تثير إسرائيل في عالم اليوم السخط العالمي علي تصرفاتها وجرائمها في الأراضي المحتلة، إلا أن كتابها وصناع الأفلام فيها، يقدمون في استجابة إنسانية أدبا وفنا وسينما محورها انتقاد الذات والاعتراف بجرائم إسرائيل.. هذا ما يؤكده الناقد السينمائي براين أبيل يارد الذي يبدأ حديثه في مجلة كالشر «الثقافة» التي تصدرها «صنداي تايمز» في لندن قائلا: منذ سنوات مضت، كنت في إسرائيل، وتحدثت مع الكاتب ماير شاليف وقال لي إنه بعد حرب الأيام الستة «1967» عندما احتلت إسرائيل سيناء والضفة الغربية والجولان قال لوالده إن إسرائيل لن تتمكن أبدا من هضم هذه القضمة الضخمة، وأن والده خاصمه ولم يتبادل معه كلمة طيلة ثلاثة أشهر وكطفل كنت مبهورا بهذا النصر الكبير الذي حققه الجنرال موشي ديان المتفاخر بتلك العصبة السوداء علي عينه، ولم تكن أمي قد أخبرتني أنني يهودي الديانة بعد. علي أن الكاتب الإسرائيلي ماير شاليف، وقد شارك في حرب الأيام الستة عام 1967 كان أكبر سنا وأكثر ذكاء من براين أبيل يارد وأكثر ذكاء من والده، وهكذا كان الكاتب أموس أوز، الذي تجول في المناطق المحتلة حديثا من القدسالشرقية وبخيال الروائي اختار أن يضع ذهنه في مخيلة رجل فلسطيني ورأي وحشية هذه «القضمة الضخمة» وأعلن أن إسرائيل يجب أن تنسحب وأن تصنع سلاما مع الفلسطينيين، وكانت تلك الفكرة لا تلقي ترحيبا، لكنه قال: عندما أنا وأصدقائي ندعو لحل وجود الدولتين تعين علي كثيرين منا ألا نتبادل أي أحاديث خاج كبائن التليفون. كان نصر 1967 «لعنة مقدسة» ولا تزال إسرائيل تحتل الضفة الغربية ومرتفعات الجولان، لكن صبية المدارس البريطانية لا يرون الاحتلال نصرا ومعظم الصبية والشباب الذين قابلتهم والحديث لبراين أبيل يارد يرون إسرائيل مجرمة وتمارس المزيد من العنف والاضطهاد، ويلقون اللوم علي الحليفة الدائمة وهي أمريكا وعلي إنجلترا أيضا. ولقد قال ديان مرة: حلفاؤنا الأمريكيون يعطوننا المال والسلاح والنصيحة وينطبق هذا القول علي الجميع حتي أوباما وبايدن، ولكن ديان يكمل: نحن نأخذ المال ونأخذ السلاح لكننا لا نأخذ النصائح. حتي نهاية الأرض ورغم كل ما يحدث، ففي الداخل الإسرائيلي يتزايد السخط بين الكتاب والمثقفين وصناع السينما، ويتصاعد بينهم الشعور بالذنب وتعذيب الضمير وينعكس هذا في أعمالهم ونتاجهم الثقافي والفني.. وآخر نموذج لهذا الاختبار النفسي الإسرائيلي، رواية في 600 صفحة بعنوان «حتي آخر الأرض» كتبها ديفيد جروسمان وترجمتها عن العبرية إلي الإنجليزية جيسكا كوهن. بطلة جروسمان تدعي «أورا» زوجة افشرام تتجول في شمال إسرائيل مع والد طفلها لموفر التي كان علي وشك أن تحتفل بانتهاء خدمته كجندي. ولكن بلا تحذير يرسلونه ليقاتل لأنه يريد أن يصبح جزءا من عملية كبيرة.. وبتجوالها في الجليل وبعدم إمكانية الوصول إليها لا يخبرها أحد أن ابنها لموفر قد قتل وقد تجعلك هذه القصة تشعر بأنك تتعرف علي كل شيء لكنه كل شيء عن إسرائيل وبإحساس ذاتي بعدم الأمان والتمسك بالحياة.. الديالوج الرائع في محاولة جروسمان دفن الكتاب في أرض إسرائيل. وفي موقف ما تلجأ أورا إلي دفن وجهها في الأرض في محاولة لأن تصبح جزءا من الأرض التي اغتصبتها إسرائيل، أكثر من هذا أن جولات أوراتتسم بالجنون في وطن خلق وبقي بحروب وحشية مجنونة. سينما النقد الذاتي والإدانة وما ذهب إليه جروسمان في رواية «حتي آخر الأرض» سبقته إليه السينما الإسرائيلية في سلسلة من الأفلام التي تنتقد وتدين السياسة الإسرائيلية مثل فيلم آري فولمان «رقصة الفالس مع بشير» الذي يحكي عن الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982، ويتحدث عن مجازر «صبرا وشاتيلا» ومصرع ثلاثة آلاف فلسطيني علي أيدي بشير الجميل وبالتعاون مع الجيش الإسرائيلي.. وفيلم إسكندر قبطي، المخرج العربي الذي يعيش «اجامي» الذي يصف الحياة في يافا التي تتسم بالعنف وانعدام الأمل، وفيلم صامويل مواز «لبنان» الذي تدور أحداثه أيضا في الحرب اللبنانية، ومعظم هذه الأفلام صورت من برج دبابة، حيث المنطقة خارجها منطقة رعب وخوف، حيث يرغب كل فرد يقترب من هذه الدبابة في قتل طاقمها.. والدبابة رمز واضح لإسرائيل وأفلام أخري كثيرة تنتقد الحياة الآن في إسرائيل مثل فيلم «آشبيبيزان» «عيون مفتوحة علي اتساع» والفيلم الناطق باللغة العربية «الجنة الآن». طفلة في ملجأ أيتام القدس علي أن الطفرة الكبري أحدثها المخرج جوليان شانزبيل ميرال في الدورة الأخيرة من مهرجان فينسيا السينمائي الدولي. كان ميرال قد كسب لنفسه مكانة عالمية بين صناع الأفلام عام 2007 عندما قدم فيلمه «الجرس والفراشة» عن قصة الصحفي جان دومنيك بولي رئيس تحرير إحدي المجلات الفرنسية الذي أصابته صاعقة شلت جسده تماما ولم يبق غير عينين يحركهما ليعبر عما في نفسه. فيلم ميرال الذي عرض في دورة مهرجان فينسيا الأخير أعطي بطولته للنجمين العالميين فانيسا ريدجريف ووليم دافو والممثلة الهندية فرايدا بنتو «المليونير المتشرد» الفيلم يحكي قصة طفلة فلسطينية تربت في ملجأ يهودي في القدس وكبرت وهي لا تعرف شيئا عن أهلها أو العالم الخارجي.. تصل إلي سن السابعة عشرة وتكتشف الحقيقة عن أهلها، ومرة ثانية تحاكم إسرائيل علي تصرفاتها حيال الفلسطينيين.. ومرة ثانية تصبح إسرائيل مجرمة. أكثر من هذا أن الصراع شيء مفزع للمثقفين من الكتاب، الذين يعطون ثقافتهم لأهلهم في إسرائيل، لأنهم هم الذين سوف تعيش وتبقي أعمالهم، وستظل آلامهم تصيبهم في الصميم، كما حدث كجروسمان نفسه، فعندما تقرأ «إلي نهائية الأرض» تتأثر أكثر إذا عرفت أنه خلال الحرب اللبنانية عام 2006 كان هو وأوز من دعاة وقف إطلاق النار، وبعد عامين قتل ابنه بانفجار صاروخ في دبابته.