يقول الكاتب الكبير والمفكر العظيم فهمى هويدى عندي أكثر من إجابة على من سألني: لماذا لم تعلق على قيام خطيب أحد مساجد الإسكندرية بالدعاء من فوق المنبر على الليبراليين والعلمانيين؟.. الأولى أنني لست مطالبا ولا مضطرا للتعليق على كل ما يصدر عن المنسوبين إلى التيار الإسلامي. إذ ليست لي صفة في ذلك التيار تدعوني إلى تتبع ما يصدر عنه وتقييمه.
الثانية أن الكلام صدر عن فرد، لا هو حزب ولا هو مؤسسة، وإذا أعطى حجمه من هذه الزاوية، فقد تجد أنه من قبيل الانفعالات التي يعبر عنها آحاد الأفراد في كل اتجاه،
بالتالي فلا ينبغي النفخ فيه وتحويله إلى ظاهرة في المجتمع. ولو فعلنا ذلك لغرقنا في بحر الملاحظات الفردية، ولما أتيح لنا أن ننصرف إلى أي قضية رئيسية في البلد. إجابتي الثالثة أننا لا ينبغي أن نشغل الرأي العام بما لا يحتل أي موقع في سلم أولوياته. والليبراليون والعلمانيون يظلون شريحة محدودة بين المثقفين، وأغلب المعارك التي يخوضونها بعيدة عن اهتمامات الناس. وإذا كان حضورهم قويا في وسائل الإعلام فذلك لا يعني أن لهم ذات الحضور في الشارع. الإجابة الرابعة أنني أنتمي إلى مدرسة فكرية ترى أن تجويد الأداء أنجع وسيلة لهزيمة الخصوم إذا كان لابد من منازلتهم، ولطالما قلت إن من لا يعجبه شيء فينبغي ألا يسارع إلى هدمه، ولكن يتعين عليه أن يقدم للناس ما هو أفضل منه. وإن المسلمين لن يتقدموا فقط إذا ما أنزل الله غضبه بأعدائهم، ولكنهم سوف يتقدمون إذا ما أخذوا بالأسباب وقدموا نموذجا يفوق ما يقدمه أعداؤهم . وأضع أكثر من خط تحت كلمة «أعدائهم»، لأن الأعداء غير المخالفين.
إذ ليس كل مخالف عدوا، وثقافتنا ترى الاختلاف بين الناس من سُنن الله في الكون، وأنه يعبر عن الإرادة والحكمة الإلهية. وهذا الكلام ليس من عندي، لكنه مقتبس من نصوص قرآنية صريحة عالجت الموضوع في أكثر من موضع. والتعامل مع المخالفين يقدم على قاعدة «البر والقسط» بأمر القرآن ونصه. أما الذين يهددون أمن المسلمين ويفتنونهم في دينهم فلهم حساب آخر. الإجابة الخامسة أني أتمنى أن تقوم منابر المساجد بدورها فيما ينفع الناس ويستخلص منهم أفضل ما فيهم. إلا أنني أتفهم موقف الخطيب الذي أنزل جام غضبه على العلمانيين والليبراليين، ورغم أنني لا أعرف الرجل لكنني أتصوره واحدا من الذين يهانون ويشهَّر بهم ويشار إليهم بمختلف عبارات التحقير والازدراء من جانب أغلب المثقفين الليبراليين والعلمانيين.
وإذا كان هؤلاء قد وظفوا المنابر الإعلامية لهذه المهمة طوال السنوات التي خلت. فقد نعذر خطيب أي مسجد إذا ما اعتلى بدوره منبرا وتوجه إلى الله بالدعاء على الفريق الآخر. مستخدما نفس السلاح الذي يوظفه الآخرون، مع اختلاف الوجهة بطبيعة الحال. علما بأن الأولين جيش منتشر على ما لا حصر له من المنابر الإعلامية، في حين أن من انبرى من الآخرين كان واحدا فقط فيما نعلم.
ليس عندي دفاع عما فعله خطيب المسجد، لكنني وقد تمنيت أن يقابل السيئة بالحسنة كما يفعل أهل الكرم. أتفهم موقفه وقلة حيلته، ولجوءه إلى مقابلة السيئة بسيئة مثلها سيرا على نهج أهل العدل. الإجابة السادسة أننا إذا أردنا أن نستخلص عبرة من الفعل ورد الفعل، فهي أننا رغم إلحاحنا طوال السنوات الأخيرة على ضرورة القبول بالآخر واحترامه، فإن هذه القيمة لا تزال غائبة في علاقة الليبراليين والعلمانيين بالإسلاميين.
إذ صار إقصاء الآخر وإساءة الظن به هو الأصل في تلك العلاقة.
ورغم أن ذلك حاصل بين غلاة الجانبين، إلا أننا لابد أن نعترف أن نسبة عالية من معتدلي الليبراليين والعلمانيين صارت أقرب إلى موقف الغلاة.
وإذا كان المعتدلون بين الإسلاميين قد تفهموا موقف نظرائهم من الطرف الآخر وأبدوا استعدادا مشهودا لتأسيس علاقة قائمة على الفهم والتفاهم معهم، إلا أن تلك البادرة لم يرحب بها، وتجلى ذلك بصورة أوضح خلال الأشهر التي أعقبت إعلان نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية، التي بلغ فيها الاستقطاب والتقاطع أشده بين الجانبين.
الأمر الذي انتكست في ظله جهود التواصل بينهما. وهو ما دفع العديد من رموز الاعتدال الإسلامي إلى العزوف عن مواصلة تلك الجهود، باعتبار أنها لم تعد ذات جدوى تذكر.
وعن نفسي فقد اعتذرت مؤخرا عن إدارة حوار بين الطرفين لهذا السبب، اقتناعا مني بأن فرص نجاحه ليست متوافرة في الوقت الراهن