والدي العزيز المهندس نبيل المصري .. يخطو الآن نحو ال 65 من العمر .. قضى منها 25 سنةً مهندساً زراعياً بالسعودية .. قدم في تجربة عمره العامر المنجزات الكثيرة التي تند عن الحصر .. لكنه يعدُّ لحظات السعادة في عمره على أصابع يديه بالكاد .. يتكرر منها دائما وقوفه في حضرة الذكر بين إخوته وأحبابه أبناء الطريقة الحامدية الشاذلية .. أما ما لا يتكرر كما يقول فهي لحظة عبوره من الضفة الغربية لقناة السويس إلى الضفة الشرقية .. في تمام الثانية ظهراً يوم السادس من أكتوبر المجيد .. لا يزال يذكر كل التفاصيل وكأنها آتيةٌ من الحلم .. ولا ينسى أبداً أنه عبر هذه القناة كثيراً قبل هذا اليوم حيث كانوا يرفعون نقاط وإحداثيات في عمليات اختراق منظمة لخطوط العدو قبل يوم العبور .. فقد كان رقيباً أول بسلاح المخابرات الحربية والاستطلاع .. يتذكر النكات والقفشات وخفة دم المصريين في قلب الشدائد .. يتذكر مقاتلاً كان مسئولا عن مياه التعيين (الشرب) نفق حمار عربة المياه (العهدة) منه يوم العبور وكيف تبرعوا له بثمنه حتى لا يتعرض للعقاب .. يتذكر سقوط رشاش أحد المقاتلين في القناة لحظة العبور وإصراره على الغوص لانتشاله رغم القصف والنابالم؛ لأن كرامة الجندي في سلاحه .. يتذكر الفريق أبو سعده والرسالة السرية التي سلمها له على الجبهة وهو يقف بين ضباط السلاح الذين انبطحوا لتأمين رؤوسهم بينما هو يقف شامخا كطودٍ عظيم .. يتذكر الاجتماع داخل الخنادق وكتابة الرسائل على ضوء اشتعال السجائر .. يتذكر قيمة الحياة والتضحية وعدم خشية الموت ويسميها أخلاق الرجال .. يتذكر الضباب الذي نزل بمدد إلهي صبيحة يومي 4 و 5 أكتوبر وهم ينقلون المعدات إلى خط المواجهة والذي ما يلبث أن ينقشع بعد انتهاء المهمات بوقتٍ قليل .. يتذكر الجود والعطاء واقتسام اللقمة الاجتماع في دائرة ضيقة ووضع كل السجائر في منتصفها ليتشاركها الجميع فكيف يدخر من لا ينتظر الغد؟! يتذكر الشمس وهتاف الله أكبر وهو يذيب الساتر الترابي ويزلزل خط بارليف .. يتذكر صعوداً من اللهفة ببيادةٍ تخففت من الهزيمة والخوف وأتقنت الفرح والانتصار .. يتذكر صديقه السكندري الضخم الذي كان يغطيهم بجسده في الخندق ويقول: (علشان لو القنبلة نزلت ما نموتش كلنا) وصديقه القبطي الذي كان يقول له مذكِّرا كلما اشتد قصف الجسر الجوي الأمريكي: (اقرأ الفاتحة يا نبيل) .. يتذكر السادات وتدمع عيناه كلما سمع خطاب النصر .. يتذكر الرمل الذي كانوا يفرغونه من جيوبهم واللحاق بالقطار الحربي وأول أجازة بعد العبور .. يتذكر أمهات الشهداء في قريتنا وحيرته هو وزملاءه (ماذا سنقول لهن) والزغاريد التي تنطلق من بيوتهن ممزوجةً بحشرجة الدموع بعد معرفة نبأ استشهاد أبنائهن .. يتذكر كثيراً أشياء لا ينساها ولن ننساها .. تحيةَ كرامة أيها البطل العابر بالوطن .. تحية إجلال لذاكرتك وبطولتك .. وإلى الواهمين المضيعين لسيناء برعونتهم .. تأكدوا أني لن أضيع خطو أبي على أرضها وعرقه الذي سقى به رملها ودماءه التي سالت فداءً لعودتها .. وأنا شوكت نبيل المصري ابن الجندي مقاتل رقيب أول نبيل عباس المصري سلاح المخابرات الحربية والاستطلاع