«الحراقة» هو الاسم الذي يطلقونه في الجزائر علي هؤلاء الشباب الطامعين في الهجرة غير الشرعية إلي السواحل الأوروبية.. ولو كلفهم ذلك حياتهم .. إنهم يضعون «آمالهم» كلها في مستقبل يحلمون به في «محرقة» هائلة .. يتصاعد دخانها حتي السماء.. وغالبا ما تتبخر دون أن تسقط مطرا. وحسب الاحصائيات التي أجرتها مؤسسات دولية مختصة .. يتصاعد هؤلاء الحالمون المهاجرون إلي أعداد غير مسبوقة تتجاوز الآلاف بكثير .. والغريب أنه رغم فشل 85% من هذه المحاولات وعودة أصحابها بائسين إلي البلاد التي حاولوا الهرب منها.. أو زجهم في السجون أو غرقهم في البحر، فإن العدد يزداد عاما بعد عام .. وبشكل ملفت للنظر.. وتاركا أسئلة كثيرة تمس النظام السياسي والاجتماعي القائم.. ويوجه النور إلي شروط الحياة المعقدة التي تسود بلاد شمال أفريقيا .. من مصر وحتي الجزائر. الأسباب والنتائج هذا الموضوع الحار كان لابد له أن يثير انتباه مخرج جزائري كبير كمرزان علواش .. فيقرر أن يصنع فيلما عنه.. يركز فيه علي الأسباب والنتائج .. ويختار شرائح مختلفة من المجتمع تخوض هذه التجربة الخطرة والمثيرة للأمل واليأس معا.. حاذيا حذو عدد من المخرجين الأوروبيين الذين عالجوا موضوع الهجرة غير الشرعية ولكن هذه المرة .. من البلدان التي كانت واقعة تحت وطأة الحكم الاشتراكي كرومانيا وبلغاريا والمجر وغيرها .. نحو بلاد أوروبية متقدمة.. تمثل بالنسبة إليهم الحلم المرجو رغم أنه بعيد المنال كما تمثل البلاد الساحلية في أوروبا الأمل بالنسبة لشباب شمال أفريقيا. حتي أن مخرجا فرنسيا كبيرا اشتهر باهتمامه البالغ بالقضايا السياسية والاجتماعية الحارقة «ككوستا جافراس».. خصص واحدا من آخر أفلامه ليعالج هذا الموضوع بشاعرية حلوة يختلط فيها الواقع المرير بالابتسامة المجهضة من خلال شاب من الشرق الأوسط ( لم يحدد بالضبط هويته) ينجح في الوصول إلي شاطئ الأحلام .. دون أن تمسك به شرطة السواحل .. والمصير والمستقبل اللذان يواجهانه في بلد الأحلام الذي يطلق عليه اسم «جنة عدن» بعد أن نجح في اجتياز الحاجز الأول. قسوة بالغة مرزان علواش يبدأ فيلمه البديع الذي أطلق عليه اسم «الحراقة» بمشهد بالغ القسوة .. هو مشهد انتحار شاب في مقتبل العمر.. في كوخ مهجور علي الساحل إثر فشله أكثر من مرة في تخطي الحواجز .. وعبور البحر نحو مدن الأحلام التي تشكل بالنسبة إليه المنفذ الوحيد من جحيم الحياة التي يعيشها في بلده. علواش استعان في فيلمه هذا بمجموعة كبيرة من الفنانين الأوروبيين، مصورين ومونتيرين وموسيقيين ليعطي فيلمه طابعا عالميا.. يستحق هذا الموضوع المهم الذي يعالجه.. بينما حرص كل الحرص علي أن يلعب جميع الأدوار في فيمله ممثلون جزائريون .. مما أعطي الفيلم طابعا حقيقيا مدهشا .. تمثل في المشاهد الأولي من الفيلم التي تدور في شوارع الجزائر .. والتي قدمها المخرج بحساسية وذكاء فائقين قبل أن يدخل إلي صلب موضوعه .. ليصور كيف تبدأ رحلة الحلم .. وكيف تنتهي بكابوس لا مثيل لسواده وقسوته. نحن أمام ثلاثة أصدقاء يملكون ثقافة فرنسية ويعيشون في مجتمع متطور إلي حد ما.. ولكنهم يحلمون بتحقيق أحلامهم الكبري في بلد «متمدن» كفرنسا أو إسبانيا بعيدا عن البؤس والبطالة والفقر الذي يسيطر علي أرجاء بلدهم .. أحدهم «رشيد» علي علاقة بفتاة جزائرية متعلمة .. تبدو أكثر ثورة وغضبا منهم تكره القمع الاجتماعي والسجن الذي تعيش بين قضبانه وتطمع في حرية أخري .. في بلاد أخري. لذلك ما إن تعرف بنية حبيبها «رشيد» في السفر خلسة في قارب صغير إلي إسبانيا.. حتي تصر علي مرافقته ولو كلفها ذلك حياتها ودمر مستقبلها كله. هذه الفتاة هي العنصر النسائي الوحيد الذي يقدمه علواش في فيلمه ولكنه يقدمه بصورة رائعة تغنينا عن أي شخصية نسائية أخري لأنه جمع فيها كل ثورات الغضب والتحدي والجرأة التي تكمن داخل الفتاة الجزائرية الطموحة. خطوات تنفيذية الفيلم يرينا.. الخطوات التنفيذية التي يقوم بها الشباب الثلاثة لتأمين رحلتهم البحرية ذات المصير المجهول معتمدين علي «رجل» مريب إلي حد ما اختص في هذه العمليات التي يستغل فيها أحلام هؤلاء الشباب.. ويحولها إلي مبالغ كبيرة من المال يستقطعونها من أموال اسرهم ومن أرواحهم ومن كل ما ادخروه في حياتهم.. يدفعونها صاغرين مقابل أن يهيئ لهم هذا الرجل «حسين» المركب الصغير والمكان الذي ينطلقون منه إلي البحر.. ومن ثم إلي الشواطئ المرجوة التي يحلمون بها. كل هذا يقدمه لنا الفيلم بواقعية أخاذة ومن خلال إيقاع لاهث لا يهدأ.. ولكن من خلال هذه التحضيرات كلها.. لا يكف المخرج من خلال سيناريو بارع عن رسم معالم هذه الشخصيات والتأكيد علي المحيط الاجتماعي الذي خرجت منه .. وأجواء اليأس والبطالة والفقر والتي تسيطر علي الأحياء الفقيرة التي يعيشون بها.. كل ذلك دون أن تفقد هذه التفاصيل الشديدة الواقعية جزءاً من الشاعرية المفرطة التي يلقي بها المخرج نظرته علي ما يحيط به من شخوص وأمكنة وأحداث. «حسن» الوسيط هذا ينجح في تأمين قارب صغير يمكنه أن يحمل عشرة أشخاص وينجح الأشخاص العشرة ومن ضمنهم طبعا الشبان الثلاثة الذين لم يوقفهم انتحار صديقهم الذي ابتدأ به الفيلم وصديقة رشيد التي نجحت أخيرا في تحدي اسرتها وأن تركب مسالك الخطر مع الرجل الذي أحبته والذي اختارت أن ترافقه في رحلة الحب أو الموت هذه. كوخ منعزل «حسن» يأخذ مجموعته الصغيرة ويأويهم جميعا في كوخ منعزل .. قبل أن يأخذهم من جديد إلي المنطقة الساحلية التي سينطلقون منها.. والتي ينتظرون فيها «قارب النجاة» الذي سيقلهم إلي الجنة الموعودة. ولكن هناك سيارة صغيرة غامضة تترصد هذا الموكب السري وسرعان ما تكتشف أن قائدها .. رجل بوليس سابق يحمل مسدسا يهدد فيه الجميع.. بما فيهم حسن.. الذي يرفض مقاسمته الأموال التي جمعها من المهاجرين فيكون جزاؤه رصاصة في قلبه.. ويصبح رجل البوليس «الذي ستعرف أنه هو أيضا يحاول الهرب من جهاز بوليس لم يعد يؤمن به ولم يعد يثق بقدرته علي حماية مستقبله» واحدا من هؤلاء المهاجرين يقودهم في رحلة القارب المأساوية إلي الشواطئ الاسبانية. ولا أريد أن أصف.. تفاصيل هذه الرحلة التي يقدمها علواش بمهارة سينمائية مشهورة. قارب صغير يضم عشرة اشخاص .. يقودهم رجل بوليس بلا قلب يحمل مسدسا محشوا بالرصاص، وبحر هائج وبوصلة «صينية» الصنع تضعهم وتضيعهم في أنحاء البحر الهائج عوضا عن أن تقودهم إلي حيث سيجدون تحقق أحلامهم. موت «الرجل المتدين» الذي يوجه وحده أول ما يواجه قسوة رجل البوليس .. ثم سقوط رجل البوليس نفسه في البحر وتعطل محرك القارب الصغير في عرض البحر.. مما يدفع الرفاق الثلاثة إلي متابعة طريقهم سباحة إلي الشاطئ.. بينما يظل الباقون الذين لا يجيدون السباحة .. عالقين في عرض البحر ينتظرون أية سفينة عابرة كي تنقذهم من الموت المحقق الذي يحيط بهم وكي تعيدهم إذا نجحت من انقاذهم إلي البلاد التي أتوا منها .. ولكي تنهي بهذا الاحباط أحلامهم الصغيرة التي انتهت إلي كابوس الموت أو فقدان الأمل. وينجح الرفاق الثلاثة في السباحة إلي الشاطئ حيث يجدون حراس الشواطئ في انتظارهم.. رشيد وفتاته .. متمددان علي الرمال .. وقد انهكهما التعب .. وحرس الشواطيء يراقبونهما من أعلي تلة صغيرة وكأنهم الذئاب التي تتحين اللحظة لمهاجمة الفريسة بينما نري الشاب المفعم بالحياة .. والذي كان أقدر المجموعة علي تدبير العودة.. مقبلا بالأغلال والدموع تملأ عينيه بانتظار السجن الذي سيودع فيه ريثما يتم القرار حول مستقبله.. والقارب المعطل فارغ بين الأمواج. صرخة مدوية يطلقها المخرج الجزائري الكبير حول موضوع هو دون شك موضوع الساعة في الكثير من بلدان شمال أفريقيا.. هناك أكثر من فيلم وأكثر من مشروع في السينما المغربية والسينما التونيسية حول هذا الشأن .. كما أن السينما المصرية تعدنا هي أيضا بمعالجة هذا الموضوع بشكل مباشر وأساسي .. بعد أن عالجته «عرضا» في أفلام كثيرة دون أن يكون هو الموضوع الرئيسي. جذور القضية مرزان علواش عرف كيف ينظر إلي هذا الموضوع الأليم.. يحاول أن يبحث عن جذوره .. عن الأسباب التي تدعو شبابا في عمر الورود إلي التضحية بحياتهم في سبيل حلم يعرفون أنه لن يتحقق إلا بنسبة 2% .. وهذه الفتاة التي وضعت مستقبلها وسمعتها وشرف عائلتها في الميزان كي تخرق جدران السجن الاجتماعي الرهيب الذي يحيط بها «وقد أدت الممثلة الجزائريةالشابة هذا الدور بقدرة متميزة وبعفوية وإخلاص مشهودين». جميع الممثلين دون استثناء خرجوا علينا من صلب الواقع .. نظراتهم.. حركاتهم.. ما يدور في أعماقهم من خلجات وأحلام .. كل ذلك عرف علواش كيف يرصده وكيف يقدمه من خلال سينما متطورة ذات مستوي أوروبي مرموق. صدور محترقة هل ينتمي «الحراقة» إلي أسلوب الواقعية.. أم أسلوب الواقعية الشعرية .. إن أسلوب الرواية التسجيلية يمكننا أن نضعه في أي من هذه الصفات ولكنه أولا وقبل كل شيء.. فيلم صادر من القلب.. تخر منه قطرات الدم.. التي تختلط بالدمع والآهات .. والتي تنطلق من صدور حزينة محترقة لتذهب دون صدي .. أمام أمواج هذا البحر الهادئ القاسي الظالم.. الذي يفتح «فمه» ليبتلع الأحلام الصغيرة كلها .. ثم يتركها ركاما محطما علي الرمال.. كهذين العاشقين الممددين علي الشاطئ مغمضي العينين بينما تترصدهما الذئاب علي التلة القريبة.. متحينة فرصة الانقضاض.