي. يقول الشيخ راشد الغنوشي حول هذه المحاكمة، إن الجنرال «بن علي» أراد من هذه المحاكمة تحقيق جملة من الأهداف، منها أولا: صرف أنظار الرأي العام الداخلي، والاحزاب والنقابات والنخب العلمانية عن مفردات الواقع المتأزم، وتخويفها من الشبح الإسلامي المرعب، واستدراجها من خلال ذلك إلي الالتفاف حول الجنرال، وقد حصل من ذلك قدر لا بأس به، بل مهم، ومنها ثانيا: التكفير لدي الغرب والخليج عن ذنب اقترفته في حقهم، وذلك بالانتقام من الحركة الإسلامية واتخاذها كبش فداء باعتبارها المسئولة عن الموقف التونسي الموالي للعراق، الأمر الذي اضطره لمسايرة اتجاه الرأي العام حتي لا يفلت من يده الزمام، ولقد كانت رسل الجنرال إلي الخليج وأوروبا وأمريكا لم تفتأ تردد ذلك لدول التحالف من خلال سيناريو المؤامرة، لأن هذا الطرح مفيد علي الصعيد الداخلي حتي تلتف النخبة العلمانية حوله لأنه هناك خطر أصولي وأن المنقذ هو الالتفاف حول الرئيس «بن علي» وتأجيل قضايا حقوق الإنسان وقضايا الديمقراطية والعدل الاجتماعي، ومفيد له علي الصعيد الخارجي حتي يحرك العصاب الغربي - عصاب الحقد علي الإسلام- من أن هناك أصولية توشك أن تقوم علي حدود أوروبا وفي مواجهتها وخاصة مع اندلاع البركان الإسلامي في الجزائر، هذا الطرح مفيد في تحريك هاجس الخطر الغربي واستجلاب القروض والمنح والاستثمارات، وأيضا حتي تغض المؤسسة السياسية الغربية نظرها عن استغاثات وطرح منظمات حقوق الإنسان داخل الغرب نفسه علي ما يجري في تونس، فلا تجد لتقارير منظمة العفو الدولية صدي لهذه المؤسسة السياسية الغربية. لماذا؟ لأن الذي يقمع ويضرب هم الأصوليون، وهؤلاء الأصوليون ليسوا بشرا، بل هم خطر علي الغرب! هم الخطر الذي تلوح به الأنظمة العربية الفاشلة وحتي نظام العصابات الصهيونية، لابتزاز الدعم الغربي وخاصة بعد زوال الخطر الشيوعي، إن لهذه الأنظمة رسالة تستحق من الغرب تمويلا: إيقاف الزحف الأصولي الموهوم. أدت سياسة الحل العسكري والأمني منذ عام 1990 إلي تعزيز قبضة السلطة علي المجتمع المدني، مع أن حركة النهضة أبدت استعدادا نظريا وعمليا للتحول إلي طرف من أطراف المجتمع المدني، إذ تتميز بانتمائها للإسلام الحديث، وتبنت نهجا سياسيا متكيفا مع الظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية للمجتمع التونسي، وخصوصية ثقافته السياسية، المتأثرة كثيرا بالثقافة الفرنسية، فقد تبنت الفكرة الديمقراطية، واعترفت بقيم التعددية والتسامح والحرية، لا باعتبارها كجزء من الحضارة الغربية بل كجزء من الموروث العام، وطورت فكرها وممارستها في اتجاه اختيار طريق تونسي إلي الإسلام والحداثة، يقوم علي بلورة عقل إسلامي نقدي يتعايش حتي مع أشد خصومه العقائدين كالشيوعيين، وعلي أرضية مشتركة من احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان، واحترام هوية البلاد العربية الإسلامية. ومن أجل تبديد الشكوك المناوئة للإسلام السياسي، ما انفك الشيخ راشد الغنوشي يؤكد انحياز حركته للمبادئ الديمقراطية الحديثة، وأن الخيار الديمقراطي القائم علي التخلي عن أي نوع من أنواع الاحتكار للإسلام والحقيقة، أو أي نوع من أنواع الوصاية علي الشعب هو اختيار استراتيجي لحركته، وليس اختيارا تكتيكيا ظرفيا يتم التخيلي عنه في أقرب فرصة مناسبة. وأن حركته ليست لها أي مشكلة أساسية مع العلمانية بالمعني الغربي، التي تضمن حرية العقل، وحرية الصحافة، وحرية الشعب في أن يكون هو السيد الذي يصنع القانون، وتبني المجتمع المدني، وتحقق المساواة القانونية بين الناس، وإنما هي تتناقض مع العلمانية بالمعني السياسي المضاد للدين، وعلي الرغم من المبادرات والتنازلات التي قدمتها حركة النهضة طيلة عقد الثمانينات، إلا أنها لم تحظ بالاعتراف القانوني كحزب سياسي ، وظلت السلطات التونسية، ولا تزال تعتبرها العدو الأخطر للنظام القائم، وللمجتمع المتمدن. استبعاد المثقفين إن النخبة السياسية الحاكمة والمسيطرة علي جهاز الدولة، استغنت منذ وقت بعيد عن رأي المثقفين والسياسيين المعارضين، ولكنها استقطبت فئة العلمانيين من الماركسيين، واعتبرت الإسلاميين من حركة النهضة غير «ديمقراطيين» علي الإطلاق، وأن آراءهم «الأصولية» معادية للمجتمع المدني، والديمقراطية، مثلهم في ذلك مثل نظرائهم من الحركات الإسلامية التي يشتركون معها في البنية الثقافية والإيديولوجية ذاتها. وفي الواقع ان المجتمع المدني لا يمكن أن يوجد بشكل فعال ومتفاعل إلا بوجود دولة الحق والقانون التي تستمد مشروعيتها السياسية التاريخية من تصويت المواطنين المكونين للمجتمع المدني وهذا التعاقد بين دولة الحق والقانون والمجتمع المدني الحديث يشكل تطورا تاريخيا أدي في القرن الثامن عشر إلي إحداث قطيعة معرفية ومنهجية مع النظام الثقافي المعرفي القديم، ومع التصور الإلهي للقانون، وإلي الخروج كليا من التراث الديني، وإعلان الدولة البرجوازية العلمانية حتي في تلك البلدان المتحالفة مع الغرب. لهذا فإن النقد الإيديولوجي السياسي المباشر الذي تمارسه النخبة العلمانوية التي تتألف من الطبقة الوسطي المدينية ، ومن المعارضة المساندة للنظام، فضلا عن الطبقة السياسية الحاكمة، لإنكار صفة الديمقراطية علي الحركة الإسلامية التونسية، وإقصائها من الساحة السياسية التونسية، وإبراز مدي عمق التناقض بن الصيغة الإسلامية للتنظيم السياسي والثقافي والمجتمعي مع مقولة المجتمع المدني، والتلويح بشبح الجزائر المجاورة، هذا النقد الإيديولوجي يعطي تفسيرات خاطئة براقة تفضح مدي ما في هذه الفكرة البروتوبلازمية عن المجتمع المدني من بساطة ساذجة، وكيف أن فكرة المجتمع المدني من دون فكرة الدولة «أي دولة القانون» هي فكرة غير قابلة للاستعمال سوسيولوجيا، بل كيف أنها فكرة غير قابلة للتغيير فيها علي حد قول برهان غليون. وفي إطار نقده لنظام الرئيس «بن علي» ومقولاته حول المجتمع المدني، والعلمانية، يقول الشيخ راشد الغنوشي :«بورقيبة عدو يحمل مشروعا ثقافيا واضحا ومشروعا معاديا ، ولكنه واضح، «بن علي» ليس له مشروع ثقافي، يريد أن يحكم بالاعتماد علي أسوأ ناس في تونس، ما عنده مشروع، مشروعه فقط أن يحكم بالاعتماد علي السيئين وتقريب المنحطين وقمع الأحرار والمصلحين ، بورقيبة دكتاتور ولكنه يحمل مشروعا، وبورقيبة زعيم إذا ما مضي في طريق يمضي فيه إلي النهاية، «بن علي» رجل أمن حذر، متردد مزاجه بوليسي، لا هو قادر أن يعمل الحرب ، ولا هو قادر علي السلم، وظل يحدث بعض التنفيس كلما احتقن الأمر ثم يعود إلي الانغلاق، وهكذا يراوح في مكانه، ولأن هناك فراغا ثقافيا، فقد استطاع المفسدون أن يحتلوا هذا الفراغ الثقافي، أناس يحملون مشروعا ثقافيا معاديا للعروبة والإسلام.. وهو غير قادر أن يفهم هذا المشروع أصلا، فضلا عن أن يقيمه، لأن الأمر بالنسبة إليه أن يحكم، ثانيا أن يقمع الإسلاميين وأن يقمع المعارضات، أن يقمع كل من اعتقد أو حمل علي أن يعتقد أنه الخطر علي حكمه، بينما بورقيبة عدو، وعدو بجدارة، وأنا أحترم عدوي عندما يكون عنده مشروع ومستعد أن يضع مصيره ومستقبله من أجل مشروعه. ويضيف الشيخ راشد الغنوشي، ليس الصراع في تونس بين حركة النهضة وبين نظام الرئيس «بن علي» وحسب، هذا شكله وهذا منطق الخطاب الرسمي، ان هناك صراعا ما بين حركة أصولية تدعو إلي العودة إلي القرون الوسطي وبين نظام ديمقراطي تقدمي، لكن حقيقة الصراع أنه مع نظام يتمخض يوما بعد يوم ليكون آلة قمع، ليس من خلال الشرطة فقط ، وإنما من خلال الإعلام والتعليم والثقافة والاقتصاد والدبلوماسية، الدولة التونسية قد تحولت مع مرور الزمن ومع تقلص قاعدتها الشعبية، وهذا هو منطق الأحداث، إلي مجرد جهاز قمع معقد والحاكم كما هو معلوم ينعكس تكوينه وثقافته علي المؤسسات التي تعمل علي الأقل، تحت إمرته ويختار من الرجال ما يتناسب مع تكوينه، لذلك إذا حكم الأديب أو المفكر تنمو الحياة الفكرية والحياة الثقافية، وإذ حكم الاقتصادي يمكن أن تمنو المشاريع الاقتصادية ومنطق المال ، وإذا حكم الشرطي من الطبيعي أن تنمو الأجهزة الأمنية وتتطور وأن تصبح تقارير الأمن هي المؤسس للقرار السياسي والقرار الثقافي وأن تنعكس هذه الروح حتي علي الشعب ويصبح الرجل يتجسس علي أخيه وأبيه والزوج علي زوجته وينتشر الرعب بين الناس وتنعدم الثقة، أما حقيقة الصراع فهو بين نظام بوليسي متغرب يتجه بفعل آليات كثيرة إلي المزيد من العزلة وبالتالي إلي مزيد من القمع وتفسيخ المجتمع وتدمير مؤسساته للسيطرة عليه وبين شعب يطمح كسائر الشعوب الأخري إلي عدالة وإلي تنمية وحرية وديمقراطية وحقوق إنسان، وإلي الالتحام بهويته العربية الإسلامية، وإلي اصطباغ الحياة بالصبغة الأخلاقية، إلا أن سياسة ضرب حركة النهضة وتجفيف ينابيعها أثمرت عن تبني السلطة لخطاب جديد يعزز تفوقها ، وهو عدم طرح أي موقف مؤيد أو معارض للإسلاميين بعد الضربة، أي تحويلها إلي موقع المسكوت عنه، مع أنه تم خرق هذه السياسة فعليا في تشرين الثاني (نوفمبر) 1990 حين اعترف الرئيس بإمكانية العفو عن المعارضين، ومعظمهم من الإسلاميين، وهو ما جدد الحديث التونسي الداخلي عن «المسكوت» عنه بعد ضربه. التحولات تشهد الحركة الإسلامية التونسية تحولات حقيقية غاية في الجذرية، هيأت لها أوضاعاً داخلية وخارجية، وتبلورت في الأطروحات الإسلامية الجديدة المستنيرة، التي صاغها المفكر والفيلسوف الإسلامي راشد الغنوشي، في الكتب التي ألفها تخص بالذكر منها الحريات العامة في الدولة الإسلامية، أو في الندوات الفكرية المتخصصة، ومؤتمرات الحوار القومي/ الإسلامي، أو في الصحف والمجلات العربية، والتي تضمنت هوية الحركة الإسلامية التونسية، باعتبار حركة النهضة حاملة لمشروع إسلامي ديمقراطي مستنير مثل في الزمن العربي الراهن ولا يزال نقله نوعية في الحركة الإسلامية عامة. فحركة النهضة أصبحت تمثل تيارا عصريا ومتناميا داخل الساحة الإسلامية العربية، وخلال ربع قرن من النضال تمكنت حركة النهضة من اسلمة الحداثة، فأكبر إنجاز للحركة الإسلامية التونسية، هو في نقلها الإسلام إلي عالم الحداثة ، ونقل الحداثة إلي عالم الإسلام، وتجسيد العلاقة بين هذين العالمين اللذين ظن أصلا أنهما لا يتصلان. وتبنت الحركة الإسلامية التونسية استراتيجية سياسية قوامها اعتماد المنهج السلمي والعلني في التغيير، ورفضها استعمال العنف وسيلة لحسم الصراعات السياسية والفكرية ومنهجا للوصول إلي السلطة أو التمسك بها باعتماد وسائل الضغط السلمية ، والخطاب المعارض المعتدل والمسئول، وهي تؤمن بأن الحوار الوطني هو الكفيل وحده بضبط العمل السياسي الديمقراطي والتوصل إلي معالجة وطنية شاملة. كما تؤكد حركة النهضة بأنها لا تحتكر الصفة الإسلامية، وإنما تقدم مشروعا اجتهاديا بشريا في معالجة أزمة المجتمع، بعيدا عن الاختزال الحزبي أو السياسي للمشروع الحضاري والنهضوي الشامل الذي يستدعي مساهمة كل تيارات المجتمع لبلورته وإنضاجه. وتناضل حركة النهضة من أجل تحقيق الحريات العامة والخاصة مثل حرية الرأي والتعبير والتجمع والصحافة، واحترام حق الأغلبية في الحكم والأقلية في المعارضة عبر مؤسسات تنبثق عنها الشرعية والتداول علي السلطة، كما تطالب حركة النهضة بضرورة بناء مجتمع مدني حديث بالتلازم مع دولة الحق والقانون، وبرفع وصاية الأجهزة الأمنية علي الحياة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، واحترام حرية الصحافة وصيانة استقلالية القضاء، والمنظمات الشعبية الوطنية وحيادية الدولة، والتصدي لمظاهر التطبيع مع إسرائيل، والدفاع عن التضامن المغاربي والعربي الإسلامي والتوجه الوحدوي، وتظهر نفسها نهائيا علي أنها قوة إسلامية متكيفة مع روحية «الموجة الديمقراطية الثالثة» في العالم ومبادئها بل وكإحدي قواها.