واقعة تكررت كثيراً عبر التاريخ و ما زالت تتكرر و ستظل … أكاد أجزم أنها حدثت معى و معك أنت شخصياً… "سيرجى رحمانينوف" لمن لا يعرفه هو أحد أهم الموسيقيين الروس و أحد أكبر أعلام الموسيقى الكلاسيكية على مر العصور. ولد رحمانينوف عام 1873 فى قرية صغيرة فى شمال غرب روسيا لأب موسيقى بسيط. فى عيد ميلاده الرابع أهدته أمه بيانو صغير. إلتقط جده موهبته و أحس بها فأحضر له معلمة موسيقى خاصة من مدينة سان بيترزبرج و هو فى التاسعة من عمره. توالت عيه العديد من المآسى منذ الصغر فأفلست عائلته و هرب والده و توفيت شقيقته الكبرى و فشل فى دراسته! قرر دراسة البيانو فى موسكو فنجح بامتياز، فكان الدرس الأول فى حياته. الفشل فى الدراسة لا يعنى بالقطع الفشل فى الحياة، بل معناه أنك قد تنجح و تتفوق و تتألق فى مجال آخر… فى عام 1896 و فى سن الثالثة و العشرين ألف رحمانينوف سيمفونيته الأولى إلا أن النقاد إستقبلوها بالإستهجان و الإستهزاء. أدى فشل سيمفونيته الأولى بالإضافة لفشله من الزواج من حبيبته و إبنه عمه (نتيجة رفض أهلها) لدخوله فى حالة إكتئاب رفض خلالها كتابة أى موسيقى لثلاث سنوات. بل أنه قبل وظيفة بإحدى الشركات ليستطيع أن يكسب بعض المال. و صارت أحلامه الموسيقية و ثقته فى نفسه على حافة الهاوية حتى حدثت له تلك الواقعة العجيبة… فى يناير عام 1900 تلقى رحمانينوف دعوة عظيمة لا ترفض لزيارة منزل الكاتب الروسى و الروائى المعروف "تولستوى" مؤلف الروايات الخالدة "أنا كارنينا" و "الحرب و السلام" و غيرها. و كان تولستوى فى ذلك الوقت روائياً عظيماً فى الثانية و السبعين من عمره. و كان منزله مقصد الفنانين و الكتاب و الصحفيين و الموسيقيين. كاد رحمانينوف أن يطير من الفرح حين علم أنه سيقابل تولستوى شخصياً. فقد كان رحمانينوف من أشد المعجبين بكتب تولستوى و لطالما حلم بأن يراه … و فى منزل تولستوى عزف رحمانينوف جزءاً من سيمفونيته للحاضرين و أعقب ذلك قام بعزف لحن مأخوذ من موسيقى بيتهوفن. و طلب تولستوى الحديث مع رحمانينوف على إنفراد فإنشرحت نفس الموسيقى الشاب و طار فرحا فإذا بالأديب الكبير يقول له… -ما هذه الموسيقى السخيفة التى لعبتها؟ لقد مضى عصر هذه الموسيقى للأبد…من الذى كتب هذه الموسيقى؟ -المقطوعة الأولى لى و الثانية مأخوذة من بيتهوفن… -بالنسبة لى فبيتهوفن لا يساوى عندى أى شئ و لا أحب أن أسمع موسيقاه…أنا آسف و لكن لم يعجبنى شيئاً مما سمعته منك… إنكسر الموسيقى الشاب و زادت همومه.. و قبل أن يستأذن و ينصرف من الحفل دعاه تولستوى مرة أخرى على إنفراد … -أنا آسف، أرجو ألا أكون قد جرحتك بكلماتى، أرجو ألا تشعر بالحزن مما قلته لك… فرد عليه رحمانينوف ضاحكاً بمرارة: -كيف أحزن منك أو مما قلته عنى، لو حزنت لكنت حزنت على رأيك فى بيتهوفن أما أنا فمن أنا لأحزن على نفسى… و غادر رحمانينوف المنزل و لم تغادر كلمات الأديب أذنيه. كان صغيراً فى السابعة و العشرين من عمره و كأن الدنيا كلها وقفت ضده. حتى كلمة التشجيع البسيطة لم يجدها من الكاتب الذى ظل يحلم سنوات بلقاؤه… و كأن كلمات الأديب إستفزته، و فجأة نهض رحمانينوف متحدياً العالم و متحدياً آلامه و إحباطاته و بدأ من جديد. عاد للبيانو و بدأ الكتابة و بعد سنة واحدة فقط خرج للعالم برائعته الخالدة " كونشرتو البيانو رقم 2". و كانت هذه المؤلفة من أعظم مؤلفات البيانو فى تاريخ الموسيقى الكلاسيكية و من أكثر القطع الموسيقية شهرة حتى هذه اللحظة. و على الرغم من الطابع الحزين للموسيقى إلا أنها نجحت نجاحاً باهراً تخطى حدود الزمان و المكان. فسمع العالم كله حتى أمريكا عن هذا الموسيقار الشاب و سيمفونيته الحزينة الخالدة… و توالت بعدها المقطوعات و النجاحات… الجدير بالذكر أنه من قوة و روعة هذه الموسيقى ففى عام 1975 و بعد عشرات السنين من وفاة رحمانينوف فقد إقتبس موسيقى شاب آخر فى ذلك الوقت هو "إريك كارمن" جملة موسيقية واحدة من سيمفونية رحمانينوف و ألف أغنية صارت هى الأشهر و الأكثر شعبية فى كل محطات الراديو العالمية إلى يومنا هذا و هى أغنية " All By Myself" و التى أعيدت كثيراً بأصوات العديد من المطربين العالميين (إريك كارمن- فرانك سينترا- سيلين ديون- إل ديفو…و غيرهم)… كم مرة سمعت من يتهمك بالفشل؟ كم مرة أحسست بالإحباط من أقرب الناس إلى قلبك؟ لقد جاءت الطعنة للموسيقار الشاب من الشخص الذى عاش سنوات يحلم بأن يراه… لقد فقد رحمانينوف كل أسباب النجاح و لم يبق معه إلا نفسه.. إيمانه و ثقته بموهبته و بنفسه جعلته ينهض و يصم أذنيه عن النقد و الهدم و الإحباط و كأنه يتحدى العالم كله من حوله… و ينتصر إنتصاراً ساحقاً… للتواصل مع الكاتب: www.facebook.com/Amr.Hussein.Page