كتبت سحر النادى جاء في خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن أهم الموارد غير المستغلة في المنطقة العربية هي الموارد البشرية. ولا أخفيكم أنني حزنت حينما قال ذلك، ليس لأنني لا أتفق معه فيما ذهب إليه، ولكن لأنني كنت أود أن أسبقه في لفت النظر لهذا الموضوع الهام الذي أثرته مرات عديدة في محاضراتي، ولكن ما باليد حيلة، أوباما سبقني وأمري إلي الله. والحقيقة أن النظر للإنسان المصرى باعتباره من أهم موارد الدولة مفهوم جديد علينا رغم بساطته وبديهيته، فالصين والهند وإندونيسيا وأمريكا وروسيا لا تشتكي أن مواطنيها عالة عليها يجب الخلاص منهم بأي طريقة، بل تتعامل معهم على أنهم كنز قومي يجب الاستثمار فيه والمحافظة عليه. أما النظام السابق، فكان يوبخنا بمناسبة ومن غير مناسبة لأننا عالة عليه تثقل كاهله يا ولداه، رغم ملياراته المتلتلة المهربة إلي الخارج من قوتنا وقوت أولادنا، بل بلغت الجرأة بالمخلوع أن يقلب يديه المرفهتين في كل خطاب قائلا بمسكنة "مش عارف ح أكلكوا منين؟"، ويعايرنا باستمرار بعددنا و"ينصحنا نصيحة أبوية" -باللين حينا وبالشدة والقمع أحيانا- أن من مصلحتنا أن "نقطع الخلف خالص" ونتفرج على الكورة والمسلسلات والفيديوكليبات أحسن لنا. ولما لم نستجب بالذوق، تولى النظام -كتر خيره- قطع خلفنا بمعرفته، بتصعيب الزواج حتى صار مشروعا مستحيلا، وبالمبيدات والملوثات والمسرطنات في كل ما حولنا، وبالممارسات "الرومانسية" في الأقسام والمعتقلات. ولو كان فينا بعد كل ذلك من أفلت من هذه المنظومة الجهنمية وتجرأ وتزوج ثم تجرأ وخلف عيال، فالتطعيم المنتهي الصلاحية والحليب الملوث والتخلف في برامج الأطفال ومناهج الدراسة غير الصالحة للاستهلاك الآدمي في انتظار فلذات أكباد الحكومة المخلوعة، التي تسلمهم بعد ذلك بالسلامة لصناع مسلسلات الأمراض النفسية والاجتماعية وفضائيات العري والابتذال وأخلاقيات الشوارع ليكملوا على البقية الباقية من آدميتهم. ولهذا لم يكن أحد يتخيل أن تقوم لجثة هذا الشعب المسكين قائمة، ولكن الله الذي يحي العظام وهي رميم نفخ فيها الروح فقامت وصرخت وطالبت باسترداد كرامتها المنتهكة، ثم يا للعجب... نجحت فيما طالبت به! ما حدث في التحرير كتب شهادة ميلاد الإنسان المصري الجديد الذي هو الآن بدون منازع أهم موارد مصر. أهم من البترول والغاز وقناة السويس والزراعة والصناعة، لأن كل هذه الأنشطة لا قيمة لها لو لم يُدرها إنسان وطني حر ومتعلم، نفس العملاق الذي قام بالثورة ونجح في امتحان التحضر بجدارة في ميدان التحرير. كلنا كنا فخورين إننا وقفنا تحت لافتة "الشعب يريد إسقاط النظام"، ويجب أن ننتبه أن هذه الكلمات القليلة فيها مفهومين عظيمين هما عنوان التغيير الذي طرأ علينا كأفراد : - أولا "الشعب يريد" في حد ذاته إنجاز لأن الشعب كان يُعتبر لا مطالب له غير لقمة العيش، وكان مفترضا أننا لن نتفق على أي مطلب جماعي بسبب الخوف والجوع والجهل والفقر والمرض، ولكننا اتفقنا ونفذنا ونجحنا رغم كل هذه المعوقات المهولة. - أما الجزء الثاني من الجملة السحرية :"إسقاط النظام" فهو رمز لإسقاط حاجز الخوف من "العدو الذي لا يقهر" بحيث عَبَر الشعب المصري السد المنيع للمرة الثانية في تاريخه لاسترداد ما اغتصب منه بالقوة، ولكنها قوة ناعمة، سلمية ومتحضرة وواعية، ولذلك كان ما أنجزته باهرا بكل المقاييس. فلأول مرة في تاريخ الثورات يتهاوى نظام حكم أمام ثورة شعبية سلمية، ولأول مرة نرى النظام بأكمله خلف القضبان قيد المحاكمة (بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع سرعة الإجراءات وحسمها)، ففيما يسمى تجاوزا ب"ثورة" يوليو لم يكن للشعب دور يذكر غير قبول الواقع الجديد، حيث قام الجيش بالمطلوب وذهب الملك لحال سبيله دون أن يحاكم أو يحاسب. أما في ثورة يناير، فقد كان الشعب هو البطل، وكل فرد فيه له دور خطير في تغيير مجريات الأحداث وتحقيق المطلب المنشود في وقت قياسي وبمنتهى التحضر. وبالتالي لأول مرة الشعب يستعيد ملكيته لبلده ويستعيد بذلك حريته وكرامته بنفسه دون تدخل من أحد، في وقت قياسى لم يسبقنا إليه أحد، وتعجز الثورات التي أتت بعده أن تتخطاه. ومن المدهش كذلك أن حرية التعبير المطلقة أخرجت أحسن ما في الفرد المصري ولم تتحول لفوضى كما نعق المتشائمون، وهذا أكبر دليل من وجهة نظري على مدي وعي وتحضر الإنسان المصري، رغم تفشى الأمية والأمراض وتدني مستوى المعيشة والتعليم والثقافة، فما بالكم لو صقلت هذه الروح الجبارة بالتعليم والرعاية الصحية واستعادت آدميتها بمستوى معيشة يليق بها؟ لذلك "أخلاق الميدان" يجب أن تدرّس منهجيا ورسميا على مستوى قومي، بل و دولي أيضا لأنها جوهر القيم الإنسانية المحترمة التي بهرت العالم أمام هذا الوعي الفطري. وبسببها رأينا الأحرار المطالبين بحقوقهم المشروعة في مختلف دول العالم يرفعون لافتات مفادها "تظاهر بتحضر مثل المصريين"، رأينا ذلك في قلب لندن، وفي الولاياتالأمريكية المختلفة ومنها ويسكونسن وتكساس، وكذلك في الصين وكوريا، ومنذ أيام قليلة في قلب العاصمة الأسبانية مدريد، بالإضافة للثورات العربية في اليمن وليبيا وسوريا. أنت عزيزي القارئ ساهمت في إلهام كل هؤلاء الأحرار في العالم! نعم أنت. حبك الطاغي لبلدك وتصرفاتك المتحضرة في التحرير عكست هذه الصورة الحضارية عن بلدنا العظيمة، أنت بطل بدون منازع، بكل ثانية وقفت فيها في التحرير أو في ميادين مصر والعالم رافعا راية الحرية المصرية، وبكل هتاف صادق شجاع خرج من حنجرتك مدويا في وقت الخطر مطالبا بحقك وحقوق إخوانك في حياة آدمية كريمة، وبكل كلمة قلتها على الإنترنت أو لوسائل الإعلام الدولية، وبكل نقطة عرق في عمل تطوعي من أجل بلدنا. أنت كنز مصر الحقيقي لأنك خاطرت بحياتك الغالية من أجل مصر، فحافظ على هذا الكنز ونميه واصقله، واكسف الأعادي الأبعدين الذين كانوا يعتبرونك عالة وزيادة عدد، وذيولهم الذين يحاولون تلويث إنجازك الحضاري بقاذورات بلطجيتهم. ارفع رأسك عاليا رغم كل الصعاب والتحديات، فمن حقك أن تفخر بأنك مصرى متحضر منتصر حقق معجزة تاريخية. أقول هذا الكلام لأذكرك بقيمتك، وأنبهك أن لا تتأثر بما تسمع ممن يستمدون أهميتهم من الإرهاب الفكري والنعيق كالبوم بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويتبعون الأساليب القذرة القديمة للإذلال النفسي والتحطيم المعنوي، انتبه أنك هدف لمن يريدون إعادتك للشعور بالضعف والدونية واليأس والحباط كما كنت سابقا ليسهل السيطرة عليك وإعادتك إلى القمقم بعد أن تنكسر معنوياتك وترجع مرة أخري لتقول "مفيش فايدة، الثورة فشلت، لم نحقق شئ". لا يا أخي المصري العظيم ويا أختي المصرية الرائعة، بل حققتما إنجازا أسطوريا غير مسبوق، وكل ما علينا الآن أن نواصل بنفس الروح ونحمي إنجازنا ونستمر في المطالبة بحقوقنا دون أن ننسى قيمة أنفسنا وما حققناه، أو ننهزم أمام الحرب النفسية. ولا يعيبنا أو ينتقص من قدرنا أن نعترف بأوجه القصور ونعمل بجدية لترميم الشقوق وإصلاح الندوب في بنائنا الإنساني لنستطيع أن نبني مصر التي نحلم بها على أعلى مستوى... وللحديث بقية في المقال القادم... فاصل ونواصل فابقوا معنا. —– * سحر النادي مستشارة ومدربة وكاتبة متخصصة في مهارات التواصل الفعال والحوار بين الثقافات، تمتد خبرتها لأكثر من 20 عاما من المشاركة في الفعاليات الدوليةوالإعلام المرئي والمكتوب والإلكتروني. وقد قامت بتدريس العديد من البرامج التدريبية وورش العمل والمحاضرات للجماهير متعددة الجنسيات في 25 بلدا حول العالمواستضافتها وسائل الإعلام الدولية وظهرت على أغلفة مجلات أوروبية كنموذج للمرأة القائدة وتم اختيارها من بين القيادات النسائية في العالم من جامعة سانتا كلارابكاليفورنيا