أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    مصر وجنوب السودان.. خطوات هامة نحو تعاون مثمر في مجال المياه    المقاومة العراقية تستهدف قاعدة جوية إسرائيلية في مدينة إيلات    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    عاجل.. مقتل امرأة وإصابة 24 في قصف روسي على خاركيف ومحيطها    سيف زاهر يكشف موعد تحديد الرباعي المشارك ببطولات الأندية الإفريقية    أحمد سامي: كنا قادرين على الفوز ضد الزمالك بأكثر من هدف والبنا لم يكن موفق    حملات تموينية على المخابز السياحية في الإسكندرية    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    أنغام تتألق ب "فنجان النسيان" في حفلها ب دبي (فيديو)    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    الجرام يتجاوز ال3500 جنيه.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم في الصاغة بعد الارتفاع    رضا عبد العال ينتقد جوزيه جوميز بعد خسارة الزمالك أمام سموحة    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    طاقم حكام مباراة بيراميدز وفيوتشر في الدوري    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    سعرها صادم.. ريا أبي راشد بإطلالة جريئة في أحدث ظهور    بإمكانيات خارقة حتدهشك تسريبات حول هاتف OnePlus Nord CE 4 Lite    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمطار خفيفة على المدن الساحلية بالبحيرة    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكومة «بن علي» تقدم تنازلات حقيقية من أجل عزل الجناح المتشدد في الحركة الإسلامية
نشر في القاهرة يوم 08 - 02 - 2011

نواصل في هذه الحلقة نشر جزء آخر من كتاب «الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية» الذي حرره د. فيصل دراج وجمال باروت ضمن إصدارات المركز العربي للدراسات الاستراتيجية وبالتحديد الفصل الخاص بنشأة الحركة الإسلامية وتطورها في تونس. وكانت حلقتا الأسبوعين الماضيين تتحدثان عن جذور الحركة الإسلامية في تونس وولادتها أواخر الخمسينات وصراعها الايديولوجي مع البورقيبية التحديثية، خصوصاً وأن تلك النخبة المثقفة ذات النشأة الزيتونية (نسبة إلي مسجد الزيتونة) الدينية ظلت تفصلها هوة تاريخية عن التكوين الثقافي والايديولجي البرجوازي كما باتت عاجزة تاريخيا وسياسيا عن تقديم خطاب يتلاءم مع الطموحات الجديدة لفئات المجتمع المدني التونسي. وقد أثرنا في نشرنا لهذا الجزء الوثب علي جزء خاص بأصول الاتفاق والصراع بين البورقيبية والحركة الإسلامية ودخول اليسار في حالة تشرذم وانهيار بدأ تأثيره من الجامعة ووجود حالة من الفراغ التي أدت إلي ركوب الحركة الإسلامية علي عرش الجامعة في تونس، إضافة إلي خروج بعض قادة التنظيمات الإسلامية من السجن لتبدأ مرحلة الصدام مع السلطة قبيل الانقلاب العسكري الذي تزعمه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. اعتبرت الدوائر السياسية التونسية والعربية والدولية التي تابعت موقف السلطة من المعارضة عموما وعلي الإسلاميين خصوصا في ربيع 1987، منذ الإطاحة بمحمد المزالي، وصدور الأحكام المختلفة علي الإسلاميين التسعين أن تونس قد دخلت في مرحلة جديدة، مع صعود رجل تونس القوي الجنرال «زين العابدين بن علي» الذي استطاع أن يحسم الصراع المركزي داخل السلطة السياسية، في السابع من نوفمبر 1987، ويبدو أن هذا الانقلاب كان استباقا لانقلاب فكرت به مجموعة إسلامية قريبة من «حركة الاتجاه الإسلامي» وتضم عناصر مدنية وعسكرية ، وحددت لذلك تاريخ الثامن من نوفمبر 1987، وبررت ذلك بشبح الإعدام الذي بدأ يخيم علي الساحة التونسية، والذي كان سيشمل العديد من العناصر القيادية في «حركة الاتجاه الإسلامي» و«أنه أمام إصرار الرئيس علي حكم الإعدام لم يبق لنا إلا حل واحد هو التفكير في الإطاحة به». ولكن استلام الرئيس بن علي للسلطة السابع من نوفمبر أبطل خطة المجموعة الإسلامية، وعرفت هذه المجموعة فيما بعد ب«المجموعة الأمنية». لقد تناولت معظم التعلقيات الساسية العربية والدولية مجموعة الإجراءات السياسية والدستورية المتخدة من طرف الرئيس بن علي منذ وصوله إلي السلطة وحتي المؤتمر الاستثنائي للحزب الحاكم والذي عقد في شهر يوليو 1988 تم فيه تغيير اسم الحزب إلي «التجمع الدستوري الديمقراطي» وقبل الرئيس بن علي رئاسة الحزب، وأعلن في هذه المناسبة عن ضرورة التعددية الساسية، وعن تعميق المسار الديمقراطي، ودعا الحزب إلي الانفتاح علي الطاقات البشرية والكفاءت الشابة وكان من بين العناصر التي التحقت بالحزب بعض العناصر اليسارية التي لعبت دورا مهما في التنظيمات الماركسية اللينينية التونسية «تنظيما الشعلة والعامل التونسي» وداخل الحركة الطلابية، نذكر منهم زهير الذوادي الذي شغل منصب مستشار الأمين العام للحزب ومنصف خوجة رئيس تحرير صحيفة الحزب : التجديد وخميس كسيلة ممثل الحزب في رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، وأصبح لهذه العناصر اليسارية دور مهم في تقرير كيفية معالجة المسألة الإسلامية، ويعتبر موقف اليسار التونسي عموما من الظاهرة الإسلامية موقفا إيديولوجيا صارما، وليس موقفا سياسيا يخضع لموازين القوي في الساحة السياسية، أو يتحدد بالمواقف السياسية والاجتماعية للحركة الإسلامية. تعزيز الفريق الأمني وخاض الرئيس بن علي معركة تصفية الحرس القديم المتنفذ علي صعيد الحزب والدولة، مستفيدا في ذلك من الانحسار الشعبي للبورقيبية وتضاؤل قاعدتها. وبدون شك فهي معركة شرسة بين «الذئاب الشابة» الموالية ل«بن علي» والداعمة لروح التغيير والتجديد في البلاد، والطامحة للاضطلاع بدور قيادي علي صعيد تحمل المسئوليات الحزبية والحكومية، وبين الشيوخ المحافظين الذين يدافعون عن مصالحهم الطبقية، وامتيازاتهم الاقتصادية، والاجتماعية المختلفة في معظم محافظات وأقضية تونس، إن هذه المعركة لم تتخذ طابعا إيديولوجيا أو سياسيا، ولا هي متمحورة حول الاختيارات الأساسية للنظام، وإنما تعكس الصراع بين جيلين مختلفين بعقليتيهما وأسلوبيهما في ممارسة الحكم، داخل المدرسة البورقيبية عينها. وانسجاما مع هذه الرؤية بدأ «بن علي» يعزز فريق العسكر في قمة السلطة، وتمثل ذلك بتكوين مجلس الأمن الذي يضم القيادات السياسية والعسكرية المهمة المسئولة عن الأمن الداخلي في البلاد، واستقطب «بن علي» العديد من الخبرات العسكرية، والأمنية إلي أجهزة السلطة، فنجد منهم الوزراء ووكلاء الوزارات وبعض المسئولين عن القطاعات المهمة، نذكر منهم : الحبيب عمار، عبدالحميد بن الشيخ، الغنروعي، السرياضي، ومصطفي بوعزيز، وقام الرئيس «بن علي» فعلا بجملة من الإجراءات السياسية، تمثلت في الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين السياسيين الذين كانوا في غالبيتهم العظمي من الإسلاميين. وكان لإطلاق سراح راشد الغنوشي في شهر مايو 1988 الأثر الإيجابي علي الساحة الوطنية، وتم طي ملف الشخصيات السياسية التي حاكمها بورقيبة أو أبعدها في السنوات الأخيرة والسماح بالعودة لعدد من القادة المنفيين، مثل أحمد بن صالح، وصدور قانون جديد للأحزاب كإثبات واضح لإقرار التعددية السياسية، وأصبحت الحريات العامة تستند إلي قانون يضمن حرية الصحافة، وقانون يضمن حرية تكوين الجمعيات، ووقع إلحاق بعض الرموز في الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بالفريق الحكومي الجديد، وتحصل الفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية علي الوجود القانوني. واعتبرت هذه الاجراءات السياسية ذات الطابع الليبرالي بمنزلة «طي صفحة حكمة الفرد وترسيخ الديمقراطية في البلاد» وهي في الحقيقة والواقع إجراءات ساعدت علي تثبيت ركائز النظام وتجديده في طور تقادم البورقيبية، ذلك أن الدارس لقانون الأحزاب يلمس بكل وضوح ضياع الحد الفاصل بين التعددية الحزبية وانعدام الأحزاب، بمقدار ما أكد النظام علي فلسفته ورؤيته الإيديولوجية والسياسية وعلي وضع شروطه السياسية والتنظيمية، فيما يتعلق بالتعددية السياسية وبتأسيس الأحزاب، وطرق ممارسات أحزاب المعارضة السياسية، التي تعتبر أن المحافظة علي النظام، ونبذ العنف بكل اشكاله واحترام الدستور وعدم الولاء والارتباط بالخارج، هو الأساس لتوليد التعددية الحزبية المشروطة في تونس، حيث يتوجب علي جميع المعارضات المتعددة أن تتقيد بها، ومن هنا لم تكن الإجراءات التي اتخذها «بن علي» بالضرورة مؤشرا علي تغيير جوهري في طبيعة السلطة، بقدر ما كان تغييرا في أساليبها، إلا أن هذه الإجراءات جذبت معظم الأحزاب السياسية بما في ذلك الحركة الإسلامية. الحركة الإسلامية والتغيير لما كانت الحركة الإسلامية تعتبر القطب الرئيسي في المعارضة التونسية، في العهد البورقيبي ، فإن موقفها من سلطة السابع من نوفمبر يعتبر حاسما لجهة قراءة مستقبل العلاقة بين الطرفين ، وبالفعل أعلنت حركة الاتجاه الإسلامي مساندتها الفورية لبيان السابع من نوفمبر، واعتبرت أنه أدخل البلاد في «طور جديد سيقطع مع أساليب الحكم الفردي، ويفسح المجال لكل ابناء تونس ليسهموا في تحسين مستقبلها بعيدا عن الضغائن والأحقاد». ولم تكتف حركة الاتجاه الإسلامي «بالمساندة القولية» بل تعدت ذلك «لتعبئ أنصارها في دعم التجربة الجديدة ، فعاد الهدوء إلي الشارع واختفت كل مظاهر الاحتجاج. وفي إطار استيعاب «حركة الاتجاه الإسلامي»، وعزل الجناح المتشدد فيها، قدمت الحكومة تنازلات حقيقية، تمثلت في جملة من الخطوات، منها: رد الاعتبار للنواحي الدينية في تونس، وخاصة إعادة فتح الكلية الزيتونية وتحويلها إلي جامعة زيتونية نسبة لجامع الزيتونة، وتأكيد الانتماء العربي الإسلامي لتونس عبر تنشيط التعاون مع الدول العربية في السعودية والخليج، وإذاعة الأذان وخطب الجمعة عبر أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، والقيام بحملة أخلاقية عامة ضد التسيب والاستهتار. هنالك ثلاث قضايا ستحدد مصير العلاقة بين السلطة الجديدة وحركة الاتجاه الإسلامي: الأولي: «ملف المجموعة الأمنية»، وقد أوضحت حركة الاتجاه الإسلامي موقفها من هذه المجموعة، حيث ادعت أنها لابد أن تري ضمن أوضاع الإرهاب والقمع واسعة النطاق التي قامت بها السلطة وأدت إلي اعتقال آلاف المواطنين وتقتيل العديد منهم وتكريس الانتهاك لأبسط قواعد حقوق الإنسان، مما أدي إلي انسداد الأفق وانقطاع الأمل والتهديد بانهيار الدولة والمجتمع والإخلال بالأمن الداخلي، خاصة بعد أن أصر الرئيس بورقيبة علي إعادة محاكمة قيادة حركة الاتجاه الإسلامي وإعلانه العزم علي إعدام العشرات منهم، وبعد توضيح إطار «القضية الأمنية» حاولت حركة الاتجاه الإسلامي، أن ترد علي تهمة التسرب إلي المؤسسات العسكرية والأمنية، فاعتبرت أن تنامي الظاهرة الإسلامية وانتشار الوعي الديني قد جاء ردا صحيحا علي الغزو الثقافي والاستلاب والإلحاق الحضاري وتكريسا للذات والهوية، فكان انتشار هذه الصحوة في المجتمع بكل فئاته وهياكله، ومن هنا لم يكن هناك تسرب مخطط إلي دواليب الدولة واختراق لمؤسساتها، وإنما هو امتداد طبيعي، وأكدت حركة الاتجاه الإسلامي أنه رغم تفهمها للملابسات والظروف التي أحاطت بهذه القضية فإنها تعتبر «جنوح عناصر ذات ميول إسلامية إلي التنظيم داخل الهياكل الرسمية للدولة، ومشاركة مناضلين من حركتنا في ذلك، أمرا مخالفا لخط الحركة النضالي واختياراتها الاستراتيجية في الدعوة والعمل السياسي» ووجهت الدعوة إلي سلطة السابع من نوفمبر ل«توخي الحكمة في معالجة هذا الملف باعتباره من مخلفات الماضي الأليم، وأن تتجنب كل ما من شأنه أن يعقد القضية، أو يترك وراءها أثرا سلبيا علي مستقبل بلادنا». وعلي الرغم من هذه المواقف الحركية، إلا أن السلطة التونسية طلبت توضيحا رسميا وموقفا واضحا في هذه المسألة، فكان رد حركة الاتجاه الإسلامي في السابع عشر من يوليو 1988، في حديث خاص للشيخ راشد الغنوشي أجرته معه جريدة الصباح، حيث صرح بأن القضية الأمنية لا تندرج ضمن توجهاتنا، ولا تلزمنا، وهي الآن في نظر العدالة وانتهي الحوار في ملف المجموعة الأمنية إلي إطلاق سراح كل أفراد المجموعة استنادا إلي قرار العفو الرئاسي الذي صدر في حقهم، وفي هذه الأثناء كانت السلطة تقوم بعملية تطهير واسعة النطاق لكل أصحاب الميول الإسلامية في المؤسسة العسكرية والأمنية، وتسرح العديد من العسكريين والعاملين في النظام الأمني. الثانية: معركة الاعتراف القانوني بالحركة الإسلامية، من أبرز قضايا الصراع السياسية الأساسية التي شغلت الرأي العام التونسي والمعارضة الديمقراطية، ومازالت تشغلهما، قضية النظرية السياسية الإسلامية حول علاقة الدين بالدولة، في رؤية وتصور الحركة الإسلامية، خصوصا وأن الحكم في تونس، ومعه الأحزاب السياسية المعارضة، يعتبر أن الحركة الإسلامية مخترقة بعقائد تعصبية، وتتحمل مسئولية المواصلة التناقضية بين الإيديولوجيا/ الإسلام باعتباره دينا إنسانيا وعالميا متسامحا، وبين ترجمتها علي محك الواقع المجتمعي في تصور الإسلام السياسي لبناء الدولة الإسلامية، التي يري الرئيس بن علي أنها متناقضة جذريا مع المجتمع المدني والديمقراطية، من هنا رفض بن علي المطالب المتعددة للحركة الإسلامية التونسية للاعتراف بوجود سياسي لها، وبالتالي إعطاءها الترخيص القانوني للعمل الحزبي بشكل شرعي، مبررا ذلك أن القانون الخاص بتأسيس الأحزاب يمنع عليها الاستناد إلي الدين أو العرق أو اللغة أو المنطقة، فضلا عن أن البند السابع من قانون الأحزاب ينص صراحة علي ضرورة نقاوة أعضاء الحزب المزمع إقامته من أية أحكام قضائية. حركة النهضة وكانت السلطة التونسية قد وضعت شروطا للاعتراف بالحركة الإسلامية، منها تغيير اسم الحركة حتي يصبح ملائما لقانون الأحزاب وتحديد موقف واضح من مجلة الأحوال الشخصية ومن المجتمع المدني، وقبلت حركة الاتجاه الإسلامي بتغيير اسمها، فصارت تحمل اسم «حركة النهضة» واعتبرت أن مجلة الأحوال الشخصية في عمومها اجتهادا إسلاميا. وورد في رسالة وجهها السيد حمادي الجبالي عضو المكتب التنفيذي لحركة الاتجاه الإسلامي إلي
السيد الهادي البكوش الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء في الثامن والعشرين من مارس 1988 «نحن حزب سياسي ذو أبعاد حضارية شمولية، سيكون له برامجه وأهدافه المعلنة والواضحة، يخضع لنفس الواجبات ويتمتع بنفس الحقوق مع بقية الأطراف السياسية، ويعمل في إطار الشرعية الدستورية، ويحترم القوانين المستمدة من الدستور ، منهجه سلمي وأسلوبه الترفع عن كل شيء، أفكاره مستمدة من روح الإسلام ومبادئه الخالدة ، متفاعل مع كل الأفكار متزودا من نتائج حضارات الأمم من علم ومعرفة ومبادئ صالحة» ، وبعد هذا التوضيح يتساءل عضو المكتب التنفيذي لحركة الاتجاه الإسلامي أين إذن الضرر، وأين العيب والخطر المحدق الذي يجب محاصرته والتصدي له، إن هذه القاعدة الفكرية وهذه المبادئ هي عينها روح الدتسور وإجماع الأمة، فكيف تقلب الموازين، فتصبح الدعوة إلي الخير والإصلاح دعوة للفتنة والتفرقة، يجب مقاومتها، إليس العكس هو الصحيح؟». وبعد هذه المواقف الواضحة من جملة القضايا الساخنة علي الساحة الوطنية، تقدمت حركة النهضة بطلب الحصول علي التأشيرة القانونية في بداية شهر فبراير 1989 . شهدت حركة النهضة تحولا حقيقيا في خطابها الإيديولوجي والسياسي عبر تبنيها قضايا جماهيرية، مثل الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروة، والتأكيد علي الهوية العربية الإسلامية وترسيخ التجربة الديمقراطية من خلال الاعتراف بحق الاختلاف والتنوع وإرساء دولة الحق والقانون حين يقول الغنوشي في هذا الموضوع:«إن مثل هذا الاختلاف في البرامج والتنافس في خدمة البلاد ضروري ومقوم لا غني عنه لإرساء الديمقراطية الحقيقية المتوازنة والحيوية» وفضلا عن ذلك يؤكد الغنوشي أن الديمقراطية المعاصرة هي الأنسب لحركته، لأن البنية التنظيمية للإسلاميين أصبحت مستقطبة من الأعضاء المتعلمين في الجامعات التونسية والغربية، وهؤلاء ينتمون إلي الفئات الوسطي في المجتمع ويتمتعون بمستوي ثقافي وفكري حديث كما يعملون جنبا إلي جنب مع زملائهم من العلمانيين والديمقراطيين الآخرين في مختلف المؤسسات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والإنتاجية .... إلخ. ومع كل ذلك ظل ينتاب السلطة شكوك قوية لجهة مضمون هذا الخطاب الإسلامي الجديد، الذي يعبر في نظرها عن وجود مواقف تكتيكية ذات معايير مزدوجة من قضية التداول السلمي للسلطة، وضمانات التعددية السياسية، والحريات المدنية وكيفية احترام الحريات السياسية احتراما كاملا لا لبس فيه، ومسألة شرعية الدفاع عن «شرعية» مؤسسات النظام الدستوري الحاكم، والموقف من قضية الأحوال الشخصية، وهي الشكوك التي تري فيها سلطة السابع من نوفمبر استحالة التحاور الجاد والمسئول مع «المشروع الإسلامي العقلاني والمستنير والديمقراطي» كما توصلت إليه حركة النهضة، فالسلطة التونسية لم تمنح حركة النهضة التأشيرة القانونية لأسباب قانونية محضة، وإنما لأسباب سياسية بالدرجة الأولي ومنها الموقف الغامض لحركة النهضة من شرعية الدولة المدنية في تونس، وهل موقف النهضة من الدولة التونسية الآن هو موقف إصلاح أم موقف تأسيس؟ انتهاء شهر العسل الثالثة: شكلت الانتخابات الاشتراعية في 2 ابريل 1989 منعرجا حاسما في علاقة رئيس الدولة بحركة النهضة ، حيث انتهي شهر العسل بينهما ، حين كانت حركة النهضة ترمي جام غضبها ونقدها بشكل رئيس علي «التجمع الدستوري الديمقراطي» ومؤسسات الحكم، مستثنية الرئيس، فالإسلاميون كانوا يميزون بين مسعي بن علي نحو عملية التغيير الديمقراطي ولو في إطار فوقي وبين موقف «التجمع الدستوري» الذي يري أن «التغيير حاصل في إطار التواصل» باعتبار أن حزب التجمع هو «وعاء التغيير» والإطاحة ببورقيبة جاءت لإنقاذ بورقيبة من نفسه بحسب قول الأمين العام للتجمع الدستوري عبدالرحيم الزواري. تقدمت القوائم المستقلة المدعومة من حركة النهضة في 20 دائرة انتخابية من أصل 25 ، وأظهرت حركة النهضة قدرة علي التعبئة وبرهنت علي شعبيتها خلال الحملة الانتخابية، بهدف ممارسة الضغط علي السلطة ، من أجل الاعتراف بها كحزب قانوني. غير أن مرشحي القوائم المستقلة المدعومة من حركة النهضة وقعوا في أخطاء عديدة كان لها أثر بالغ علي المواقف الرسمية للحركة، وخاصة فيما يتعلق بمجلة الأحوال الشخصية وبموضوع المرأة في الإسلام ودورها في المجتمع، فقد شملت القوائم المستقلة علي عدد من العناصر التي لا تحمل قناعات الحركة، فضلا عن عدم خبرتها بالعمل السياسي، فلم تر ضرورة الالتزام بتوصيات الحركة، لذلك عبروا بشيء من التلقائية والسطحية عن كثير من المواقف التقليدية والمحافظة، التي من شأنها أن تثير غبارا كثيفا علي المواقف التي أعلنتها حركة النهضة في مثل هذه القضايا الساخنة في تونس وأعادت إلي السطح في شيء من الحدة مسألة الأزدواجية في الخطاب الإسلامي، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا المهمة «الحريات العامة، المجتمع المدني، الديمقراطية وحقوق الإنسان، مسألة المرأة» الأمر الذي دفع بالشيخ راشد الغنوشي إلي القول أن ما ورد علي لسان بعض مرشحي القوائم المستقلة لا يلزم الحركة بشيء. وهكذا كرست الانتخابات الاشتراعية استقطابا ثنائيا حادا، فهناك حزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» الحاكم الذي حصل علي 80% من الأصوات وفاز بكامل مقاعد البرلمان وعددها 141 مقعدا، وهناك القوائم التي أيدها الإسلاميون والتي حصلت علي 17 %، ووصلت إلي 30 % من أصوات الناخبين في بعض المدن الكبري، كما أثبتت ذلك الأرقام الرسمية ، في حين أن ماحصلت عليه القوائم الإسلامية شبه الرسمية كان أكبرها في الواقع. ومنذئذ، أصبح الوضع السياسي الناتج عنها مستقطبا في ظل نظام ذي قطبين، بوجود هذه الثنائية: السلطة وحزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» الحاكم الذي أصبح أكثر قوة، وسيطرة في الوقت عينه علي مجمل المؤسسات الحكومية من جهة، وحركة النهضة من جهة أخري، وبقيت المعركة محدودة بين هذين الخصمين ، الأول يساند الحكومة في مجمل خياراتها بإطلاقية، والثانية تخوض معركة الاعتراف بها كحزب سياسي ، وبالتالي معركة التناوب علي الحكم إن لم نقل حسم موضوع السلطة. ولما كانت البنية السياسية للنظام ذات طبيعة شمولية، والشكل السياسي للديمقراطية الذي حددها، لا يفسح المجال أمام إمكانية المعارضة الحالية التناوب السلمي علي السلطة، وبالتالي أن تتحمل مسئوليات هذا الحكم، فإن السلطة اختارت طريق عدم اشراك حركة النهضة في العملية الديمقراطية، وبالتالي عدم الاعتراف بها كشريك سياسي آخر في هذا الاستقطاب السياسي الحاد. وكان خطاب الرئيس بن علي في يوليو 1989 واضحا حين قال إنه «لا مجال للاعتراف بحزب ديني» لقناعته بأن حركة النهضة لا تتجادل مثل بقية المعارضات الأخري المندمجة في عالم السلطة، ولا تتقبل بقاعدة اللعبة السياسية للمسار الديمقراطي بتحديد أحادي الجانب أي من جانب السلطة فقط، الذي يتيح لجميع المعارضات البقاء ، ولكن دون المشاركة السياسية في الحكم، الأمر الذي يعزز قوة النظام الحالي. المحاسبة الأخيرة كيف يقيم الشيخ راشد الغنوشي تجربة الانتخابات الاشتراعية في 2 ابريل 1989، والتي لم تلتزم فيها القوائم المستقلة من حركة النهضة بخطها؟ المحاسبة الأخيرة كشفت أن هناك أخطاء، وانزلاقات أعطت فرصة للخصم في أن يستخدمها لضرب الحركة، ومن ذلك الحدث الانتخابي سنة 1989، كانت الحركة واعية بموازين القوي القائمة، وواعية أنه ليس من مصلحتها ولا من قدرتها أن تغير تلك الموازين في ذلك الوقت، ومن ثم كان ينبغي أن تدخل بحجم انتخابي لا يهدد تلك الموازين .. هذا كان واضحا لدينا ولكن عند التطبيق وقع انزلاق، هذه الانتخابات كما هو معتاد في تونس لن تأتي بجديد، فإذن فلماذا لا تكون فرصة للدعوة الإسلامية، للتعرف علي الناس، لإبراز قيادات، ولكن الانتخابات ليست لعبة، هي معركة علي أغلي شيء في هذه الدنيا، في عالم الناس، الذي هو الحكم ، هي ليست لعبة، من هنا جاء هذا الانزلاق في التطبيق، وبصفة عامة أنا مقتنع أن من مصلحة أوطاننا اليوم أن تجري فيها مصالحة بين التيارات، بين الشعوب والحكام، بين الحكومات، لأن الهجمة علينا خاصة من المشروع الصهيوني شاملة وتسعي إلي تكوين التمزق في الوطن العربي والوطن الإسلامي وإغراء الجميع بقتال الجميع حتي يمكن للعصابة الصهيونية أن تسيطر علي المنطقة وتضرب بعضها ببعض . رد الفعل المناسب إذن ليس تفجير التناقضات، وإنما هو حل الخلافات وإجراء المصالحات، قد لا تكون الديمقراطية علاجا لهذا الواقع، بمعني أن الأغلبية تحكم والأقلية تعارض، لأن هذا يكون في الأوضاع المستقرة، التداول علي السلطة في شكله الطبيعي يتم في أرضية من وفاق هو داخل عائلة ثقافية، داخل مشروع مجتمعي وقع الاتفاق عليه، هنا يمكن أن تجري هذه العملية.. حكم الأغلبية ومعارضة الأقلية، لكن مجتمعنا هو بصدد البحث عن مشروعه المجتمعي، ومن هنا في هذه اللحظة التاريخية، هذه الانعطافة لا يمكن المرور بسلام ، لا يمكن التحول من حكم القبيلة وحكم العائلة والحزب الواحد والعصابة والجنرالات إلي حكم الشعب إلا عبر وفاق، وكي تتوزع فيه الحصص ليس بحسب الأحجام والأعداد، وإنما بحسب ضرورات الوفاق.. المهم أن تقاد أمتنا في مثل هذه الأوضاع بائتلافات وطنية تمثل كل التيارات وكل الأحزاب لأن أي تيار ما إن يشعر بالإقصاء حتي يرتمي في أحضان العدو، حكم الأغلبية ماذا يعني بالنسبة للأقلية الآن؟ عندما تحكم الأغلبية الإسلامية معني ذلك بالنسبة للأقلية اليسارية والشيوعية والقومية تعتبره عملية إبادة وإعدام، هذا الأمر سيدفعها إلي الارتماء في أحضان العسكر، إلي الارتماء في أحضان الصهاينة والقوي الأجنبية، فلابد من عملية تطمين.. هناك إذن تخوف من الحركة الإسلامية بأنها ستستأصل الجميع وتقصي الجميع .. مطلوب من الحركة الإسلامية أن تقنع الجميع وتطمئنهم بالسلوك وبالفكر، إلي أنها تؤمن بالتعددية، فالله خلق الناس مختلفين وديننا اعترف بالرسالات الأخري، وختم النبوة معناه خلافة الإنسان وحرية العقل في الاجتهاد، ومطلوب في هذه المرحلة أن نؤكد علي أهمية المصالحات الوطنية والوفاق الوطني، وإن الحركة الإسلامية تشعر بمسئوليتها علي الأوطان فلا تتمسك بحقها كاملا، وإنما يكفيها أن يعترف لها بالحق ولكنها تتنازل طائعة عنه فتقبل بأقل من حصتها، أظن بأن هذا حكمة بالغة في هذا الزمان، ومن هنا كان عملنا خاطئا إذ فهم منه سنة 1989، بأننا نريد أن نعتمد علي الأغلبية في الشارع من أجل أن نستولي علي السلطة رغم أن ذلك من الناحية الديمقراطية لا غبار عليه، لكن الناحية السياسية نحن غير مؤهلين أن نأخذ حصة ربما نفقدها كلها، ربما الحرص علي أن تأخذ حصتك كلها يقضي إلي أن تفقدها كلها.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.